مختصون يحللون قضية الانتحار : يحصد أرواح الشباب في غزة ويدق ناقوس الخطر

مختصون يحللون قضية الانتحار : يحصد أرواح الشباب في غزة ويدق ناقوس الخطر
خاص دنيا الوطن _ طارق أبو إسحاق

بات الانتحار والقتل   في قطاع غزة مشكلة لم تصل الى حد الظاهرة وازدادت منذ  بداية العام الحالي ، خصوصا في أوساط الشباب،ويرجع المختصون الظاهرة إلى حالة الانقسام ،وتردي الأوضاع الاجتماعية والنفسية المتمثلة باغتيال آمال الشباب وإحباطهم وقهرهم، والاقتصادية المتمثلة في ضعف الرواتب وانعدام فرص العمل والارتفاع المتواصل للأسعار .

وأثار التصاعد المقلق للظاهرة ضجة وتساؤلات في الشارع الغزي "دنيا الوطن "التقت بعدد من المختصين لمعرفة الدوافع التي جعلت الشباب يتوجهون للتخلص من حياتهم بأبشع الصور .

رأي الدين

وقال الشيخ محمد أبو جامع رئيس هيئة علماء السلف في فلسطين ،لا يصح الانتحار لأنه محرم شرعا ،ومجرد التمني لا يصح ،فما حال الذي يقتل نفسه ،حيث قال رسول الله صلي الله عليه وسلم :( لا يتمني أحدكم الموت لضر حصل به ،فأن كان لابد أن يتمني الموت يقول اللهم أحسن ما كان في الحياة خير لي وتوفني لو كانت وفاتي خير لي)  .

وبين أن العلماء أجمعوا علي حرمة الانتحار ،وحالة التردي الموجودة في القطاع من الناحية الاقتصادية والنفسية سببها الحروب التي شهدها القطاع في السنوات الماضية .

ووجه الشيخ أبو جامع رسالة إلى الشباب  أن يصبروا علي البلاء والأمر يتطلب الصبر خاصة أننا في أرض الرباط ،ونحتسب نوكل الله عز وجل عليه من جلب لنا هذه المأساة ،وقال تعالي :{ وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون } .

وأشار أن النواحي النفسية أثرت علي المواطنين ،حيث بلغت أن الإنسان يقل نفسه وأباه وأخاه وأمه ،وإذا ما استحكمت هذه العادة بالناس لاتبشر بالخير ، سيتحول المجتمع إلى مجتمع إجرامي ،والروح عنده لا تسوي شئ والدم يستخف به.

وذكر أن هناك نشئ يتغنون بالقرآن فقط في حناجرهم ، وقطيعة الرحم هذه أمور صعبة جدا في مجتمعنا الذي يقول أنه مسلم ،و هذه الحالة الطارئة علي مجتمعنا ، تدل أن الناس وصلوا إلى نقطة اليأس من الحكام والقائمين علي شؤونهم ،واستيئسوا بعدم حل مشاكلهم وقضياهم ومن كل شئ في هذه الحياة ، فإذا لايستغرب أن وقعت هذه الجرائم في مجتمعنا.

وتطرق الشيخ أبو جامع إلى سبل العلاج أولها أن يرجع الحكام إلى الله ،وأن يتقوا الله في هذا الشعب المنكوب أصلا من الاحتلال الذي طرده وأستولي علي أرضه ،والمأساة التي يعانيها منذ ستين عام ،ويجب علي الناس في سدة الحكم ، أن يتقوا الله في هذا الشعب ومراعاة معاناته ،لأنهم يسألون عن المعاناة يجلسون علي كراسي من ذهب ويركبون السيارات الفارهة ،وألبسة لا مثيل لها ويسكنون في مساكن مزودة بكل شئ ،وهذا الأمر جعل ولي الأمر معزول عن الأمة، وختم قوله "اللهم من شق علي أمة محمد فأشقق  عليه"

ظاهرة خطيرة

وحذر د.رمضان بركه, أخصائي علم النفس العيادى والباحث في القضايا السيكو إستراتيجية من ازدياد الإقبال على الانتحار من قبل المراهقين والشباب في مجتمعنا الفلسطيني , وفيما بعد يصبح الانتحار ظاهره وأزمة جديدة تضاف للازمات المنتشرة في أوساط شعبنا .

وأقترح  د.بركه آليات تعامل فعاله لمواجهة قضايا إيذاء النفس والانتحار , علما بان ظاهرة الانتحار قديمة قدم البشرية نفسها , وهي ظاهرة عالمية منتشرة في جميع المجتمعات ولكن بتفاوت وأسبابها متنوعة, مشيرا بأن لمجتمعنا الفلسطيني خصوصية , والإنسان هنا في فلسطين رأس مالنا , لذلك يجب أن نحميه من هذه الظاهرة الطارئة علينا وبفاعلية وبجهد جماعي وبطريقه مكثفه.

