نيذة عن الأسير معاذ سعيد أحمد بلال

نيذة عن الأسير معاذ سعيد أحمد بلال
رام الله - دنيا الوطن
الميلاد: في الخامس والعشرين من شمس تموز (يوليو) لعام 1971م الساطعة على هموم شعبنا المُعذَّب, وبين جبال مدينة نابلس المتعالية على جبروت الاحتلال وظلمه, وفي بيتٍ حجراته مليئة برائحة الجيش الذي داسته أقدامهم تنكيلاً بأهله ومساحته الفيّاحة برائحة الحنين إلى كل من عبروها وداسوا ترابها, كانت آلام المخاض تتغلغل في جسد أمي إيذانا بميلادي دون أن تعلم أنَّ القدر بهذا الميلاد يبشرها بآلام أشدُّ وأقسى.

النشأة: كانت لعتبات البيت الذي طالما تعثَّرت قدماي بهما, أهم الأثر في تربيتي منذ أن نبست شفتاي بالكلام لأتنشَّأ في حضن أبي الذي كان يمارس الدعوة في مساجد نابلس في ربوع حركة الإخوان المسلمين الأدب والخلق والتدين والثورة التي مارستها دون علمي بها وبمعناها, إذ أسقطُّ جنديا أرضا بوضع عصاه بين قدميه, ليصفعني على وجهي بعدها لتكون بداية الحكاية قد ارتسمت على وجهي بأصابعه الخمسة, بدأت طفولتي تتعلّق بخطى أبي نحو المسجد الذي يُدرِّس فيه وبكلمات مواعظه التي يبثها بين أهل نابلس, إلى أن سارت هذه الطفولة نحو بيتٍ آخر وهو مدرسة جعفر بن أبي طالب مدرسة أتلقَّى فيها تعليمي الأساسي الذي كان يرافقني فيها اللَّقب الذي توشَّحتْ به أسرتنا وهو بيت الشيخ, إذ كنت ألقَّب بابن الشيخ دون علمي بقيمة هذا المُسمّى, مع ما كان ينتشر من خرافات حول الإخوان المسلمين التي كان أبي أحد مؤسسيها في مدينة نابلس.

بدأ تدرُّج أقدامي صوب الصف الرابع الأساسي, كانت لي صفعة أخرى من قِبَل الجيش المجرم, لكن هذه المرة باعتقالي مع أمي بعد مداهمة منزلنا والتنكيل بمحتواه, بمحاولة للضغط على أبي ليُدلي باعترافه للمحققين, فكان من المحقِّق أن أجلسني في حضن أبي المُكبَّل بأغلال الحديد وأمرني أن أُحدِّق في عينيه, وأُقبِّل وجنتيه, وأن أُداعب شعرات لحيته المتناثرة مع استجابة كاملة لطفولتي البريئة لكلمات المحقّق التي طلبها لأقولها لأبي: أن احكِ الحقيقة يا أبي وعيون أبي تنظرُ بي كأنها تقول: تمرد ,لو رأيت أكثر من هذا الضرر فنحن يا بني لم نخلق لتعليق الصور, ثم بعد هذا الحوار الذي أدارته عيوننا انتزعني محقّق آخر من حضنه, وأنا أصرخ بابا لأُضع في زنزانة منفردة لم أسمع فيها إلا صوت بكائي الذي ما توقف, بدأت طفولتي تكبر مع وصية التمرد التي حفرها في ذاكرتي أبي لأُنقل إلى مدرستي الثانوية,لاحقا برحيلنا بالسكن إلى مخيم بلاطة لأمارس منذ طفولتي دور الشيخ الذي ورثته بين صفوف الطلاب, وإذ قمنا بإنشاء ما يسمى الشباب المسلم في المدرسة, لنكون بهذا المسمّى قد بدأنا الطابع الحركي الفاعل في جماعة الإخوان مترافقا مع حادثة المقطورة التي أشعلت الانتفاضة الأولى في الضفة وغزة فانخرطُّ في صفوفها, وحملت الحجارة الثائرة مُعلِنا اللعنة على بطش رابين الذي كان يكسر عظامنا, فكان الشباب المسلم في مدرسة الثانوية حاضنة لمقاومة الحجارة.

الحالة الاجتماعية: شكلت طفولتي المُعذَّبة بين أزقة البلدة القديمة في حياتي البسيطة المتواضعة, وخيم الفقر عليها لظروف الوالد واعتقاله وعدد الأسرة المتزايد المنتمي للعلم والقلم الذي التحقت من خلاله بجامعة النجاح الوطنية التي احتضنت وطنيتي لتعيد توجيهها في إطار أوسع في صفوف الكتلة الإسلامية التي ربيت فيها نفسي وعقلي وقلبي إذ كنت أعمل في لجانها سائرا على درب أبي الدعوي والعلمي في كلية الشريعة, وارتقيت من خلال الكتلة الإسلامية بسلم كتائب القسام في عام 1994م , مع مجموعة ضمت كوكبة من خيرة شباب وعلى رأسهم الشهيد يحيى عياش, وعلي عاصي, وعدنان مرعي, ومازن ياسين, ليكون اعتقالي الأول على خلفية مساعدة هذه المجموعة الذي استمر 11 شهرا, ثم أُفرج عني بعدها لتتبدَّد حياتي العاطفية ناسية خلفها أمنية أمي بالزواج التي راودتها, لأعاود الاعتقال ثانية في عام 1995م على إثر نشاطي في الكتلة الإسلامية وحصولها على مجلس اتحاد الطلبة لأول مرة الذي استمر لمدة 17 شهر, ليضاف لشلال نزيف المعاناة جرحا جديدا تبعه جرح آخر بعد أسبوع من اعتقال أخي عثمان على خلفية الانضمام لصفوف القسام.

