عرفات - حياته كما أرادها للكاتب أحمد عبد الرحمن "الفصل العاشر ج2" : عندما قال أبو عمار .. وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى

عرفات - حياته كما أرادها للكاتب أحمد عبد الرحمن "الفصل العاشر ج2" : عندما قال أبو عمار .. وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى
رام الله - دنيا الوطن

ويكمل الكاتب كيف وبعد وقت قصير جدا بدأت الطائرات الإسرائيلية تقصف المنطقة المتواجدين فيها ولمح الكاتب إلى أن الاسرائيليين يستهدفون أيضا المناطق السكنية ذات الغالبية السكانية اللبنانية لتحريضهم لاتخاذ مواقف ضد القيادة الفلسطينية . ومع اشتداد القصف كان لا بد من المغادرة فورا فخرج ابو عمار وابو الوليد ومعهم الكاتب والمرافقين سريعا خارج منطقة القصف وباتجاه الخط الفاصل بين بيروت الغربية والشرقية مع الحيرة القائمة في ذاك الوقت وتلك الظروف من الجهة التي يجب التوجه اليها . وعبر الكاتب عن الألم الذي كان يشعر بها ابو عمار في سؤال كرره كثيرا أين العرب؟ ومع استكمال المسير كان لابد من اللجوء لمكان آمن سرعان ما وجدوه في احدى البنايات لكن لم يتمكنوا من النزول إلى القبو بسبب اكياس النايلون التي غرق بها الكاتب قبل مساعدة ابو الوليد لاخراجه في موقف مضحك في زمن انتهى فيه الضحك. ثم تحركوا بعد ذلك من مكان الى مكان ريثما يتمكنوا من العودة لمقرات القيادة التي كانت مستهدفة .
          
يتحدث أحمد عبدالرحمن عن حالة الارتباك التي اصابت ابو عمار بعد اعلان الاذاعة الاسرائيلية قصف مقر القيادة الفلسطينية ومقتل ابو عمار وابوجهاد واصبح يسأل عن مكان ابو جهاد للإطمئنان عليه حتى جاء خبر بسلامة ابو جهاد بعد ان تمكن أحد مرافقي عرفات ( فتحي ) من التحدث مع ابو جهاد على الجهاز. وبعد ساعتين آمر ابو عمار بالتحرك إلى مكان أخر وحدده شقة في الدور الثالث لبناية كبيرة – برج أبو حيدر حيث التقى عرفات مع ابو جهاد المتواجد هناك وتعانق الرجلان طويلا ثم اتفقا أن يتحدث ابو جهاد وان يذيع بصوته نداء الى المقاتلين حيث تم تسجيل النداء وارساله إلى الإذاعة واما عرفات فبدأ بدوره يكتب برقية لمن هم خارج بيروت تحمل دلالات غضبه من تخاذل وتواطوء دون ان يسمي احدا منهم مؤكدا على ان المؤامرة كبيرة خاصة بعد ان اعلن شارون ان اتفاق وقف اطلاق النار لا يشمل الفلسطينيين !

-----------------------------------------------------

 

الفصل العاشر - الجزء الثاني


          واستحسن أبو الوليد الفكرة، وما هي إلا لحظة حتى كانت السيارة المصفحة جاهزة، وبسرعة البرق كان أبو عمار وأبو الوليد وأبو فراس الغربي وأنا في السيارة ومعنا فتحي والسائق الخاص، متجهين شرقا بعيدا عن مناطق القصف، وقد رأينا الناس المذعورين يتراكضون في الشوارع على غير هدى بحثا عن مكان آمن يلتجئون إليه، وكان على السائق أن يقود السيارة بسرعة وأن ينتبه للناس المتراكضين في الشوارع في كل اتجاه، وللسيارات المندفعة من الأزقة والحارات الضيقة، متجهة إلى لا مكان، حيث يتحكم صوت القصف باتجاهها، فالسائق يعيد النظر في الاتجاه، إذا سمع صوت القصف، أما نحن في السيارة المصفحة فقد واصلنا الاندفاع شرقا إلى منطقة راس النبع، وهي تقع على الخط الأخضر الفاصل بين بيروت الشرقية والغربية.

          وفي هذه الأثناء، قمت بنزع البيرية العسكرية التي يضعها أبو عمار على رأسه، دون إذن مسبق منه، حيث خشيت أن يكون للكتائب في هذه المنطقة بعض المجموعات الخاصة بالمراقبة والترصد، والتي تعمل مباشرة مع المخابرات الإسرائيلية، وقد علق أبو الوليد بهدوء على ذلك.

