عيد العمال بين فهمنا للعمل وبين الثقافة السائدة

عيد العمال بين فهمنا للعمل وبين الثقافة السائدة
كتب: أ. أحمد صبحي أبو مصبح


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى من تبعه بإحسان إلى يوم الدين ثم أما بعد،،،

يقول المولى عز وجل " وقل أعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنين"، يصادف في هذه الأيام عيد العمال، ولعلي لا أفضل أن يكون هناك يوماً مخصصاً للعامل، فكل أيام السنة يجب أن يقدر فيها العامل، وأن يرفع من شأنه، إذا عمل بأمانة، ونال أجره على أكمل وجه، لهذا لم يعرف الإسلام والمسلمون تلك البدع إلا في زمننا هذا، وحتى لا نخرج عن سياق الموضوع، فالعمل عبادة، والإسلام حث على العمل، ولا بد للعمل أن يقترن بعلم وعبادة، كي يصل إلى درجة العمل النافع، الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم "علم ينتفع به"، فالكون يحتاج إلى تعمير وبناء، وهذا البناء يحتاج إلى حشد الطاقات البشرية والهمم للوصل إلى الإعمار ومواكبة التطور العلمي، لأن الله عز وجل استخلفنا فيها لإعمارها لقوله "إني جاعل في الأرض خليفة"، فخلافة الأرض ليست بالعبادة فحسب، بل بالعمل والعلم فالرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب" ويقول أيضاً " فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم" ويقول أيضاً " ولفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد"، صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فالعمل شيء مهم وضروري، وسنة كونية توارثها الأجيال طلباً للرزق الحلال، ولا شك أن الجميع مطالباً بالعمل كي يرعى شئون بيته، فلا يكون عالة على أحد، وإن كانوا من أهل بيته، فالأنبياء جميعهم كانوا يعملون، ويدعون إلى العمل، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم، فقال أصحابه وأنت؟ فقال: نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة" صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهنا تكمن الحكمة في إلهام الأنبياء رعي الأغنام قبل النبوة حتى يحصل لهم التمرن برعيها على ما يكلفونه من القيام بأمر أمتهم، ولأن في مخالطتها ما يحصل لهم الحلم والشفقة.

تلك هي رسائل الأنبياء لأممهم وأقوامهم، أما في الوقت الحاضر فقد اختلفت الأمور رأساً على عقب، فالعامل أو الأجير يعمل من أجل المال فقط، دون إتقان وأمانة في العمل، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم طالب الإنسان بالإتقان والأمانة بقوله" إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه" صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فالإتقان مطلوب، سواء في العبادات، أو الأعمال والأشغال، أو حتى في السلوك والقيم، لكن ما نشهده من تخلف وتراجع في مجتمعاتنا العربية والإسلامية هو فقداننا للأمانة والإتقان، وتركنا لسنة أنبياءنا الكرام عليهم أفضل الصلاة والسلام، واتجهنا إلى العمل من أجل الكسب المادي، دون تركيزنا على أن كل عمل يقوم به المسلم بنية العبادة فهو عمل مقبول عند الله ويجازى عليه في الدنيا والآخرة.

فالكل في هذه الأمة عامل وأجير، بدءاً من الرئيس وانتهاءً باٌل عامل، لأن الرئيس هو أجير لخدمة الشعب والأمة، لهذا عندما دخل أبو مسلم الخولاني على معاوية بن أبي سفيان فقال السلام عليك أيها الأجير، فقال الناس: الأمير يا أبا مسلم، فقال معاوية: دعوا أبو مسلم فهو أعلم بما يقول، فقال أبو مسلم: إنما مثلك مثل رجل أستأجر أجيراً فولاه ماشيته، وجعل له الأجر على أن يحسن الرعية، ويوفر جزازها وألبانها، فإن هو أحسن رعيتها ووفر جزازها حتى تلحق الصغيرة، وتسمن العجفاء، أعطاه أجره وزاده من قبله زيادة، وإن هو لم يحسن رعيتها وأضاعها حتى تهلك العجفاء، وتعجف السمينة، ولم يوفر جزازها وألبانها غضب عليه صاحب الأجر فعاقبه ولم يعطه الأجر، فقال معاوية رضي الله عنه: ما شاء الله كان.

