(حصرياً) : جبريل الرجوب يوجّه رسالة لزعيم حركة النهضة الشيخ الغنوشي يستعرض حقائق تاريخية وقضايا آنية

(حصرياً) : جبريل الرجوب يوجّه رسالة لزعيم حركة النهضة الشيخ الغنوشي يستعرض حقائق تاريخية وقضايا آنية
رام الله - دنيا الوطن
وجّه عضو مركزية فتح والقيادي الفلسطيني رسالة الى زعيم حركة النهضة الشيخ راشد الغنوشي .
ننشر الرسالة كما وصلتنا حصرياً :

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على سيد الخلق والمُرسلين، سيدنا محمد الطاهر الأمين، وبعد:

فضيلة الشيخ راشد الغنوشي     حفظه الله ،،،

زعيم حركة النهضة التونسية    المحترم ،،،

تحية فلسطينية وبعد:

أنتهز هذه الفرصة العزيزة، لأهنئكم بقدوم شهر رمضان المبارك،سائلين المولى عز وجل أن يعود على أمتنا ونحن في حال افضل، وشعبُ فلسطين قد تحرر من الظلم والإحتلال ومرارة الانقسام البغيض.

ويسعدنا أن نطير لكم من فلسطين التي تُحبكم، أطيب التهاني والتبريكات بعرسكم الديمقراطي، الذي يجب أن يُشكل نموذجاً لكل الحركات الإسلامية، من أجل حماية اسلامنا الحنيف، مما يحدق به من براثن وأمراض، تُهدد إرثنا ومستقبلنا، ونحن في فلسطين الأحوج للإسترشاد باستخلاصاتكم التي تؤكد على الوطنية المُرتكزة على الإسلام الحنيف، وهو ما يؤصل لتجربة نجحت في احتواء التناقضات واقصائها لصالح الهوية الوطنية.

ونحن إذ نتمنى الخير لنهضتكم، والعمر المديد لشخصكم العزيز، والإستقرار والأمن والإزدهار لشعبكم العظيم، تحت رئاسة حكيم العرب، الرئيس الباجي قائد السبسي.

فإنني أرى أن تسمحوا لي باستعراض العديد من المظاهر في تجربتكم الخلاقة، عسى أن تكون أساساً لحوار أوحادي أو جماعي لإنقاذ فلسطين من براثن التحجر والانغلاق بإسم الدين، هروباً من الواقع، وانتصاراً لأجندات ضيقة، الإسلام منها براء، والقضية الفلسطينية هي الضحية الكبرى فيها.

ونقول كما قال رسولنا الأكرم " اللهم اهدِ قومي فإنهُم لا يعلمون"

وتقبلوا مع فائق الاحترام والتقدير

أخوكم/ اللواء جبريل الرجوب

نائئب أمين سر اللجنة المركزية لحركة فتح

الرسالة :

في اللحظة التي أصبح فيها المشهد ، في أتون عملية التحوّل ملتبساً على الجميع، وعمّت الفوضى والدمار خلال وأثناء الثورة وبعدها في معظم الأقطار، التي نبتت فيها براعم الربيع الجديد، وتشوّش الفَهم، وربما نفر الناس من عملية التغيير كلها، بل وفضّلوا بقاء الظلم والقهر والدكتاتورية على الحرية المقرونة بالدمار والفوضى وغياب الأمن .. نرى أن تجربتكم الاستثنائية استطاعت أن تبلور لتونس الشقيقة رؤية متوازنة ، تنقذها من هذا الالتباس ، حين أدركتم أن الوطن هو الوعاء الأوّل، وصاحب الأفضلية ، عندما تتمّ عملية التأصيل أو التأويل أو التخطيط ، للانطلاق في فضاء جامع ، قوامه الإسلام ، وبطانته المصلحة المرسلة للبلد والأُمّة .

إن تغليب الأسئلة الوطنية واشتقاق إجابات موضوعية وواقعية ، هو ما يؤسس لحداثة واجبة الوجود ، تكون الأرض الراسخة والعتبة الأولى للانطلاق نحو خطاب اسلامي نفتقده ، ولا نجد سوى شذرات متعاكسة لاجتهادات متداخلة منه ، أو نرى نتوءات تذهب بعيداً في الغلوّ والشطط المريب .