          - هذا أفضل

     ولكن السؤال المحير الآن هو إلى أين نتجه؟ هل نظل ندور في الشوارع والأزقة، وأبو عمار معنا، أم إن علينا أن نجد على الفور مكانا نأوي إليه لبعض الوقت، ريثما يتوقف القصف، لقد نسيت أن أذكر هنا أن السائق قد أخذ عنوان أحد البيوت على وجه السرعة لحظة ركوبنا السيارة، ولكن سرعة اندفاعنا باتجاه راس النبع، جعلت السائق يتجاوز البيت المذكور. وفي هذه الأثناء كان أبو عمار هادئا وصامتا، ويقطع صمته أحيانا بعبارة تنم عن ألم شديد، هذه عاصمة عربية فأين العرب؟

          وما أكثر الأجوبة الجاهزة عندي أو عند أبو الوليد لتفسير الغياب العربي أو للتنديد به.

                    
          ولم تكن حراجة اللحظة لتسمح لنا بالنقاش السياسي الهادئ، وكان أبو عمار يخشى دائما من الترف السياسي أو الجدل البيزنطي كما يسميه، وكان يقطع الترف أو الجدل، بالاندفاع نحو فكرة عملية، وفي تقديري أن الظاهرة الفلسطينية برمتها مدينة لأبو عمار بهذه الروح العملية التي اكتسبتها على مدى عشرين عاما، فأبو عمار تحدى الجميع بقدرته على العمل، فهو نمط فريد جدا من القادة المدهشين، إنه يضع فكرته، ثم يبدأ بتنفيذها على الفور، دون أن يساوره أي شك، بواقعيتها بل وبوجودها، إنه يتصرف على أساس أن أفكاره عملية وواقعية، متجاهلا بوعي تلك المسافة الهائلة بين الفكرة وتجسيدها، فكلام المثقفين أو السياسيين العاديين لا يثير عند أبو عمار غير المزيد من الإصرار على العمل حتى يلغي التردد في الإرادة البشرية، ويدفعها دفعا واعيا نحو العمل، ولا يمنع أن يكون عند أبو عمار وهو الفدائي ، نزوعا كاسحا إلى ذروة الفعل، عندما يخشى من فقدان السيطرة على الحدث، ففي صلب النزعة العملية عند أبو عمار يقع خيار الانتحار، حتى لا يساء فهمه من قبل أعدائه، عندما يرتاحون لعدم قدرته على التغيير وفق المنطق المعتاد لحسابات الصراع.

          وكان طيران العدو لا يزال يحلق في الجو، ونحن نندفع بعيدا عن منطقة القصف، ولكن استمرار الاندفاع على هذا النحو، قد أصبح بحد ذاته خطرا محدقا، فخطوط التماس بين الشرقية والغربية مليئة بالثغرات وبالقصف العشوائي وبالعيون المفتوحة لأي حركة تبدو غريبة عن المنطقة.

          ولم يكن أمامنا غير إيجاد بديل عن البيت الذي تجاوزناه نلجأ إليه لبعض الوقت ريثما تنتهي الغارة الجوية، وبعد ذلك يقرر أبو عمار إلى أين يذهب بعد أن أصبحت بيروت الغربية كلها هدفا للقصف الجوي الإسرائيلي، بحيث لم يعد هناك منطقة آمنة يمكن استخدامها كمقر للقيادة أو العمليات المركزية.

          ومن بين البنايات المتراصة، وقع اختيارنا المشترك، على بناية ضخمة يمكن «للمحروسة» أن تدخل بوابتها مباشرة، وقد لمحت بابا مغلقا يقود بالضرورة إلى القبو السفلي، وعلّق أبو عمار «هذا محزن» وفي لحظة كانت السيارة أمام بوابة البناية وفتحي والسائق يتوليان الحراسة، وأنا والجنرال أبو الوليد، نحاول فتح الباب الحديدي المؤدي إلى القبو، وقد لاحظ فتحي أن هناك قفلا على الباب الحديدي، فجاء وبيده قضيب حديدي، ولوى السلسلة الحديدية وكسرها وفتح الباب وراح يهبط الدرج المؤدي إلى القبو، ولكنني أسرعت إليه وقلت: عليك أن تنتبه إلى البوابة، وأنا اهبط إلى القبو ، وفي هذه الأثناء كان أبو عمار يقف على رأس الدرج المؤدي إلى القبو وأمامه العميد أبو الوليد، وأخذت من فتحي مصباحا كهربائيا صغيرا وأسرعت في هبوط درجات القبو، ووجدت أمامي بابا خشبيا ليس محكم الإغلاق ففتحته، وفي فسحة الضوء أمامي، رأيت لونا فضيا يغطي المكان، دون أن أعرف بالضبط ما هي هذه المواد الموضوعة في هذا القبو، ونبهني أبو الوليد يقوله: انتبه، قد تكون مواد قابلة للاشتعال.

