لمن لايعرف الفرق بين الخطا الطبى والاهمال الطبى

لمن لايعرف الفرق بين الخطا الطبى والاهمال الطبى
دكتور ضياء الدين الخزندار / فلسطين ـ غزة
رئيس قسم جراحة العمود الفقري والعظام ، في مستشفى الشفاء ( سابقاً).
ناشط نقابي ، وعضو مجلس إدارة جمعية المتقاعدين الفلسطينيين غزة سابقا
لايعرف الفرق بين الخطأ الطبي والإهمال الطبي؟ ومتى يجب أن يعاقب الشخص المعالج؟ كانت هذه القضية هي محور المناقشة في إحدى المحاضرات في جامعة هارفرد أثناء إعدادي لرسالة الماجستير في القوانين والإدارة الطبية.
في بداية المحاضرة عرضت علينا قضايا مختلفة، وكانت أحدها لممرضة في قسم العناية المركزة أقدمت على خطأ جسيم أدى إلى وفاة المريض حيث أخطأت تحت ظروف العمل القاسية والإنهاك فأوصلت إبرة محلول الغذاء بالأنبوب الموصل بالشريان بدلاً من أن توصله بالأنبوب المتصل بالجهاز الهضمي، مما أدى إلى وفاة المريض. وعندما سأل البروفيسور الأطباء في المحاضرة: من منا يعتقد بأن الممرضة لا بد أن تطرد أو تعاقب؟ كانت نتيجة السؤال أن أكثر من ثلاثة أرباع الأطباء أجابوا بأن الممرضة لا بد أن تطرد وتعاقب. ولكن بعد ساعتين من المحاضرة والمناقشة وعرض نتائج الدراسات المكثفة التي قامت بها أمريكا في هذا المجال أعاد البروفيسور سؤاله الأول على الأطباء الحاضرين فكانت النتيجة أن الأطباء أجمعوا في هذه المرة على أنه ليس من الضروري أن تطرد الممرضة أو تعاقب ولكن لا بد أن يتم التحقيق في النظام أو التنظيم الطبي في المستشفى الذي سمح أو ساعد على حدوث الخطأ. قد يبدو هذا المنطق غريبا للكثير بمن فيهم الأطباء، ولكنه ليس رأيا شخصياً لبروفيسور في هارفرد وإنما هو نتاج دراسات مكثفة أُجريت في أمريكا وكلفت مئات الملايين من الدولارات وما زالت هذه الدراسات مستمرة.
بدأ موضوعنا بحقيقة، هي أنه بالرغم من أن أمريكا تعتبر أكثر الدول حرصاً وتخوفاً من الخطأ الطبي ونظراً لسهولة عملية رفع القضايا الطبية ضد المستشفيات، ولدفع تعويضات لمرضى قد تصل إلى مئات الملايين في بعض الحالات، إلا أن هناك أكثر من 180 ألف شخص يموتون كل عام نتيجة الخطأ الطبي، وهذه الحالات تحدث متفرقة في أكثر من خمسة آلاف مركز طبي، ويمكن أن نتوقع أن هذا الرقم يحدث بشكل مضاعف في معظم دول العالم التي لا تتمتع بالتقدم الطبي العلمي والتعليمي والإداري كالولايات المتحدة، ولكن الإحصاءات غير متوفرة، وسبب الوفيات غير معروف في الأغلبية العظمى وهناك دراسات توثق هذه المعلومة.الخطأ البشري والأنظمة الطبيّة
بينت الدراسات أن السبب الرئيسي في الخطأ الطبي هو الاعتقاد بمبدأ خاطئ يتعارض مع الطبيعة البشرية، هذا المبدأ هو أن الإنسان لا يخطئ.
وبناء على هذا المبدأ فإن التنظيم الطبي في معظم المستشفيات يعتمد على دقة المعالج وقدرته على تفادي أي خطأ بدلاً من أن يفترض التنظيم الطبي أن الخطأ سيحدث لا محالة وعلى التنظيم أو النظام الطبي معالجته، ومنع وقوعه. وبذلك فإن الدراسات تشير إلى أن أي خطأ هو في معظم الأحيان في التنظيم الطبي المتبع في المستشفى لا في الشخص المعالج حيث إن الإنسان بطبيعته يخطىء ويسهو.
وقد ساعدت هذه الدراسات في إعادة تصميم كثير من الأنظمة الطبية في أمريكا، ومثال ذلك فإن الخطأ الذي ارتكبته الممرضة – الذي أشرت إليه في أول المقال – ما كان ليحدث لو أن محلول الغذاء المفترض أن يوصل بالجهاز الهضمي لا يمكن إيصاله بأي حال في أي من الأنابيب الأخرى )تماماً كما أن الشخص لا يستطيع أن يملأ الديزل لسيارة تسير بالبنزين نظراً لاختلاف تصميم فتحة كل منهما(. وبذلك تم تغيير جميع الأنابيب والتوصيلات الخاصة بها حيث لا تستطيع الممرضة الخطأ حتى لو أرادت (ذلك وهذا ما يسمى بنظام تفادي الخطأ).
ومثال آخر هو الاعتماد على الكمبيوتر في اكتشاف وجود موانع لصرف الدواء للمريض مثل حساسيته للدواء، أو تعارضه مع دواء آخر يتناوله المريض.
