صلاح شحادة:المارد الذي أغاظ الأعداء

صلاح شحادة:المارد الذي أغاظ الأعداء
د. أحمد يوسف

اليوم هو الذكرى الرابعة عشر لاستشهاد أحد رجالات المقاومة الفلسطينية، والذي كان يوم استشهاده شاهداً على وحشية الاحتلال وهمجيته، حيث قامت طائرة إسرائيلية بإلقاء قنبلة وزنها طن على المنطقة التي يسكن بها، لترتفع روحه إلى بارئها مع آخرين من النساء والأطفال ، في واحدة من أبشع مجازر الاحتلال وجرائمه بحق الإنسانية.

كان الأخ الشهيد صلاح شحادة (أبو مصطفى) واحداً من صناديد الرجال في حركة حماس، وكان مقرباً للشيخ أحمد ياسين (رحمه الله)، وهو يمتلك من الكاريزما بما يجذب الشباب حوله، كما أنه في حيويته الحركية كان صاحب همة عالية، وقد منحه الله بسطة في الجسم، وطاقة في العمل، وسمتاً متميزاً في العطاء، وأخلاقاً سامية يلاحظها كل من عرفه أو عمل معه.

كان قليل الكلام، ولكن نظرات عينيه كانت تقول الكثير منه، يُحسن الاستماع لإخوانه، ويُنصت بسمت الرجال وهيبة الكبار، ولكن مجالسه لا تخلو من موقفٍ أو بصمة رأي تُحسب له.

كما منحه الله طاقة في الصبر والاحتمال أعجزت سجانيه، فلم يتمكنوا من انتزاع أيِّ معلومة منه، ولم تنجح كل وسائل التعذيب التي استخدمها المحققون في جهاز الشاباك الإسرائيلي في كسر إرادته والحصول منه على خيط لمعرفة مكان جثة الجنديين المختطفين "آفي سبارتوس، وإيلي سعدون"، كما أنهم لم يتمكنوا برغم سنوات الاعتقال الطويلة وملاحقة العملاء له خارجه من التوصل إلى المعلومات التي قد تفيد في ضرب المقاومة أو تتسبب في إضعافها.. وقد عبر لزوجته (رحمها الله) عما لحق به في السجون والمعتقلات الإسرائيلية من صنوف الأذى والتعذيب، قائلاً: "لم يَدَع جنود الاحتلال شعرة في ذقني أو صدري إلا نتفوها، حتى شككت أنه يمكن أن تنبت لي لحية مرة أخرى، واقتلعوا أظافر قدمي ويدي، ولكني والله ما شعرت بألم، ولم أتفوَّه بآهة واحدة.. فقد كنت أردد القرآن".

أبو مصطفى: عظمة القيادة وأَلق الشهادة

قبل ثلاثة عشر عاماً، وفي هذا اليوم الثالث والعشرين من يوليو عام 2002م، كان الأخ أبو مصطفى على موعدٍ مع السماء، حيث كانت ساعة الأجل ويومه المشهود، وكانت فرحته بلقاء من سبقوه من إخوانه الشهداء على درب الجهاد والمقاومة.

كان عملية تصفيته نوعية من حيث بشاعة الجريمة وفظاعتها، وكانت طريقة اغتياله حدثاً مشهوداً سمع به العالم أجمع، حيث قامت طائرة حربية إسرائيلية من طراز (إف 16) باستهداف المبنى الذي تقيم فيه عائلته بحي الدرج في مدينة غزة بقنبلة زنتها طن من المتفجرات، فاستشهد جراء هذا العدوان الإجرامي الغاشم القائد المجاهد صلاح شحادة مع سبعة عشر شخصـاً آخر، كان من بينهم مساعده وأحد عشر طفلاً وزوجته وابنته، وجرح أيضاً مائة وخمسون آخرين.

مضى القائد الشهيد (أبو مصطفى) إلى ربه، "فلكلِ مخلوق أجل"، وذلك بعد رحلة طويلة من الجهد والعمل والبذل والعطاء، كانت إسهاماته في الانتفاضة أحد عناوينها البارزة، ثم سنوات السجن ومحنة الاعتقال الطويل، والتي بلغت حوالي أربعة عشر عاماً، امتدت على مساحة عقدين من الزمن، مثلت عمر انتمائه المبارك للحركة الإسلامية وحركة حماس.. ولقد صقلت سنوات المحنة والاعتقال، والمقاومة للاحتلال، مواهبه النضالية، ومنحته موقع القيادة لكتائب عز الدين القسام، ثم كان بفضل جسارته وثقته وإيمانه ذلك التطور النوعي في عملياتها العسكرية، التي أغاظت العدو الإسرائيلي، وشغلته الليل والنهار في متابعته والتربص به، بهدف تصفيته والتخلص منه.