          ووجدت نفسي أغرق في هذا اللون الفضي حتى الرقبة، بمجرد أن خطوت خطوة أخرى إلى داخل القبو، فسحبت نفسي إلى الوراء، وتحسست هذا الشيء الفضي المحشو في هذا القبو، وأعتقد أنه أكياس من النايلون محشوة بالقطن موضوعة كيفما اتفق.

          وقد لمحني أبو عمار من أعلى رأس الدرج، وأنا أغرق في أكياس النايلون، ومع أن الضحك كان مستحيلا في تلك اللحظة، إلا أنني لم أتمالك نفسي عندما رأيت « أبو عمار» يندفع نحوي ليعرف بنفسه ويختبر بيديه هذه المادة الموضوعة في القبو، فيقع في أكياس النايلون وأبو الوليد يمسك به، وهو يكاد يضحك، ورأينا أنه من الأفضل أن نجلس الأربعة على الدرج ولا نحاول الهبوط إلى داخل القبو مرة أخرى.

          وفجأة اندلع رصاص غزير في المنطقة وحول البناية التي نحن بداخلها، وسمعنا أصوات طلقات الرصاص وهي تصطدم بالجدران وتنفجر، ولم يكن ممكنا تفسير صوت الرصاص هذا خارج ما يحدق بنا في بيروت، فنحن محاصرون ومستهدفون، وإسرائيل تحرك اليوم كل عملائها للقضاء على الثورة وقيادتها، وكان على فتحي قبل غيره أن يعرف ما يحدث حولنا، وهل نحن المستهدفون بإطلاق الرصاص أم إن بعض قبضايات الشوارع لا يدرون ما الذي حولهم، وما زالوا يمارسون صراع السلطة والنفوذ كالمعتاد؟

          وكان الكلام يصلنا من الشارع، ولكن دون أن نميز بوضوح كافٍ ما الذي يدور فعلا حولنا، وقد تحرك فتحي وسائق» المحروسة»، واستخدم فتحي ميكروفونا صغيرا ليطلب وقف إطلاق النار، ويبدو أن أحدهم في البناية المقابلة قد تعرف على فتحي أو على السيارة، فصرخ بأعلى صوته: « أوقفوا إطلاق النار، خافوا الله».

          وبعد قليل ظهر رجل من داخل البناية، وصافحني بحرارة وهو يقول: زعران.

          ولاحظ في عيني بعض أسئلة حول» من هو» بالضبط، فأكمل حديثه قائلا: « أنا من فتح، من تنظيم كفر شوبا في الجنوب».

          وقد صافحه أبو عمار وأبو الوليد وألح الرجل على أن نصعد إلى شقته في الدور الثاني، فاعتذر أبو عمار بلباقة واعدا بزيارته في وقت قريب.

          لقد توقفت الغارة الجوية، وتوقف صوت الرصاص حولنا، وبالتالي كان لا بد من مغادرة هذا المكان والعودة إلى شبكة العمل سريعا، فأبو عمار خلال نصف ساعة حاسمة، لم يجرِ اتصالا بأحد، ولم يستخدم الأجهزة اللاسلكية، والأهم أننا بدأنا نقلق على مصير إخواننا في منطقة القصف، ورحنا نستذكر أسماء الضباط والكوادر في مقري العمليات رقم «35» ورقم «5» وتذكرت أن السفير الكوبي موجود في غرفة العمليات رقم »3» وقد طلب مني موعدا لمقابلة أبو عمار فقلت: قد يكون السفير الكوبي من بين الشهداء.

          لم يعلق أبو عمار، وإنما وقف وقال: « نتحرك» واندفعنا إلى « المحروسة»، ومن بعيد سمعنا زعيق سيارات الإسعاف ومكبرات الصوت تناشد المواطنين التبرع بالدم فورا لإنقاذ الجرحى والمصابين.

          ولكن في بيروت، كان الموت قد أصبح حدثا عاديا منذ زمن طويل، مات الأعداء في بيروت، كما مات الأحبة، وفي فرحها وفي حزنها، قليلا ما يظهر الانفعال على وجه بيروت.

          لقد سلمنا منذ زمن طويل ، بأن بقاءنا في بيروت يعني انبعاثنا كفلسطينيين ولكن يعني بالمقابل اندحارنا في لحظة التحولات التي تصيب بيروت.