العمل الجهادي: بدأ مع لغة العيون التي دارت بيني وبين أبي وهو يوصيني بالتمرد على هذا الغاصب في غرف التحقيق وأقبيته, وما تبعها بعد ذلك من دورنا في انتفاضة الحجارة التي كنا نلاحق فيها جيش الاحتلال الإسرائيلي وقطعان المستوطنين في أزقة المخيم وجنباته , إلى أن بدأ التمرد الحقيقي بعد خروجي من السجن بأيام ثلاثة لِأُشكِّل فيها المجموعة الأولى مع الأخوين نسيم أبو الروس وجاسر سمارو, ثم رُبطنا بمجموعة أخرى من الأخوة خليل الشريف ومحمود أبو هنود وآخرون, وعلى أثر الجمع بين مجموعتين تم الاتفاق في عام 1997م على تشكيل الجهاز العسكري في المدينة من جديد والعمل بشكل مشترك, وإذ تقوم مجموعتنا بتصنيع المتفجرات والأخ خليل الشريف بالرصد, والأخ أبو هنود بتنظيم الاستشهاديين التي أسميناها المجموعة المشتركة (وحدة الشهداء لتحرير الأسرى) وكان من أهم أعمالها:

1- العملية الأولى كانت في اليوم الأخير من تموز (يوليو) لعام 1997م عنوانها الرد على الصور المسيئة للنبي محمد –صلى الله عليه وسلم- التي وزعها مستوطنون في مدينة خليل الرحمن بالإضافة لمطالبة القسام بتحرير الشيخ أحمد ياسين الذي كان معتقلا آنذاك وإخوانه المؤبدات والتي نفذها كل من الشهيدين معاوية جرارعة وتوفيق ياسين من عصيرة الشمالية في سوق محانيه يهودا في القدس المحتلة والتي أسفرت عن مصرع 15 صهيونيا وإصابة 170 آخرين.

2-  العملية الثانية التي كانت في مدينة القدس أيضا من العام نفسه وفي الشارع بن يهودا والتي نفذها كل من الشهداء: خليل الشريف وبشار صوالحة ويوسف شولي وأسفرت عن مصرع 4 صهاينة وإصابة 200.

الاعتقال: الاعتقال كان الثالث والأخير والذي بدأ في 11 كانون الثاني (يناير) لعام 1998م والذي ما زال مستمرا ليومنا هذا, إذ كنتُ متواجدا في مدينة الخليل في لقاء جمعني مع الشهيدين: محمود أبو هنود وعادل عوض الله, وأثناء عودتي إلى نابلس تم اعتقالي في كمين عند مخيم العروب ثم إلى التحقيق الذي استمر لمدة 3 شهور, لأعيش تجربة التحقيق القاسية, التي رأيتها على جسد أبي وأنا على ركبتيه يوم أن اقتادوني طفلا لإضعافه, ثم حكمت بعد ذلك لأحكم على إثرها بالمؤبد 26 مرة و27 سنة ثم إلى السجن من جديد.

مرحلة السجن: برغم قساوة السجن وجبروت الاحتلال وسجانيه إلا أن السجن علمني إما أن تقهره أو أن يقهرك, وأنا اخترت بفضل الله الثانية فقهرته بقربي إلى الله وصلتي الوثيقة بكتابه الكريم والمطالعة والعمل الحركي والاختلاط بأبناء شعبنا إذ وفر لنا السجن معرفة كاملة بكل ألوان شعبنا الفصائلية, هذا حالي أما حال العائلة فما زال مسلسل المعاناة تعدُّ حلقاته حلقة بعد حلقة فمنذ العام 1993م لم يُقدَّر لها أن اجتمعت إلا مناصفة, فقد اجتمعت مع أشقائي عثمان وعبادة والشهيد بكر, أما أبي فقد اجتمع بملك الموت الذي أراحه بمصارعته إلى روحه الطاهرة فقد غيبه القبر هذه المرة بعد أن غيَّبه الاحتلال عنا مرات ومرات وغيبنا عنه سنوات وسنوات, أما الأم الصابرة التي اعتادت الصبر والجلد وهدّها طول الانتظار وحبس مدامعها التي كانت تصرُّ أن تخفيها عنا لتعيش دور الأب وحنان الأم فقد شاركتنا السجن أيضا بعد اعتقالي خامسنا لعدة أيام, وها هي اليوم تناهز السبعين من عمرها حاملة في قلبها جمرة الاحتلال الذي حرمها من زوجها مبكرا, ثم من أبناءها وكان آخرهم الشهيد بكر.

التعليقات