أحمد يوسف يتحدث عن شخصية خالد مشعل وفصول "الخلاف" معه بعد اعتقال أبو مرزوق .. رسالة الوداع

أحمد يوسف يتحدث عن شخصية خالد مشعل وفصول "الخلاف" معه بعد اعتقال أبو مرزوق .. رسالة الوداع
د. أحمد يوسف

جمعني لقاء مع أحد الشخصيات الفلسطينية السياسية المخضرمة، وأخذنا الحديث باتجاه الأخ خالد مشعل؛ الرئيس الحالي للمكتب السياسي لحركة حماس، وقد أثنى ذلك الصديق كثيراً على الأخ أبو الوليد، واعتبره الأقرب لشخصية القائد والزعيم الراحل ياسر عرفات، وذلك من حيث مدونة سلوكه العام وطريقة تعامله الأخوية والإنسانية مع الناس، والكاريزما التي يمتلكها ويلحظها كل من تعامل معه، وابتسامته التي تبعث على الشعور بالطمأنينة والأمان، والتي يلمسها كل من جالسه أو تعامل معه، ومواقفه التي تعكس وعياً وطنياً ونضجاً سياسياً، وكذلك مرونته في الخطاب مع الحلفاء والخصوم. نعم؛ قد تختلف معه، ولكنك لا تملك في النهاية إلا أن تحترمه وتثني عليه.
قد لا أختلف كثيراً مع ما قدمه صديقي السياسي المخضرم من تحليل حول شخصية الأخ خالد مشعل، ولكن ربما كانت مساحة العاطفة التي تمنحها مكانة الأب أكثر نضوجاً ووضوحاً في شخص الرئيس ياسر عرفات.
حقيقة، إن الأخ أبو الوليد هو إنسان متميز في تعاملاته وأخلاقياته وخبراته السياسية، وله الكثير على مستوى النهج والأثر، وقد أعجبتني كلماته وتصريحاته التي يتحدث بها إلى أهلنا في الوطن والشتات، حيث يتحدث بروح المسئولية الوطنية، والحرص على الشعب والقضية، وتعكس خطاباته شخصية تمثل عنوان وطني كبير، وهي غير مضغوطة أو مأزومة حزبياً، بل تجده فيها مستشعراً الخطر الذي يتهدد القضية، ويستهدف مشروعنا الوطني.
على مائدة الإفطار: عندما تجتمع نبرة الوطن بنكهة السياسة
في كلمته أمام حفل إفطار أقامته حركة حماس في العاصمة القطرية (الدوحة) على شرف إعلاميين عرب، أشار الأخ أبو الوليد أن هناك مخططات إقليمية يتم الإعداد لها لمحاولة صياغة المشهد الفلسطيني الداخلي، وصناعة قيادته الجديدة، والتحكم فيها وفق مقاسات إقليمية وليس وفق متطلبات الفلسطينيين ومصالحهم، وهذه المخططات تستهدف غزة ورام الله في آن واحد.
وأضاف: "في ظل التطورات الإقليمية الساخنة، تتعاظم المسؤولية علينا كفلسطينيين بصورة غير مسبوقة، وفي ظل انشغال العالم عنا"، مؤكدًا: "ما حكَّ جلدك مثل ظفرك".
وشدد الأخ أبو الوليد على أن العدو الإسرائيلي يحاول استعجال التطبيع، على حساب القضية الفلسطينية، ويستغل صراعات المنطقة لتقديم نفسه كـ"لاعب لا يُستغنى عنه، وشريك لبعض الأطراف".
ورأى أنا ما يجري من حديث ومخططات ما هو إلا "مبادرات سياسية دولية أقرب لملء الفراغ منها إلى فرصٍ جادة لمعالجة الصراع، فضلًا عن اختلال مضمونها".