      ولهذا احتفظنا في بيروت، بهدوء داخلي مريع تجاه مسألة الحياة والموت، من يبقى حيا فإلى حين، ومن يستشهد نقدم له التكريم المعتاد، نعي رسمي من القيادة يطول أو يقصر حسب درجة المعارف والأصدقاء والموقع، وملصق يغطي الجدران لبضعة أيام وجنازة مسلحة تخترق شوارع بيروت، وكلمات على المقبرة، تؤكد استمرارنا في بيروت، رغم سقوط الشهيد.

          وهكذا لم يكن الموت المفزع مفزعا في بيروت، كان شكلا آخر من أشكال الحضور الفلسطيني المتعدد. أما أبو عمار ففي عينيه كان قلق وتساؤل، وطلب من السائق أن يسلك الشارع الرئيسي المؤدي إلى المزرعة في طريق عودتنا من راس النبع ولم يكن اقتراح آخر، فكل الطرق تحمل الآن كلمة واحدة «خطر»، بحكم تعرض بيروت الغربية للغارات الجوية، وبالفعل كنا خلال دقائق قرب مستشفى البربير، ومنه اندفعت السيارة في شارع المزرعة الرئيسي، ولم نكد نقترب من مكتب المنظمة والجسر المعلق فوق شارع المزرعة حتى كانت الطائرات الإسرائيلية تقصف الجسر القريب من مكتب  م . ت .ف في بيروت، وكان الدخان يتصاعد والغبار يمنع الرؤية، ولكن التردد كان قاتلا في هذه اللحظة، فسمعت أبو عمار يقول للسائق: « استمر يا بني، استمر» وفي لمح البصر اجتازت السيارة منطقة القصف وأصبحنا على تقاطع ثكنة الحلو - اليونسكو، وعندها تدخلت وقلت للسائق - إلى اليمين.

          في تلك اللحظة كان الطيران الإسرائيلي يحلق في الجو، وكان واضحا، أن جميع مراكزنا في المدينة، لا يمكن الاقتراب منها، وإن من الأفضل البقاء في بيت أحد الأصدقاء ريثما ينتهي القصف، وذكرت لأبو عمار عددا من الأسماء، ولكنه لم يتشجع بقبول الفكرة، ورأيته يبحث في ذاكرته عن اسم مناضل من فتح، يذهب إلى بيته في هذه المنطقة.

          وتذكرت بيت أحد الأصدقاء الذي كان يسكن في الدور السابع، ولم أتشجع لمجرد السؤال أكان موجودا أم لا، فهو يسكن في الدور الأخير، وهذا بحد ذاته مصدر للقلق.

          وتحت ذات البناية التي توقفنا بقربها، رأينا كراجا مفتوحا، فقلت ندخل هنا لبعض الوقت.

          جلسنا داخل الكراج لمدة تزيد على  الساعة، وكان بجيبي راديو ترانسستر صغير، فسمعت أخبار إذاعة إسرائيل، فإذا بها تبث خبرا  مفاده، إن  الغارة قد استهدفت مقر العمليات المركزية حيث يتواجد أبو عمار وأبو جهاد وآخرون من قيادة فتح، وذكرت الإذاعة الإسرائيلية أن أبو عمار وأبو جهاد قد قتلا، في الغارة، ورويت لأبو عمار ما ذكرته إذاعة العدو، فارتبك على الفور، وأخذ يقول: شوفولي أبو جهاد، أبو جهاد فين؟

كان من المفروض أن يأتي إلى حيث كنا في مقر « أبو فراس».

وفي تلك اللحظة كان فتحي قد ذهب إلى منطقة القصف وعاد يقول: الإخوان جميعا بخير.

ولم ينتظر أبو عمار فقال: وأبو جهاد، قال فتحي: لقد تكلمت معه على الجهاز وهو يبحث عنكم منذ لحظة الغارة.

وسمعت أبو عمار يردد آية قرآنية: « وما رميت إذ رميت ولكن  الله رمى»،  « ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين».


عرفات حياته كما أرادها : متى ولماذا قال أبو عمّار "العرب نائمون" ؟
عرفات-حياته كما أرادها : وبدأ الهجوم على بيروت..هكذا سحب حافظ الأسد قواته -وهذا رد فعل قائد ثورة بساط الريح



"عرفات - حياته كما أرادها".. الفصل السابع - ح2 : قصة "بيان" وتعليق خليل الوزير .. استمرار مؤامرة "الأسد الأب"







"عرفات - حياته كما أرادها".. الفصل الخامس-ح2:مجزرة تل الزعتر ودور نظام "الأسد"-من الذي تواطأ في اجتياح لبنان 82 ؟



"عرفات - حياته كما أرادها".. الفصل الثالث-ح2: قصة سفينة السلاح من "هونيكر" لياسر عرفات وكيف رد له الجميل أبو عمار

التعليقات