وإننا ننظر لتجربتكم الواعية والجسورة والعميقة بلهفة واحترام ، ونتمنى على كل الأخوة في الحركات الإسلامية أن يتوقفوا أمام استخلاصاتكم  الضافية ، ليكونوا شركاء في البناء الوطني ، في كل أقطارنا ، على طريق الوحدة ، وعلى أساس التنوّع والاجتهاد.

ونعتقد أنّ بعض الحركات الإسلامية ستواصل إخفاقها في تراكم خطواتها وفي الصعود إلى كرسي الحُكم، ما دامت منكفئة لا تعترف بمفردات اللحظة ومتطلباتها، ولا تعترف بالآخر الوطني، وتسارع إلى تكفير أو تخوين أو إعدام مَنْ لا يؤمن بأفكارها، وتلجأ إلى وسائل غير حضارية وغير سلمية وغير حزبيّة في التعاطي مع المُختلِف، أو لا تعترف له بخصوصيته، وتؤمن أنّها وحدها تمتلك الحقيقة ومفاتيح الحياة، وتنسج تحالفات تشوبها المصلحة أو تعاكس العقيدة. وليعلم الجميع أنهم أمام اختبار في مرحلة جديدة لها ما بعدها .

لهذا، نرجو أنْ نضعَ بعض الاستخلاصات، التي قد تصلح للنقاش، على طريق تأسيس ما هو مشترك بيننا، وهي :-

ضرورة إيجاد فريق من العلماء والفقهاء واللغويين، ومن شتّى التخصصات، للعمل على تحديث الخِطاب الدّيني الإسلامي، وتجديد الاجتهاد وبعثه على ضوء متطلبات العصر ، دون أنْ نجرح النصّ أو نبالغ في التأويل ،آخذين بعين الاعتبار غير ملاحظة تقدّم بها المفكرون ، أمثال محمد شحرور ، كقوله (لا نريد مؤسسة تنغلق  على تفسير شبه أحادي ) لأن ذلك سيؤدي إلى إكراهات تفسيرية على النص ،مع استقلالية النص وقدرته وسيادته ، في مواجهة القراءات التراثية والمُؤدلجة والمتحكّمة .ويعتقد بأن ثمة مفاهيم حضارية غربية قابلة للهضم والاستيعاب ضمن منظومة العقل الإسلامي .

وعلينا أن نمعن النظر فيما قاله ابن رشد ( إعمال العقل في النص المكتوب ) و (لا يُقطَع بكفر مَن خرج على الإجماع) .

وعلينا أيضاً أن نتوقف أمام مقولة المفكر مراد وهبة ( لابدّ أن يتوارى الإجماع حتى يتوارى التكفير ).

وأنا هنا لا أتبنّى أيّاً مما ذُكر ، لكنّي أدعو إلى التبؤّر والإمعان والتفكّر والانفعال  بهذه المقولات الكبيرة والعميقة ، قبل تقرير أو تبنّي أي اجتهاد أو اتجاه.

. كما ندعو التيارات القومية واليسارية إلى مراجعة عميقة وواعية لخطابها ، والتمعّن في أزماتها ، ولتبيان أفضل الطرائق لتخطّي انكساراتها ، وللتعمّق في مسلّماتها الخائبة.

إن المُناخ الوحيد الصالح للإسلام، ليجد آفاقاً يمتدّ فيها هو الدولة المدنيّة، التي تقوم على المواطَنة بكل مكوّناتها وشروطها، وعلى حقّ الاختلاف وممارسته.

إنّ معالجة كل الحركات الناتئة فكرياً أو سياسياً أو اجتماعياً،  لا يمكن أن تتم بطرائق "عنيفة"، بل بنظرية العوامل المتعددة، والتي أهمها التعليم والفنون وإشاعة الوعي والعدالة وقيم الديمقراطية وحقوق الانسان.