واستطرد: "وعلى القادة الفلسطينيين ألا يسعدوا بالفتات، فهي للتلهية". مؤكدًا أن حركة حماس تبدي احترامها وتعاطفها مع شعوب الأمة، وأنه "لا تعارض مع أولوية قضيتنا وأولوية قضايا الأمة، التي لم تعد مجرد قضايا سياسية، بل فيها نزف ودماء"، وفق قوله.
ولفت الأخ أبو الوليد أن الكيان الإسرائيلي "عامل أساس في تأجيج أزمات المنطقة وتأخير حلها، في إطار السعي لتقسيم المنطقة".
وذكر أن الأولويات التي تفرض نفسها الآن هي؛ إنهاء الانقسام وتحقيق المصالحة والوحدة الوطنية، المحافظة على زخم المقاومة والانتفاضة، وتحقيق التوافق الوطني على إدارة الانتفاضة وتكتيكاتها بما يحافظ على نتائجها وحماية القدس والأقصى وتقوية المشروع الفلسطيني.
مشددًا على أن كسر الحصار عن غزة وإيجاد حلول حقيقية لأزماته، مع السعي لتجنب أي حرب جديدة على القطاع، والاستمرار بتدعيم قدرات المقاومة والاستعداد لأسوأ الاحتمالات، من الأولويات أيضًا.
ودعا الأخ أبو الوليد القادة الفلسطينيين إلى العمل وفق برامج وآليات محددة لإشراك جميع قطاعات الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج بالمشروع الوطني.
وأكد على ضرورة التحرك الفلسطيني "بفاعلية ودقة" على الساحة العربية والدولية، وفق استراتيجية مشتركة، بما يحقق إعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية ومكانتها وكسب الدعم والتأييد لها.
وبيّن أن سياسة حركة حماس واضحة، مشددًا على أنها تقوم على "عدم التدخل في شؤون الدول، وأنها لم تتدخل في أي شأن عربي أو غير عربي".
مستدركًا: "التصرفات الفردية من المحسوبين على الحركة لا تُلزمها، وهي غير مسؤولة عنها". وأضاف: "حماس متعاطفة مع قضايا الأمة، والتعاطف لا يعني التدخل بالقتال ولا بالسياسة في هذه القضايا، لأنها ليست مسؤوليتنا".
وأشار الأخ أبو الوليد إلى أن حركة حماس تقود معركة كبيرة ضد الاحتلال الإسرائيلي، "ما يستوجب الانفتاح على الأمة، خاصة في ظل اختلال موازين القوى التي تفرض الحاجة لدعم الأمة".
وقال إن من حق كل صاحب قضية طرق أبواب العالم، بشرط أن لا يدفع فاتورة ذلك من قيمه ومبادئه، موضحًا: لقد "مررنا بمرحلة كان لدينا تحالفات، اتفقنا معهم على قضية فلسطين، وعندما انشغل كل طرف بأولوياته الأخرى، افترقنا جغرافيًا وسياسيًا".
هذه اللغة بنبرتها الوطنية هو ما نتطلع إليه لإصلاح ذات البين في بيتنا الفلسطيني، وهي التي نريدها لقيام شراكة سياسية على قاعدة من التوافق الوطني، والتي من خلالها يمكننا بناء رؤية استراتيجية وطنية توافقية، يجتمع عليها الكل الفلسطيني، ونعتمدها كرافعة لمشروعنا الوطني وتطلعات شعبنا في التحرير والعودة.
خالد مشعل: كما عرفته وتعاملت معه
في الواقع، وبرغم كل الكتابات والتحليلات التي تناولت شخصية الأخ أبو الوليد باللغتين العربية والأجنبية، إلا أنه يبقي كالبحر في أحشائه الدرُّ كامناً، ويحتاج إلى المزيد من الغواصين ليكتشفوا الكثير مما في صدفاته من الوطنية والإنسانية والأخلاقية، وطبيعة العشق التي تتملكه تجاه هويته الفلسطينية، وحبه الكبير لأمته العربية والإسلامية.