تلك هي الثقافة التي أوجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقلها لأصحابهن ولو كانت تلك الثقافة  موجودة لما وصلت الأمة إلى مرحلة الوهن والضعف الذي نعيشه، فنحن نملك الاموال والخيرات، ولكن لا نملك عمل مخلص وعقل مفكر، فنعتمد على المنتج الغربي في التسليح والبناء والهندسة وغيره، ونكتفي بصناعات بدائية لا ترقى لحجم عقولنا العربية التي هجرت قصراً بحثاً عن الكسب المادي والرفعة العلمية، لهذا  فإن الجميع مطالب بالعمل والأمانة في عملهـ، مهما كبرت مسئوليته، أو صغرت، لذلك لما استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من الأزد يسمى ابن اللتبية على الصدقة، فلما قدم قال هذا مالكم، وهذا أهدي لي، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصعد على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ما بال العامل نبعثه فيأتي يقول: هذا لك وهذا لي، فهلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى له أم لا، والذي نفسي بيده لا يأتي بشيء إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيراً له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاه تبعر" صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فالعمل مسئولية وصدق وإخلاص، حتى من تمتع بالحصانة في التصرف في شئون الرعية وبأموال الأمة فليعلم أن الله رقيب على تلك الأموال والأعمال، ولنا في قصة عمر بن الخطاب قدوة عندما جاءت الأثواب ووزعت على العامة، فصعد عمر بن الخطاب إلى المنبر وتحدث، فقام أعرابي فقال: لا سمعاً ولا طاعة، فقال الفاروق: ويحك، قال الأعرابي: وزعت لنا الأثواب  وكل واحد حصل على ثوب وأنت يا عمر رجل طويل فلا يكفيك ثوب واحد، فمن أين لك هذا، قال عمر لابنه: قف يأبن عمر وقل له من أين هذا، فقام عبد الله وقال: لقد أعطيت والدي حقي " ثوبي" له.

هذه هي ثقافة السؤال، فالجميع تحت طائلة السؤال " من أين لك هذا" ، لأن المسئول أرتضى على نفسه أن يكون عاملاً لهذه الأمة وأجيراً لها.

أما فيما يخص أصحاب الأموال والشركات، فيجب عليهم إعطاء الأجير حقه قبل أن يجف عرقه، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن في هذه الأيام يجف دم العامل وليس عرقه، ولا ينال أجره، ويعامل معاملة سيئة، وإن نال أجره يحصل عليه بعد عناء وشقاء، لهذا أتوجه إلى كل من لديه عمال أن يتقي الله فيهم، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة، رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل أستأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يوفه أجره" صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أما عمر بن عبد العزيز، فقد دخلت عليه زوجته فاطمة بنت عبد الملك، ورأته يبكي  في مصلاه، قالت له مالك تبكي؟ قال دعيني وشأني؛ قالت له بالله عليك ما الذي يبكيك، فلما ألحت عليه قال: نظرت إلى الفقير والجائع وذي العيال الكثير والخل القليل وإلى المريض والكبير وإلى ابن السبيل..... إلخ فعلمت أن الله سيسألني عنهم جميعاً وأن خصمي دونهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلهذا أبكي.

هذه أخلاق رب العمل خاصة وإن كان ذا مسئولية ورعاة لشعوبهم ومجتمعاتهم، فهم مسئولون عن رعيتهم لقول الله تعالى " وقفوهم إنهم مسئولون"، لذلك أعجب لمن ركض وراء المنصب وفرح كثيراً ولم يدرِ أن المسئولية كبيرة، وأنه سيقف أمام الله عز وجل ليحاسب على تلك الأمانة، فعمر بن الخطاب يقول لو تعثرت بغلة في العراق لحاسبني الله عنها لما لا تصلح لها الطريق يا عمر"، وقال أيضاً أمير المؤمنين عمر" أن الله استخلفنا عن خلقه لتسد جوعتهم وتستر عورتهم، وتوفر لهم طرقتهم، فإن وفينا لهم ذلك قاضيناهم شكرها، إن هذه الأيادي خلقت لتعما فإذا لم تجد في الطاعة عملاً التمسنا في المعصية أعمالاً فأشغلها بالطاعة قبل أن تشغلها بالمعصية، فرسالتي إلى العمال والمسئولين وأرباب العمل، التقوى ومخافة الله في السر والعلن، وإلى العمال جميعاً نهنئكم بعيدكم وإن كان هناك عمال في غزة يحملون الاسم فقط دون الفعل، أي انهم عمالاً بالاسم عاطلين في الواقع، نرجو من الله أن يفك عنهم الضيق وأن يفتح لهم أبواب رزقه.

وإلى المسئولين جميعاً نذكرهم بقول الله عز وجل " فوربك لنسألنهم أجمعين * عما كانوا يعملون".