مصر التليفزيونية

مصر التليفزيونية
فهمي هويدي

مصر التليفزيونية تفضح بعض عوراتنا من حيث لا تحتسب.

آية ذلك أننا نتابع على الشاشات إعلانات المنتجعات الجديدة التي تعوم فوق الماء وتحفل ببرك السباحة وملاعب الجولف.

وفي الوقت نفسه نقرأ علي صفحات الصحف أخبار القرى والزراعات التي تموت من العطش،

وذلك تناقض محير ومستفز.

 إذ يدهشنا البون الشاسع بين النموذجين، حتى لا يكاد يصدق المرء أنهما صورتان لبلد واحد.

 ولا يستغرب في هذه الحالة أن يؤدي ذلك إلى انتشار مشاعر الاستياء والنقمة بين ضحايا شح المياه، الذين باتوا يعتبرون توفيرها في بيوتهم حلما بعيد المنال.

لا أخفي أنني أحد الذين يستفزهم ذلك التناقض الحاصل،

وكنت قد كتبت قبل حين عن أزمة ١١ قرية في محافظة الشرقية انقطعت عنها المياه منذ عدة أشهر كما أن الصحف باتت تتحدث بين الحين والآخر عن اتساع نطاق الأزمة في محافظات الصعيد.


وقد شجعني على العودة إلى الموضوع ما قرأته هذا الأسبوع عن حملة دعت إليها جمعية الدفاع عن المستهلكين في إيطاليا التي استفزها مشروع ترفي محلي أقيم فوق إحدي البحيرات،

 فقررت محاسبة المسؤولين عن تمويله وطالبت بالتحقيق في جدواه الاقتصادية.

خلاصة القصة التي بثتها وكالة الأنباء الفرنسية يوم ٢٦ يونيو الحالي كالتالي:


أعلنت جمعية الدفاع عن المستهلكين الإيطاليين أنها تنوي تقديم شكوى إلى السلطات المحلية في شأن تبذير المال العام الذي أنفق على الجسور العائمة التي أقامها أحد الفنانين (كريستو) على بحيرة «ايسيو» الإيطالية منذ ١٨ يونيو،

إذ لقيت الجسور إقبالا شديدا من السياح وراغبي التسرية وفد عليها عشرات الألوف منهم للتنزه على الجسور الممتدة بطول ثلاثة كيلومترات ليلا ونهارا.

 وقالت الهيئة إن الكلفة الهائلة لعمليات التنظيف وكلفة ضمان الأمن تثيران تساؤلات حول صحة الإذن الذي أعطي لإقامة تلك المنشآت.

 كما تساءلت عن الانعكاسات الاقتصادية للمشروع، وعن المبالغ التي أنفقت من حصيلة الضرائب لإنجازه.

كما أنها اعتبرت أن تنفيذه وفر دعاية كبيرة للفنان صاحب الفكرة، دون أن يحقق أرباحا تذكر للمنطقة أو للمواطنين.


كان ٢٧٠ ألف شخص قد زاروا الموقع خلال الأيام الخمسة الأولى.

وهو عدد تجاوز توقعات المنظمين، الذين كانوا يعولون على نصف مليون شخص خلال ١٦ يوما،

وهي المدة التي ستبقي فيها الجسور مفتوحة أمام الجمهور (حتى الثالث من شهر يوليو).

من الخبر نجد أن مشروعا سياحيا ترفيا نفذ، لكن جمعية الدفاع عن المستهلكين راقبته وحرصت على التدقيق فيما إذا كان دافع الضرائب الإيطالي تحمل جانبا من تمويله أم لا،

 كما تساءلت عن جدواه الاقتصادية ومدى النفع الذي يمكن أن يحققه للمنطقة أو للمواطنين،

 لم تعترض على استمتاع السياح وغيرهم به، لكنها شاغلها الأهم ظل منصرفا إلى مصالح المواطنين، وترشيد الإنفاق العام.


في حالتنا يتصرف المستثمرون بغير رقيب أو حسيب، بحيث يظل شاغلهم الأوحد هو الحصول على أقصى ربح ممكن، حتى إذا كان ذلك على حساب البيئة أو راحة المواطنين، أو ما يمكن أن تحدثه برك السباحة وملاعب الجولف من تأثير على وفرة المياه بالمنطقة.

خصوصا أن الجميع يعلمون أن مصر مقبلة على مرحلة شح في المياه جراء أزمة سد النهضة الإثيوبي والبدء في تخزينه في العام المقبل.


أشك كثيرا في أن يكون أحد من أصحاب المنتجعات قد اعتنى بدراسة تأثير مشروعه على البيئة المحيطة أو الخدمات أو حدود موارد المياه المتاحة له.


 إذ في غيبة المساءلة والرقابة المجتمعية فإن همَه يظل منصبا على كيفية توظيف كل تلك العناصر لصالح إنجاح مشروعه ورفع عوائده.


ما سبق يسوغ لي أن أسجل ملاحظتين، هما:


< إن الفرق بين النموذجين المصري والإيطالي يجسد الفرق بين قيمة المواطن هنا وهناك،

فالمواطن هناك صاحب صوت ودافع للضرائب،

وهناك منظمة تدافع عن حقوقه وترعى مصالحه،

 أما في بلادنا فإن شبكة المصالح تمثل مركز القوة الحقيقي.

والمستهلكون لا صوت لهم ولا وزن أيضا.


< الملاحظة الثانية أن المقارنة في الحالة المصرية لا تكشف فقط عن ضعف المجتمع وهشاشة منابر التعبير عنه، لكنها كاشفة عن المدى الذي بلغه التفاوت بين الطبقات واتساعه لفجوة بين الأغنياء والفقراء.

والرمز هنا واضح في أناس ينعمون بالماء ويلهون بها، وآخرون يحلمون بالماء وتنتشر بينهم الأمراض جراء قدرته، كما أنهم يضطرون إلى التيمم للصلاة والغسل.

ما لم يستعد المجتمع عافيته بحيث يسمع له صوت. فإنه سيظل مرتهنا لحسابات شبكات المصالح وعاجزا عن الدفاع عن حقوقه.