هجرة الكفاءات والأطباء - طبقات المجتمع الجديدة !

هجرة الكفاءات والأطباء - طبقات المجتمع الجديدة !
كتب غازي مرتجى

*
كل فئة مُجتمعية تنسج في مُخيلتها أنها رافعة المجتمع دون غيرها , فالطبيب يعتبر نفسه نُخبة المجتمع ولا (حياة) دونه بعد الله - والمُحامي يعتقد أنه يحكُم بلسانه لدى القاضي بين الناس والمُعلم يعتقد أن كل المناصب حسنُها وسيئها نتاج تعليمه والصحفي يعتبر أنه يُحامي عن الناس ويُراقب كل الفئات أعلاه وغيرها .
هذه الخيالات التي تتمايز في تقبُلها من شخص لآخر ومن فئة لسواها تتسبب ودونما شعور بخلق حالة جدلية طبقية لا شعورية لكنها تُصبح مع الأيام واقعاً مُعاشاً ولا بُدّ من قبوله .
الطبيب يستنكر حديث العامّة عنه ويعتبر أي خطأ قد يقع به أي زميل له قضاء وقدر ولا حاجة للمساءلة , المُحامي يعتقد أنه مُنزّه عن الأخطاء وأنه هو من يصنعها ويتحكّم بها وبالقانون - المعلم يعتبر نفسه فئة مظلومة يُطالب دوماً بالمزيد .. والأدهى والأنكى مؤخراً اعتبر "الصحفي" نفسه مُحاطاً بحصانة سمّها وصفها بما شئت ولا يجوز لزملائه في المهنة أو غيرها إظهار الخلل لديه ومصائبه !.
هذا التمايز الغريب والاتفاق غير المُعلن بين الفئات المختلفة يضعنا في دائرة الخطوط الحمراء التي لا يجب تجاوزها , وهذه الخطوط الحمراء وإن كانت غير مُعلنة فهي ستكون دافعاً داخلياً سواء لدى المواطن أو مرآته (الصحفي) أن يصمت عنها ولا يتطرق لها .
لا حصانة لأي شخص أمام "النقد" والنقد هُنا يجب أن يكون نقداً بنّاء لا للهدم والتشهير , وكل الاستغراب من ربط تحقيق صحفي بنظرية المؤامرة وتشويه المقاومة !
نحن أمام وصفة غريبة عجيبة خلقها "الانقسام" تسبّبت بما لا شك فيه بخلق خطوط حمراء (لا حمراء) وزادت من  تابوهات الحظر  (اللامحظورة) وعنونت أي نقد في سياق سياسي (لا سياسي) والألعن مؤخراً وضع بعض النقد ومحاولة التصحيح في سياق لا يختلف عليه اثنان وهو (المقاومة) .
لا تهدموا المشاكسة الجميلة ولغة النقد (الحُلوة) وتحشروا المواطن قبل الصحفي في زوايا لا يُمكن تأسيس دولة الحرية والقانون  بعدها !

**

في سياق الحديث عن الطبقات الاجتماعية المُصطنعة ذات الفئوية الناجمة عن أساس المهنة والعمل فإنّ هذا يلزمه تنسيقاً بين تلك الفئات لصالح "المواطن" و "الدولة" معاً .. فلا الصحفي يعيش بدون طبيب ولا المُحامي كان ليًصبح كذلك دون "معلم" , لا الطبيب سيتمكّن من توضيح مفاهيم خاطئة عند المواطنين دون الصحفي ولا الأخير سيتمكّن من إثبات براءته دون المحامي .. وهكذا هي سلسلة من المصالح المشتركة والعيش المرتبط بالآخر ولا يُمكن الفصل بينهم .
وفي الحديث عن الأطباء فإنه وبحسب ما نقل لي ثُقاة أعرف صدقهم أن الطبيب الذي اتُهم مؤخراً بالتسبب بخطأ طبي هو المتخصص الوحيد في قطاع غزة ومن أشهر أطباء التخدير في فلسطين , ولو لم يكن له إنجاز سيكون لديه عشرات العمليات النوعية الناجحة وحالات قد نصفها مجازاً بـ(إنقاذ أرواح) .
وسائل التواصل الاجتماعي أجبرت العامة عن التحدث بلغة قاسية , ومسؤولي الطب في غزة وممثليهم أيضاً كانوا بموقف متأخر فلم يُنشر توضيحاً (وهو توضيح منطقي) إلا بعد حين  .. أو كما يُقال بعد أن "وقعت الفاس في الراس" .
جلست مع نقيب الاطباء في غزة عدة مرّات واقترحت عليه جسر الهُوّة بين طبقة الأطباء وطبقة الصحفيين (إن جاز التعبير) نظراً لأن مرآة المواطن هو الصحفي ووسائل الإعلام , لم يُنكر النقيب تجاوزات ناجمة عن فكرة خاطئة من  بعض  الاطباء لكن وبما استمعت له من (حكايات) فإن الخلفية الراجعة عند بعض المواطنين والحُكم المُسبق على الأطباء يحتاج إلى مراجعة وتعديل  وباعتقادي يُمكن إعداد خطة "وطنية" لحماية الطبيب وهو كنز استراتيجي يجب عدم التفريط به من تلاعب وسائل التواصل الاجتماعي والصورة النمطية المُسيئة عند البعض .
لنا أن نعرف أن عدد كبير من المتخصصين (هاجر) إلى الخارج بسبب هذه الصورة الخاطئة - ولنا أن نعرف أن بعض الأطباء ممن صرفت عائلاتهم آلاف الدولارات عليهم يعملون بعقد يُسمى (عقد صفري) نظراً لوقف التوظيف بسبب الانقسام , هذا العقد المُجحف سيتسبب بهجرة هذا الطبيب للخارج دون تفكير بالعودة حتى .
هجرة الكفاءات ومن ضمنها "الأطباء" وتغيير النمط التفكيري عند المواطنين حول فئة مهمة أو محاولة التأثير عليهم بما يخدم المصلحة العُليا الوطنية التي ترتكز بالأساس على كفاءات كافة الفئات وبالتأكيد "الطب" من ضمنها - يجب أن يكون في نقاش موسع ودائم (لا مرحلي وقتي) بين كافة الفئات (الطبقات)  ذات العلاقة , دون تأخير أو تأجيل .