على القوى والأحزاب جميعها، أنْ تعرف وتَعي وتمارس وتؤمن بأنّ لكل منها حقّاً، مثلما للآخرين، بعيداً عن الأحكام المُسبقة، أو المواقف الجاهزة، أو التماهي مع بعض المطالب الإقليمية المشبوهة، ولا يحقّ لطرف، مهما كان مشربه وتوجّهه الفكري أو العقدي، أنْ يُشيطن الآخر أو يحجر عليه أو يُقصيه أو يُعرقله أو يمنعه من حقّ يمارسه هو نفسه. ونؤكّد على أنّ منع تيار وصل الى الحكم عبر صناديق الاقتراع من ممارسة حقّه، يعتبر دعوة مفتوحة للعنف والقمع، ولا مبرّر لصاحبها مهما كانت ذرائعه، مدام ذلك التيار متمسك بما قلتم بأن سفينة الوطن لكل شرائح الشعب والأمة، وعلى بعض المفكرين ألاّ يُنَصِّبوا أنفسهم أوصياء على الخلائق وأنْ يحترموا توجّهات الناس وخياراتهم .

عدم تنميط القوى والاحزاب أو الافكار والعقائد ، والحذر من سحب النتائج  الجاهزة بشكل ميكانيكيّ على هذه الظاهرة أو تلك المجموعة .

والإسلام باعتباره ديناً سماوياً مؤثّراً وعظيماً، يحتاج منّا إلى حوار موصول، لعلنا نجد على ما نصل إليه هدى، يساهم في تصحيح المفاهيم، أو وضع الكوابح أمام بعض المواقف أو المصطلحات المُنفلتة.

إنّ فكرة الدّين أيديولوجيا "أدلجة الدّين" هي عدائية استهدفت الإسلام، ووضعته في مصاف مُخرجات الإنسان، وكان ذلك يتزامن مع بزوغ الأيديولوجيات وتبلورها.

إنّ الدّين غريزة منذ الأزل، وثمة فرق بين الدّين كحاجة نفسية وسلوكية واجتماعية، وبين الدّين كفكر .

والدّين حقيقة تحولت إلى مقدّس . أما معظم الأفكار فهي معتقدات، في ظروف وسياقات مختلفة ومع الزمن،  تكتسب قداستها .

والإنسان، هذا الفرد الكائن الاجتماعي، هو منظومة، والمنظومة لا يجوز فصل أجزائها أو تعبيراتها عن بعضها، بمعنى لا يجوز فصل الفكري عن السياسي أو الاجتماعي عن الثقافي أو النفسي عن الاقتصادي وعْياً وممارسة وعلاقات .. الخ، لأنك بهذا تفصل ما لا يُفصل . وبهذا فإنّ الفصل في منظومة الكائن، الكائن السماوي والكائن الأرضي، هو فصل تعسفي . والدّين الذي جاء ليحرّر الأفراد من عبوديتهم لبعضهم البعض، ومنح الحرية التامّة للإنسان في مواجهة ظُلم أخيه، هو الذي حفظ كرامة البشر، وبالذات عندما اعتبر أنّ المُطلق هو كلام الله عزّ وجلّ، وليس كلام القائد أو الزعيم أو الحاكم، وبدليل أنّ أكبر جهاد عند الله هو كلمة حق أمام هذا الظالم، وبدليل أنّ كل بني آدم يؤخذ منه ويُردّ عليه إلاّ النبي المعصوم عليه وعلى آله الصلاة والسلام . والدّين الإسلامي، وخاصة العقيدة والعبادات هي ثابتة، أما كل ما يتعلق ويخص الحياة فهو خاضع للإبداع والاجتهاد، ونرى ذلك من خلال الآيات التي دعت للتفكّر والتفكير (ما كتبه ابن رشد في تمجيد التفكير عند ردّه على الغزالي في التهافت، ومحاولاته في خلق حالة من الإنسجام بين العقل والنقل) .

ونشير إلى أنّ معظم الأفكار تبدأ، عادة، عقلية ثم تصبح حالة وجدانية، والتديُّن حالة وعي، ولا تديُّن بلا حالة وعي، لأن الوعي جوهر التعبير عن العقل، وكل عمل العقل هو الوعي، والعقل يحتوي المعرفة، ومن الناحية العلمية فهو يعيها، بمعنى أنني إذا وضعت "النقل" على خط مستقيم مع "العقل"، فإنني أحوّل العقل إلى مخزن، وهذا ليس من العقيدة الإسلامية في شيء، لأن العقيدة تقوم على وعي النقل/ المعرفة، وهذا إبداع بحد ذاته.