لقد وجدت – حقيقة - من خلال معرفتي الطويلة بالعمل معه شيئاً مما ذكره الشاعر أبو تمام، حيث قال: هُو البَحْرُ من أيِّ النًّواحي أتيته * * * فلُجَّتُهُ المعروفُ والجُودُ ساحِلُهْ.
وحيث يجري الحديث عن قرب ترجل الفارس، واستعداده لمغادرته مضمار السباق، كرئيس للمكتب السياسي باتجاه تكليف آخر في سلم القيادة بحركة حماس، أقول لأخي الحبيب أبا الوليد: ستظل صفحات جهادك ومسيرتك القيادية بيننا لسنوات قادمة، هي مشكاة نستضيء بها، ونحن نتحسس طريقنا تجاه وحدة شعبنا الفلسطيني، والذي يأمل في قياداته السياسية والفصائلية أن تأخذ بيده، حتى يتحقق اجتماع الشمل ويتوحد الصف؛ باعتبار أن الوطن ليس أنا أو أنت، بل أنا وأنت.
أتمنى أخي أبا الوليد أن تكون لك بصمة في توطين الكثير من المعاني والمفاهيم في ذهنياتنا كفلسطينيين، والتي تعرضت لعمليات ممنهجة من الاحتلال لتشويهها، والعمل على مسخها وطنياً، وأدت إلى تباعد منطلقاتنا الفكرية، وقيام حواجز في رؤيتنا الأيدولوجية تجاه بعضنا البعض.
إننا نطلبك اليوم، ونطالبك كأحد قيادات الشعب الفلسطيني، العمل على تعزيز عروتنا الوثقى، وإشاعة قيم الحب والتسامح التي تعين على تقبل كل منَّا للآخر، وتغرس فينا ثقافة التغافر والتعايش القائمة على مبدأ الشراكة السياسية، والاحتكام للتوافق الوطني، والعمل بروح التآخي والوطنية العالية في مساحة المشترك، الذي يشكل نقطة التقاء وتوازن في علاقاتنا الداخلية، حيث ينعدم التناكر والخلاف .
لقد مررنا بتجربة مريرة من الصراع والانقسام البغيض عمرها – الآن - تسع سنوات، وقد أوشكنا مع ما لحق بعلاقاتنا الوطنية من قطيعة وتربص وشكوك أن يختل توازن بوصلتنا، وتنحرف بعيداً عن هدف شعبنا الاستراتيجي في التحرير والعودة، حيث غدت مسارح تلك الصراعات هي منبر للمناكفة وتوجيه الاتهامات والتنابز بالألقاب، وغدت كياناتنا التنظيمية تعمل بعقلية (كلُّ حزبٍ بما لديهم فرحون).!!
أخي أبا الوليد.. من خلال ما يجمعنا من معرفة تمتد حبال صداقتها لأكثر من ثلاثة عقود ونصف العقد، فإني أعتقد أنك الشخص الذي تمتلك القدرة أكثر من غيرك على تحريك السفين، والابتعاد بقافلتنا عن مسار الحزبية وتعقيداتها الفلسفية، وأخطارها على مستقبل شعبنا ووحدتنا الوطنية، والتي لا تبتعد كثيراً عما نشاهده اليوم – للأسف - يجري في بعض بلادنا العربية؛ كالعراق وسوريا وليبيا واليمن من استباحة همجية للدماء، وتخريب وإهلاك للحرث والنسل، جرَّاء الحسابات والنعرات الطائفية، التي غزت بأحقادها وعداواتها وجاهليتها بلاد العرب والمسلمين، وأحالتها إلى قصعة تتداعى عليها وتعمل على تقسيمها الشعوب والأمم.