حاولنا في أمريكا الاتصال بعدد من المحاميين لمتابعة هذه المجزرة الإسرائيلية؛ باعتبارها جريمة بحق الانسانية، وهي انتهاك صارخ للقانون الدولي واتفاقية جنيف الرابعة، وشجعنا بعض المنظمات الحقوقية في الغرب على التحرك، وتقديم طلبات لمحاكمة أرئيل شارون في أمريكا وأروبا، بل وقام المحامي ستانلي كوهين بزيارة غزة، والاطلاع - عن كثب - على حجم الجريمة، والاستماع لشهادات الشهود، وإعداد مذكرة الإدانة بحق هذا المجرم السفَّاح.

الانتفاضة والعمل الإعلامي: بداية التعارف

بعد حصولي على الماجستير في مادة الصحافة الدولية من جامعة ميزوري في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1987م، طلب مني الإخوة في الحركة العودة إلى قطاع غزة للعمل في الجامعة الإسلامية، وتأسيس قسماً للإعلام بها، ونظراً لأن الانتفاضة الفلسطينية قد اندلعت، وتصاعدت وتائرها، وكان لطلاب الجامعة دوراً فاعلاً فيها فقد اتخذ سلطات الاحتلال قراراً بإغلاقها.

كان قرار الحركة في الثامن من ديسمبر 1987م هو المضي قدماً في تصعيد المواجهة مع الاحتلال، وأعقب ذلك تأسيس حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وما تطلبه العمل الحركي والرؤية الاستراتيجية من إعادة هيكلة للخرائط والمسارات التي كانت تعمل بها، كحركة إسلامية دعوية (إخوان مسلمين)، إلى حركة ستشرع في تبني منهج الجهاد والمقاومة.. انشغل الجميع؛ قيادات وكوادر، في فعاليات الانتفاضة اليومية، وكانت حركة حماس هي أحد أعمدتها وركائزها القوية، وكان رجل حماس القوي الشيخ أحمد ياسين (رحمه الله) هو من يقود ذلك الحراك الثوري ضد الاحتلال. لقد حرَّكت الانتفاضة الكل الوطني والإسلامي، وقدم الجميع تضحيات كبيرة، فلم يبخل أي فصيل عن تقديم أفضل ما عنده، وقد وضعت حركة حماس كل طاقاتها البشرية وإمكانياتها المالية لإنجاح الانتفاضة، وسخَّرت كل عناصرها في التنظيم لأخذ دورهم في تلك الفعاليات اليومية، وتقدمت متطلبات الانتفاضة واحتياجاتها على أية أولويات أخرى، حتى أن "الأسر الإخوانية"، والتي هي عصب العمل التنظيمي ومحضنه الأساس، تحولت أنشطتها إلى الميدان، وأصبح كل أخ مكلف بمهمة على الأرض، هدفها إبقاء جذوة الانتفاضة متقدة.

في تلك الأيام من شهر فبراير/ مارس عام 1988م كانت بداية التعارف بيني وبين الأخ صلاح (أبو مصطفى)، الذي كان مكلفاً بملف الجهاز الإعلامي؛ المسئول عن بيانات الانتفاضة، والنشرات التي تغطي فعالياتها، وكذلك بإعداد ورقة "تقدير موقف"، تتضمن رصد ما تتحدث به وسائل الإعلام الإسرائيلية والدولية، وكيفية الرد عليها من قبل قيادة الحركة، وكانت تصدر في المساء بشكل شبه يومي، حيث يقوم الأخ صلاح (رحمه الله) بحملها إلى الشيخ أحمد ياسين، للاستفادة منها في أحاديثه الصحفية، حيث كان الوصول للشيخ ياسين هو مطمح الكل الإعلامي، فكانوا يأتون إليه من أمريكا وأوروبا وإسرائيل.

كان هذا هو عملي في الدائرة الإعلامية، حيث كنا مجموعة صغيرة لا تتعدى خمسة أفراد، وكانت اجتماعاتنا سرِّية، وكان من بين من شاركنا هذا العمل المهندس عماد العلمي والأخ يحي موسى وآخرون، وكانت هناك - أحياناً - لقاءات موسعة تشارك فيها قيادات من كافة أرجاء الوطن.. خلال فترة عملي باللجنة، والتي استمرت لمدة عام تقريباً، كنت ألتقي فيها الأخ صلاح (أبو مصطفى) مرة - على الأقل - في الأسبوع، وذلك خلال الستة أشهر التي سبقت اعتقاله في أغسطس 1988م، حيث كان رحمه الله يشاركنا الحديث، ويضعنا في صورة ما يدور في أروقة أصحاب القرار بمجلس شورى الحركة.