والتديُّن طاقة روحية هائلة قادرة، في حالة استثارتها، على اجتراح معجزات عبقرية، وهي تلك الطاقة التي تحرّك الملايين في مواجهة جلاديها تاريخياً. هذه الطاقة هي أهم تجلّيات الوعي، الذي انسرب إلى الوجدان وتسربل فيه وخلق النسغ القادر على إحداث القشعريرة والانفعال.

والدين الإسلامي ثقافة للدنيا (الدين من الدنيا) وليس ثقافة للآخرة ( الإسلام يبعثك إلى الآخرة بشكل يجعلك مقبولاً )، أي أنّ الدّين زمنٌ أرضي .

وإنّ أيّ فكر أو دّين أو عقيدة بالإمكان تأويله بشكل مغلوط، والذهاب به إلى القراءة الخطأ، ما يؤدّي إلى التعصّب والتطرّف والظلامية، قولاً أو فعلاً، وهذا لا يقتصر على دّين دون آخر .

وإنّنا نرفض ثقافةَ تصدير الخوف والإرهاب والتوصيف السلبي، كما أننا مع ثقافة النقد في مواجهة ثقافة الرفض .

وتجدر الإشارة إلى أنه بالإمكان استخدام أيّ دين بكيفيّة مرعبة وخطيرة، مثلما يتمّ استخدام الثقافة أو الإعلام. وثمة غلبةٌ للتقاليد والعادات والقيم السائدة في الحياة، لكنه لا يجوز تحميل أوزارها للدّين، كما لا يجوز الدخول إلى نظرية أو فكر من خلال جزئية أو عبر تفصيل، بل علينا أخذ النظرية كاملة ثم الدخول إلى فروعها وتفاصيلها.

وبظنّي أنّه تمّتْ عملية تغييب للدّين الصحيح عمداً، مثلما تمّت عملية تشويه مقصودة للعقيدة، عبر إظهار تنظيمات متطرّفة مُجرمة تتزيّا بالدّين وتنطق باسمه، عدا عن أن الكثير من المُنظّرين الإسلاميين ما زالوا يتعاطون مع الإسلام باعتباره ديناً شرق أوسطياً، ولم يبحثوا حتى اللحظة عن الآليات المطلوبة لتمريره كدين عالمي، ونؤكد أن ثمة أزمات (كبت اجتماعي، جهل، غياب للعدالة والمساواة) ونرى نتوءاتها في الحياة، وقد أسقطت ظلّها الثقيل على الدّين، ما جعل البعض يخلط، ظُلماً أو جهلاً، بين العادات والأزمات والدّين.

وأخيراً، ومع إقرارنا بأن ثمة  رُهاباً "فوبيا" قديمة في الوعي الغربي من الإسلام بفعل الفهم المغلوط والاحتكاك بالعثمانيين والأندلس والحروب الصليبية، إلا أن الغرب، مُطالب بإمعان نظره في النص الإسلامي القابل للتأويل السليم والاجتهاد والخصوصية، باعتبار الإسلام فكراً إنسانياً تخطّى الجغرافيا والزمن، لما لديه من قدرة على التعاطي مع المتغيّر .

ولقد ظهرتْ بعد الربيع العربي، على السطح، الكثير من القضايا والأسئلة المتعلّقة بالواقع الراهن ، ووجدنا غير إجابة ومُداخلة، من بعض المفكرين والسياسيين، من شتّى المشارب والتوجّهات الفكرية، ومنها: المواطنة ومفهومها ، والدستور والقانون ، ومسألة إقامة الحدود .. وما إلى ذلك من قضايا ندرك أهمية مواصلة التحديق فيها ومناقشتها بوعي وهدوء .

إننا ننظر إلى تجربة نهضتكم بكثير من الإعجاب ، ونسعى لأن نفهم مقاصدكم ، لإغناء رؤيتنا وإضاءة طريقنا ، لتعميق النقاش المجدي ، ولترميم صورة ديننا الحنيف ، وللوصول إلى الأهداف كما ينبغي لها ولنا .

بارك الله تعالى بكم ، وسدّد على طريق الحق خطاكم ، والسلام عليكم  ورحمته وبركاته .