فعل مدروس

وبين أن الانتحار فعل مدروس لإيذاء النفس, أو قتلا فعليا للنفس بطريقة متعمدة , وهو لا يعد اضطرابا نفسيا بحد ذاته , إلا انه لابد من الأخذ بعين الاعتبار عوامل الخطورة العديدة , وبخاصة اضطرابات المزاج التي تعد بمثابة ممهدات للسلوك الانتحاري , وإيذاء النفس عند الأطفال والمراهقين والشباب وأحيانا عند كبار السن .

وأشار من خلال متابعته للإحصائيات العالمية حول الانتحار وتحديدا في بداية هذا القرن , بان حالات الانتحار في العالم تتجاوز ( 800  ألف حاله سنويا ) . ويعد مرض الاكتئاب النفسي السبب الرئيس وبنسبة 80 % من حالات الانتحار , ومرض الاكتئاب أنواع متعددة أيضا , إلا أن النوع الأساسي منه ويطلق عليه major depression , أكثر الأنواع انتشارا وتزداد معه عوامل الخطورة بالنسبة للإقدام على الانتحار .

وتابع قوله أن هناك دلائل قوية نتيجة بحوث علمية وتشخيصية تؤكد على أن من حاولوا الانتحار , أو انتحروا فعلا كان لديهم اضطرابات نفسية معمقة.والأعراض تكون في صيغة: مزاج هابط , وتفكير سوداوي , ومشكلات في الذاكرة  والتركيز , وهلاوس وشعور بالعجز وفقدان القدرة على تحدي الصعوبات  .... وغيرها  من الأعراض البدنية , وصولا إلى أفكار الموت , ومن ثم قتل النفس متعمدا, وإجمالا الاكتئاب الحاد بحد ذاته يعد غضبا موجها نحو الذات.

أساب خاصة

وأوضح د.  بركة , بان للاكتئاب والانتحار أسباب متعددة , منها ما هو خاص , وهناك أسباب عامه إلا انه في مجتمعنا الفلسطيني هناك خصوصية ويعزيها لعدة أساب ،منها  خاصة نتيجة التفكك الأسري, وغياب ثقافة الحوار والاستماع الفعال للأبناء ، وينتج عن ذلك فقدان الأبناء لثقافة الرحمة والرقة واللين وأيضا فقدان الحنان والدفء العاطفي , مما يجعل الأبناء فريسة لمشاعر العزلة والعجز في مواجهة صعوبات الحياة.

 وحالة الكساد الاقتصادي وتفشي ظاهرة البطالة , وأوقات الفراغ الطويلة التي يقضيها الشباب بلا هدف, مما يجعلهم في حالة قلق وتوتر مستمر وتحديدا ( قلق المستقبل).

وأوضح أن غياب التربية الدينية المتزنة , وتعزيز ثقافة التحمل والصبر والصلابة النفسية في نفوس الأبناء , للتعامل مع المحن والأزمات الحياتية له دور كبير .

ونوه د.بركة إلى أن  توافر نماذج للسلوكيات الانتحارية تؤثر في قرار الانتحار , وتحديدا إذا علم الشاب أو المراهق بان له صديق أو قريب انتحر أو حاول إيذاء نفسه سابقا، وأن الانتحار غالبا ما يكون نتيجة الإحباط أو الفشل واليأس من إرضاء وتلبية حاجات القوة والحب والأمان النفسي والعاطفي والاجتماعي .

أسباب عامة

 وذكر د. بركة أنا هناك أسباب عامة  مثل غياب الثقافة نحو علم النفس والعلاج النفسي تحديدا , وذلك يرجع لعدة اعتبارات , كالوصمة الاجتماعية, والقلق من المستقبل. كالخوف من عدم الزواج , أو عدم الحصول على وظيفة والتي هي أصلا لا توجد لانسداد الأفق. إضافة إلي غياب علم النفس التطبيقي في مجالاته المتعددة , وغياب العمل بروح الفريق بين أطباء الطب النفسي وأخصائيين علم النفس العيادي والصحي والاجتماعي ايضا .

وأشار د.بركة الى أن الحروب المتكررة ضد الشعب الفلسطيني, وما تخلفه هذه الحروب من أثار نفسية عميقة ( شدة ما بعد الصدمة) وغياب آليات التعامل معها تطبيقيا , وملئ الذاكرة الإنسانية بمشاهد القتل , وانتشال الجثث وتدمير الطبيعة والممتلكات وصوت رعب الطائرات كان لها دور كبير في التأثير علي نفسية المواطنين .

واستطرد قوله أن الأزمات الداخلية ، وأبرزها تفشي ظاهرة العنف والعدوان ضد بعضنا البعض, وغياب ثقافة الإسناد والتسامح والمحبة الأخوية بين أفراد المجتمع , حيث السائد ثقافة الأنانية والانتفاع الذاتي , وغياب ثقافة القانون والحقوق الفردية والجماعية .