كانت الظروف الأمنية بالغة الخطورة، والعملاء منتشرون في كل مكان، مما كان يتطلب درجة عالية من السرِّية في العلاقة والتحرك، وفي أماكن التواصل والاجتماع.

لقد أحببت هذا الرجل واحترمته لأخلاقه العالية وأدبه الجم، وحيويته في العمل، وتفانيه في خدمة إخوانه، بالرغم أنني لم أكن التقيته قبل مغادرتي لقطاع غزة للدراسة في أمريكا عام 1982م، وطوال فترة عملي معه كان أخاً يُقدر ما نقوم به، ويشعرنا دائماً بما نقوم به من عمل من أجل خدمة إخواننا، وتطوير فعالية حركتنا النضالية.

لم أكن أعلم كثيراً عن عمله العسكري، فقد كان طابع عملي معه مدنياً بامتياز، فمن المعروف في تلك الفترة أن جلَّ عمل حماس كان هو رصد تحركات الاحتلال، ومتابعة العملاء، وتطبيق "حدّ الحرابة" في البعض منهم.

تمَّ اعتقال الأخ صلاح (أبو مصطفى) في شهر أغسطس 1988م، وانتقلت عملية الإشراف عن الجهاز الإعلامي لشخص آخر، بالطبع لم تتوقف آلية العمل بغيابة، حيث برعت حركة حماس في إعداد البدائل قبل أن تطال يد الشاباك تلك القيادات.

وبعد عامٍ من العمل في الجهاز الإعلامي، ومع استمرار إغلاق الجامعة، قررت العودة إلى أمريكا لاستكمال دراسة الدكتوراه.

أفرجت السلطات الإسرائيلية عن الأخ صلاح (أبو مصطفى) لعدة شهور، ثم سرعان ما أعادت اعتقاله في حملتها الموسعة على الحركة في مايو 1989م.

صلاح شحادة: نِعم القائد والجندي

إنَّ كل من عرف الشيخ صلاح (أبو مصطفى) إلا وأثنى عليه، حتى إخواننا المسيحيين من شركاء هذا الوطن لم يبخلوا في تأمين مأوى له، عندما اشتدت مطاردته من قبل الاحتلال، فالرجل كان بلسماً لجروح وطنه، وسنداً لإخوانه، وصاحب عزيمة لا تلين، وهذا يشهد به كل من شاركه سنوات السجن والاعتقال.

ولعل أكبر شهادة للرجل هي تلك التي منحها له الشيخ أحمد ياسين؛ الأب الروحي والمؤسس لحركة حماس، عندما سئل عنه، فأجاب: صلاح.. نِعم القائد والجندي.

أما زميله في القيادة والشهادة د. عبد العزيز الرنتيسي، فقد قال: "لقد استطاع شحادة أن يحقق من الإنجازات ما عجز الكثير عن فعله في سنوات عديدة؛ نجح في تطوير الجهاز العسكري لحركة حماس كمًّا وكيفًا، مدَّ الجهاز بأعداد كبيرة من الشبان، وقام بتدربهم وتجهيزهم، وتطوير الصناعة العسكرية المتواضعة خلال عامين؛ بدءاً بالهاون، ثم الصواريخ مثل القاذفات ومضادات الدبابات، كما يعود لشحادة فضل الإبداع في التخطيط لاقتحام المستوطنات، والانطلاق بالجهاز العسكري من قيود السرية التي تكبل الحركة".

ولعل هذه السيرة النضالية، والمسيرة البطولية وما صاحبها من إبداعات لمشروع الجهاد والمقاومة، هي التي جعلت الأستاذ عـادل أبـو هـاشـم يضع هذا العنوان لكتابه عن حياة الشهيد: "صـلاح شـحـادة . . رجـل تـحـاربه دولـة!!".

لقد قال شارون – متباهياً - بعد استشهاده: "ضربنا أكبر ناشط في حركة حماس، الشخص الذي أعاد تنظيم الحركة في الضفة الغربية من جديد، إضافة إلى النشاطات التي نفذها في قطاع غزة".

رحم الله أخي صلاح (أبو مصطفى)، صاحب الذكرى العطرة، والعمليات العسكرية التي رسمت لتاريخنا في مواجهة الاحتلال صفحات مضيئة من العزة والمجد.

رحمك الله وأسكنك فسيح جناته، ورزقنا على درب الجهاد والمقاومة شهادة نلحق بها محمداً وصحبه، وكل من سبقونا من إخواننا في معارك الشرف والكرامة، دفاعاً عن هذا الوطن وأهله، ومسعى الوصول لهدف التحرير والعودة.