وقد قامت الجمعية الأمريكية للتحذير بوضع لوائح وبروتوكولات وقوانين موجهة لجميع أطباء التخدير حول أمريكا، مما أدى إلى خفض نسبة الوفيات نتيجة التخدير من واحد في العشرين ألفاً إلى واحد في المائتي ألف والأمثلة كثيرة جداً لا يسعنا التحدث عنها هنا. وخلاصة القول هو أن المفهوم الطبي للخطأ الطبي الذي لا يتجاوز محاولة معاقبة الشخص المعالج بدون دراسة جذور المشكلة وأسباب حدوثها لا يؤدي في النهاية إلى العوائد المرجوة من تفادي خطأ مشابه في المستقبل، بل أثبتت الدراسات الميدانية أنه يؤدي إلى الخوف والرهبة من تسجيل أو كتابة أو الاعتراف بالخطأ وبالتالي استمرارية الأخطاء في النظام وتفاقمها مع الأيام والمعاقبة لا بد أن تكون في حالات التعمد أو الإهمال أو مخالفة واضحة للأنظمة والقوانين الطبية أو غيرها من الأسباب التي لا يستطيع الحكم عليها إلا أولو العلم في هذا المجال. وبمثل هذا الوعي يبنى مستشفى المستقبل بتخطيط وتنظيم يحمل مسؤولياته حفاظاً على الثقة
الخطأ.. بين الطبيب والنظام الطبي
وبذلك يمكن القول إن الطريقة الصحيحة هي أن يفترض التنظيم الطبي أن الخطأ سيحدث لا محالة على يد أفضل الأطباء وأقدرهم لأنهم بشر (وكل ابن آدم خطاء) وعلى التنظيم أو النظام الطبي منع وقوع الخطأ ومعالجته في مراحله الأولى في حالة حدوثة، وبذلك فإن الدراسات تشير إلى أن أي خطأ طبي هو في معظم الأحيان خطأ في التنظيم الطبي المتبع في المستشفى، وهذا في حد ذاته لا يخفف عن الطبيب عبء مسؤولياته تجاه الأرواح التي اؤتمن عليها ولا يسقط عنه العقاب في حالات التعمد والإهمال أو المخالفة الواضحة للأنظمة والقوانين أو غيرها من الأسباب التي يستطيع الحكم عليها أولو العلم في هذا المجال، وإنما الهدف هو التركيز على التنظيم الطبي الذي أدى إلى حدوث الخطأ لكي تتم الاستفادة من الأخطاء وتفاديها مستقبلاً، وبذلك المفهوم الصحيح للخطأ الطبي في إعادة تصميم كثير من الأنظمة الطبية في أمريكا، ويمكن تلخيصه في أن المفهوم الخاطئ للخطأ الطبي الذي لا يتجاوز محاولة معاقبة الشخص المعالج بدون دراسة جذور المشكلة وأسباب حدوثها لا يؤدي في النهاية إلى العوائد المرجوة من تفادي خطأ مشابه في المستقبل، بل أثبتت الدراسات أن تركيز الجهود على معاقبة الشخص المعالج يبعث في نفوس العاملين في النظام الطبي الخوف والرهبة من الأخطاء والعقاب، مما يؤدي إلى إخفاء الأخطاء وعدم الاعتراف بها بدلاً عن محاولة معالجتها ودراسة أسباب حدوثها، وبالتالي تستمر الأخطاء في النظام وتتفاقم مع الأيام ويخسر المجتمع قاطبة فرصة الاستفادة من أخطائه.
وقد بينت الدراسات كذلك أن الأخطاء التي انتهت إلى المحاكم القانونية واستمرت لسنوات عديدة وكلفت الملايين من الدولارات لم تؤد في النهاية إلى الغاية المرجوة من تعويض المريض بالإضافة إلى تصحيح التنظيم الطبي حتى لا يتضرر مريض آخر مستقبلاً من خطأ مشابه.وجهة نظر الطبيب والمستشفى المعالج
– هناك شك عام في النظام الطبي، والمريض ينظر من خلال نظارة الشك فيرى كثيراً من الأمور بمنظار خاطئ ويفسرها تفسيرات خاطئة.
– هناك مبالغة وتشويه للحقائق من قبل المريض نتيجة الشك المستحكم في النظام الطبي.
– جهل كثير من المرضى يجعلهم عرضة للفهم الخاطئ فيخلط بين مفهوم الخطأ الطبي الناتج عن الإهمال وبين المضاعفات المتوقعة لكثير من العمليات التي لا بد وأن تحدث بهذه النسبة في أفضل مستشفيات العالم وعلى أيدي أفضل الأطباء.
– ما زالت (عقدة الخواجة) متحكمة في كثير من المرضى العرب، وهذه العقدة هي نتاج مركب النقص الذي تعاني منه فئات كبيرة من المجتمع، فنجد أن المريض يقتنع بكل ما يقوله الطبيب الغربي ويشك في كل ما يقوله العربي وإن كان الطبيب العربي أكثر علماً وخبرة من الغربي في كثير من الأحيان.
– الشك المستحكم في النظام الطبي للمستشفيات يجعل المريض يتهم المستشفيات بالابتزاز والاستغلال، في حين أن المريض نفسه إذا ذهب للعلاج في مستشفيات الغرب فإنه يدفع عشرات الأضعاف للعلاج ولا يبالي أو يستنكر ما يدفع، وإن كان من جيبه الخاص.
– المرضى يطالبون برفع المستوى الطبي والعلاج، ولكنهم في نفس الوقت غير مستعدين لدفع ثمن ذلك، وما يدفعه المواطن العربي للعلاج بشكل عام أقل بكثير مما تدفعه الشعوب المتقدمة.