الصحافة الاستقصائية:لا تنصبوا المشانق!

الصحافة الاستقصائية:لا تنصبوا المشانق!
بقلم د. حسن دوحان

باحث واعلامي

اثيرت في الأونة الاخيرة حالة من الجدل حول موضوع الصحافة الاستقصائية واهدافها والغرض منها، وذهب البعض بعيداً في نسج الروايات واستغلال الموقف حول تحقيق التحرش الجنسي لقمع الصحافيين الاستقصائيين وارهابهم تحت مسمى الوصاية على غزة واهلها ودفع البلاء عنها..

وامام جدلية الموقف من تحقيق التحرش الذي كنت اتمنى ان تكون داعمة لمفهوم الصحافة الاستقصائية ودورها، كان لا بد من ايضاح العديد من القضايا:

1.    الصحافة الاستقصائية مهمتها الاساسية كشف الحقائق والفساد بمختلف اشكاله للمساهمة في تصحيح الاداء لمختلف المؤسسات ومعاقبة المسؤولين عن الفساد ( الفساد: اداري ، مالي ، اخلاقي ، امني وغير ذلك).

2.    الصحافة الاستقصائية هي ليست فناً موجهاً ضد احد بل مدرسة متكاملة من العلم والعمل والانجاز وتعتمد على الادلة والبراهين والوثائق والتسجيلات وليست فبركة من نسج خيال احد او تسليط الضوء على اعمال فردية الا في حالات كان مرتكبيها من قادة المجتمع.

3.    الصحافة الاستقصائية لديها اساليبها العلمية في التقصي وتتبع المتهمين والتأكد من المعلومات قبل نشرها.

هذه اشارات بسيطة عن طبيعة عمل الصحافيين الاستقصائيين الذين يحتاجون الى سنوات احياناً للتأكد من الفروض العلمية التي وضعوها بناء على دراسات استطلاعية مسبقة عن وجود أي اشكالية او ظاهرة تلحق الضرر بالمواطنين.

ان محاولة ارهاب الصحافيين الاستقصائيين والتعامل معهم في اطار نظرية المؤامرة التي لا نريد ان نفارقها، متناسين ان هؤلاء الشباب يحملون ارواحهم كما المقاومين ويدافعون عن قضيتهم واعراضهم بكل ثبات وقوة ولا يريدون من احد تقديراً ولكن ليس من الضروري ان ننصب لهم المشانق اذا تناولوا قضايا حساسة ومهمة كالتحرش الذي يقر الجميع بوجوده.

لا نريد اوسمة وشهادات تقدير من احد ولكن يكفينا شرفاً نحن الصحافيون الاستقصائيون اننا اعدنا الحياة لمؤسسات نهش السوس والترهل اداؤها كتحقيقي عن الخضروات وغياب الرقابة على استخدام المبيدات، وأليس فخراً لي وللصحافيين الاستقصائيين ان من نتائج تحقيق الاطفال الخدج تم جلب العلاج لهم لتتراجع عدد الوفيات من 375 طفلاً سنويا الى النصف؟!!

ولا تنسوا تحقيق الخبز وتحقيق الحمص وتحقيق الاصباغ وتحقيق المياه المحلاة وعشرات التحقيقات المهمة جداً قام بها الصحافيون الاستقصائيون وكشفوا فساداً كبيراً ، وكنتم جميعاً من المشيدين بها.

ان محاولة شيطنة الصحافيون الاستقصائيون وربط انجازاتهم وعملهم بأعمال استخبارية افتراءات كبرى لا يمكن السكوت عندها،

بالعودة لتحقيق التحرش الذي اثار ضجة كبيرة نتيجة تكهن البعض بأسماء اكاد اجزم بانها لم تكن مقصودة وتم الاعتذار، ولكن محاولة البعض للقفز وارهاب الصحافيين الاستقصائيين مرفوضة لان هذا الفن الصحفي هو من اعاد للصحافة قيمتها وكلمتها واهميتها كسلطة رابعة تراقب اداء السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية باسم المجتمع الذي اوكل هذه المهمة للصحافة.

ان اعتماد الجامعة الاسلامية وجامعات غزة وفلسطين لمساق الصحافة الاستقصائية لتدريسه لطلبة الاعلام وانجاز عدة دراسات علمية حول هذا الفن يؤكد اهميته وحضوره كأحد القوالب المهمة في التصدي للفساد، كما ان ذهاب صحف كالرسالة وفلسطين والحياة الجديدة وغيرها لنشر التحقيقات الاستقصائية يؤكد تفوقها على الفنون الاخرى التي يراد منها فقط الترويج والدعاية للحكام دون التطرق لهموم ومعاناة والالام الناس بسبب ممارسات تلك السلطات بحقهم.

ان الية عمل الصحافة الاستقصائية مختلفة وتعتمد بالدرجة الاولى على اختيار الصحفي لموضوعه وليس هناك أي جهات من الممكن ان تفرض على الصحفي المتقصي موضوعه خاصة وان ما يتم تقاضيه لا يغطي في كثير من الاحيان مصروفات التحقيق.

للأسف من السهل اتهام الصحافيين الاستقصائيين بانهم اداة استخبارية دون ان يسألوا هؤلاء انفسهم لماذا تخصص ملايين الدولارات لوسائل اعلامية حزبية ورسمية لا يكون من ضمن موازنتها رعاية ودعم التحقيقات الاستقصائية؟!!!!!

ان استمرار نهج الاعلام التقليدي في التغطية على مشاكل المجتمع وتصوير الامور وكأنها في غاية الانضباط لن يؤدي الى معالجة مشاكل المجتمع ومحاسبة المقصرين والفاسدين، ان هذا النهج وصفة لاستمرار الفساد وتشجيع المهملين.

اخيرا لا تنصبوا المشانق! لان من يستحقها الفاسدين ثم الفاسدين وليس المجتهدون من الصحافيين الاستقصائيين الرائعين في ادائهم والمتميزون بحصولهم على جوائز محلية واقليمية ودولية عن اعمالهم الاستقصائية.

وختاماً : سأقدم في الجزء الثاني من مقالي بعد شهر رمضان المبارك رؤية نقدية لواقع الصحافة الاستقصائية في قطاع غزة لتطوير عملها والرقي بأدائها للوصول لكل الفاسدين، وعهدنا اننا حملنا ارواحنا دفاعاً عن هموم المواطنين.

وكل عام وانتم بألف خير.