أعرف أنك ستغادر موقع الرجل الأول إذا ما استمر العمل بالهياكل التنظيمية القائمة، ولكنك ستبقى الأول في قلوبنا، إلى جانب شيخنا المؤسس والشهيد أحمد ياسين، وإخوانه الذين سبقوا على درب الجهاد والمقاومة؛ الدكتور إبراهيم المقادمة، والمهندس إسماعيل أبو شنب، والدكتور عبد العزيز الرنتيسي، والأخوين صلاح شحادة وأحمد الجعبري، وباقي الرهط الكريم من شهداء الحركة وشيوخها الذين سبقوا بإحسان، رضي الله عنهم ورضوا عنه.
أخي أبا الوليد إن الفارس لا يترجل إلا واقفاً، ولقد شاهدناك بعد محاولة الموساد الإسرائيلي اغتيالك في الأردن عام 1997، ولكن الله سبحانه كتب لك الحياة لتقود هذا المركب قرابة عقدين من الزمان، كان لك فيها نصيب من هذا الكسب الذي أنجزته حركة حماس، كما كان عليك أيضاً تحمل جزءاً من المسئولية مما آلت إليه الأمور بعد الأحداث المأسوية في يونيه 2007، وهذه جردة حساب عادلة، فكل إنسان له وعليه، فكل قائد أو زعيم له اجتهاداته التي قد تخطئ أو تصيب، وعليه أن يتحمل تبعاتها، والأنسان في كلا الحالين مأجور.
أنا وأنت: جزءٌ من صفحات التاريخ
أشهد أننا اختلفنا - أنا وأنت - عندما تحرك البعض بعد اعتقال الأخ د. موسى أبو مرزوق في أمريكا، وجاءوا بك رئيساً ليملأ الفراغ الذي حل بغيابه.. في ذلك الوقت، شعرت وكأن هناك من وجهه طعنة للأخ أبو مرزوق عن قصد أو بغير علم لتقديرات خطورتها عليه، وكتبت – حينذاك - رسالة قاسية في عباراتها، وفيها انتقاد حاد لمن فكر في مثل هذا الإجراء.. ولكن بقيت حبال الود قائمة، وظل التواصل ممتداً بيننا. وفي عام 2001، وعلى إثر ما تناقله البعض بأن هناك من يمكر لتغييب الأخ موسى أبو مرزوق عن موقعه، باعتباره الرجل الثاني في التنظيم، وتحركت موجة من الغضب والاحتجاج كادت تقصم ظهر الحركة، ولكن إخواننا في عمقنا العربي تدخلوا وأنهوا هذا الخلاف بحكمة حفظت وحدة الحركة، وعززت من ترابط كياناتها في الداخل والخارج. أتذكر بعض تلك اللقاءات التي جمعتنا في دمشق وبيروت وما دار فيها من حديث بيننا بهذا الخصوص، وأشهد لك أنك كنت من النوع الذي إذا خاصم عدل.. ولذلك، دانت لك الولاية كل تلك السنوات، حيث توافق الإخوة - في الداخل والخارج – على تجاوز اللوائح التنظيمية التي لا تجيز ذلك؛ لأنك كنت بأخلاقك وحكمتك القادر على حماية الحركة وجمع الصف.
ختاماً.. لن يؤثر غيابك – أخي أبا الوليد - كثيراً على مستقبل حركة حماس، واستقرار مؤسساتها في الداخل والخارج؛ لأنك لن تبتعد كثيراً عن موقع صناعة القرار ومتابعة تنفيذه، بغض النظر عمن سيخلفك على رأس المكتب السياسي للحركة، فحركة حماس لها إطاراتها التنظيمية ومجالسها الشورية التي تحفظ تماسكها، وتحمي واجهاتها الثلاث؛ الدعوية والسياسية والعسكرية، من مخاطر التفكك والانقسام.
هذه كلمات ما قبل الوداع، للقائد الذي أسرنا بأخلاقه وكرمة وحنكته السياسية، وما غابت حكمته في الحفاظ على وحدتنا التنظيمية، وما تزال مساعيه قائمة لتحقيق المصالحة وإنهاء الانقسام.