"الطابون" : صاحب اللقمة الهنية والإرث التي يأبى الاندثار

"الطابون" : صاحب اللقمة الهنية والإرث التي يأبى الاندثار
خاص دنيا الوطن
من بشار النجار

من بين الكثير من القرى الفلسطينية تؤثر بلدة حجة الحفاظ على إرث الطابون القديم فرن الفلاحين الخاص، وعبق الماضي الجميل، وذكريات الزمن التي لا تموت، حيث لا تزال الكثير من العائلات لا تعرف الخبز الجاهز الا فيما ندر، فالطابون لا تزال البيوت القديمة تحتفظ به بين أجنابها، وكما هو معروف عند كبار السن فان الطابون يتم تحضيره من خلال قالب ترابي، يتم صناعته من التربة الجيرية بعد خلطها بمادة التبن والماء وتعريضه لأشعة الشمس حتى يجف، ثم يطمر بعد ذلك بالرماد وروث الحيوانات الجاف (الزبل) بعد تغطيته بغطاء حديدي خاص.

لربما لا يختلف تحضير الخبز في الأفران الحديثة كثيراً عن تحضيره في الطابون البسيط ولكن الذكريات الباقية وزمن البساطة الذي ولى كتفيه ومضى، هو من يربط الطابون بحنين الماضي الجميل، زمن كان يقبل فيه أي حال ونعيش على أي حال، وبرغم التطور واختلاف أنماط الحياة إلا أن الطابون لا يزال حاضرا على أرض الواقع قبل أن يكون محفوراً بالذاكرة، فهو جزء من التراث والهوية، فهو كان ولا يزال صاحب اللقمة الهنية.

في بلدة حجه ما إن تبدأ رائحة الخبز الساخن تتسلل بين الازقة القديمة للبلدة، حتى يعلم الجيران والمارة أن الحاجة رئيفة بصلات قد بدأت بخبز الطابون، فهي تستيقظ صباحاً كل يوم خميس تعد العجين وتذهب الى طابونها الموجود منذ أكثر من 40 سنه لتحضر الخبز لها ولأفراد عائلتها.

تقول الحاجة رئيفة لمراسل دنيا الوطن إن للخبز على الطابون متعة لا توصف رغم انها شاقة نوعاً ما حيث أننا نكون داخل غرفة ضيقة تضيق علينا الأنفاس في بعض الأحيان، ولكن تعودت نساء البلدة على هذا الحال، وتضيف الحاجة بصلات إنها تخبز في كل مره ما يقارب ال 30 رغيف خبز تقوم بتوزيعها على أبناء عائلاتها واخوانها، وفي مرات كثيرة يقوم بعض الأقارب بالطلب منها أن تخبز لهم بعض الأرغفة، وبحسب الحاجة فان الطابون بحاجة الى مهارة ومعرفة التعامل معهم حتى لا يتسخ العجين وينضج الخبز على الوجه الصحيح.

كان الطابون في الماضي أشبه بمضافة نسوية تجتمع فيه نساء لتبادل الحديث بينما يتبادلن الأدوار فيما بينهم لخبز العجين ووجبات الغداء، كان ذلك يسوده جو من المحبة والألفة في دلالة على مدى الروابط الاجتماعية التي كانت تربط العائلات في ذلك الحين،

الحاجة فاطمة بطة تحدثت الى دنيا الوطن عن تلك الأيام وهي تجلس على مقعد خشبي أما طابون الحاجة رئيفة قائلة " كنا نجلس عند الطابون نتبادل القصص واخبار القرية وأكنت تلك أيام جميلة أذكر فيها والدتي التي كانت تأتي بالعجين على رأسها كل 3 أيام وقد كانت تصطحبن أنا تارة او احدى أخواتي تارة أخرى".

وأضافت الحاجة الى أن نساء القرية كن بعد الخبيز يقمن بوضع صواني الدجاج والخضار في قلب الطابون ثم يذهب الى بيوتهن ومن ثم يعدن بعد ساعة لأخذ تلك الصواني.

وتؤكد الحاجة بطة أن من أكثر الاكلات التي كانت تعد عن الطابون هي اكلة المسخن التي " لا يعلى عليها" فالمسخن يتم تحضيره وكما يقال "على نار هادئة".

وعن الطابون وذكرياته يقول الحاج أبو عماد صاحب ال 70 عاماً " لم نفقد البركة من بيوتنا الا عندما تركنا العجين والخبز على الطابون" فالخبز الجاهز مثل الماء لا طعم ولا نكهة له"، ومن يعرف خبز الطابون لا يأكله غيره، ويستذكر أبو عماد لنا أنه في أيام الحصيدة كان يأكل خبز الطابون مع الزيت والبصل وهذه الأكلة المفضلة لديه الى اليوم.

ويبين أبو عماد أن الحارة التي سكنها كان يوجد فيها 3 طوابين وحسب قوله إن الطابون كان يساعد في القضاء على الناموس سابقاً لان الدخان المنبثق منه بعد الاشتعال والاستخدام كان يقضي على كل تلك الحشرات، وهو أقل ضرراً للصحة لأنه يستخدم فيه أغصان الشجر واوراقها. 

يعزو الكثيرون سبب اختفاء الطابون الى التقدم الحضاري وتغيير الوسائل، فكيف للنساء أن يعدن الى الخبز على الطابون ما دام الخبز يأتي جاهزاً بكل سهولة ويسر؟ يسأل أحدهم، ولماذا يتخلى أي شعب عن إرثه وهويته حتى وان تغيرت الحياة؟ يسأل آخر.

ولكن بين هذا وذاك تطور الطابون في مجتمعنا القروي الى ما يسمى " بالوقادة " وهي فرن الحطب الحديدي الذي يتم فيه خبز العجين بنفس الطريقة القديمة، ما يدلل على محاولة تطوير إرث الطابون مع تطور الحياة.