ظاهرة مركبة

مؤكدا د. بركة :" أن  الظاهرة أصبحت مركبة , مابين الشعور بالإعياء النفسي , ومن ثم الإقدام على إيذاء النفس أو قتلها ذاتيا , إضافة إلى تفشي ظاهرة الانتحار الغير مباشرة ( القتل داخل الأسرة) والتي لم نعهدها من قبل في مجتمعنا , كقتل الابن للأب والأم , وقتل الزوج لزوجته وتمزيقها اربأ , وقتل الزوجة لزوجها , وقتل الابنة لامها , وقتل الشاب لعمه....وغيرها من المشاهد التي تشير إلى تفكك الأسرة وغياب ثقافة الحوار والتسامح, وأصبح الإنسان في مجتمعنا أسيرا للضغوط وهي التي تتحكم في سلوكه, وهذا كله يحتاج إلى سبل علاج فعاله يشارك فيها كل ذوي الاختصاص وبشكل عاجل جدا , حيث أن تراكم الأزمات وترحيلها يعمق الآلام النفسية للإنسان الفلسطيني, وأصبحت ثقافة التبرير لا تجدي نفعا لا بد من وقفة نتائجية تأخذ بيد هذا الإنسان من مهاوي الاضطراب النفسي والاجتماعي "

علاج للمشكلة

وأقترح د. بركة عدة سبل لعلاج المشكلة منها العمل على تعميم ثقافة الصحة النفسية في أوساط المجتمع, بحيث أنها لا تقل أهمية عن طب الأعضاء البشرية, لان حياة الإنسان هي نتيجة للتفاعل مابين العقل والنفس والروح والقلب والجسد ,وهنا تكمن الوسطية في التفاعل كما نادي بها الدين الإسلامي السمح ،و تفعيل برامج الإرشاد الديني, والتي تعمق المعاني والقيم الإنسانية المتعلقة بالحفاظ على النفس, والعمل على تفعيل آليات المواجهة الفعالة من خلال مهارات قوة التحمل والصبر والصلابة النفسية, وإشاعة الثقة بالنفس في أوساط الشباب , والتعامل بوضوح التفكير والبشاشة والنظر للمستقبل بايجابية. وإقناعهم بان طريقة الهلاك الذاتي غير مجدية لا في الحياة الدنيا ولا الآخرة.

وأضاف د.بركة بضرورة العمل علي إشراك الشباب في صنع القرار في العمل البناء وبناء المجتمع , والسعي قدر المكان في تسهيل مهمتهم نحو بناء أسره مستقرة ومعالجة ظاهرة البطالة ببرامج ولو مؤقتة ،وتنفيذ برامج إرشادية للتربية العقلانية في المدارس والجامعات , والأحياء السكنية , تعمل على تعميق مهارات التفكير العقلانية في التعامل مع المشكلات الشخصية والدراسية والحياتية بشكل مستمر ودائم.

وأكد علي ضرورة تعزيز ثقافة الإرشاد الأسري , بأساليب تربوية حكيمة تعتمد على التبادل في الحوار والاستماع , واستحضار التعامل بالرقة والرحمة واللين مع الأبناء , ومنحهم الدفء والحنان باستمرار. وإعطاء الأبناء هامش بشكل دائم للتعبير عن ذواتهم  ،و استنهاض دور وسائل الإعلام بأنواعها المختلفة , للمساهمة في طرح سبل علاج فعالة من خلال إحضار خبراء علم النفس والاجتماع ومخاطبة الناس عبر برامج متنوعة للإفادة من الخبرة والتركيز على الصحة النفسية للمواطن الفلسطيني .

ووجه بركة رسالة إلى قادة السياسة في فلسطين أن يغادروا مربع الانقسام وبسرعة وبدون أي تردد لأنه أصبح وبالا على نفسية الشباب والكل الفلسطيني , والكل يأخذه شماعة سببية للتهرب من الواجب باتجاه الأرض والإنسان في فلسطين , واحذر الآن الانتحار بشكل فردي, وما أخشاه برؤية واقعية الانتحار الجماعي في وطني ؟؟

الجبهة الشعبية

وقال هاني الثوابتة القيادي في الجبهة الشعبية  أن سوء الأوضاع الاقتصادية للمواطنين وتردي الحالة الإنسانية وعدم توافر أبسط الحقوق ،تتطلب البحث عن حلول لهذه الأزمات والمشكلات ، سيما وأن ناقوس الخطر يدق بقوة بعدما أصبحنا أمام العديد من الحالات الإنسانية التي تري في وضع حد لحياتها من خلال الإقدام على حرق أجسادها أو بوسائل أخرى  تعبيراً عن رفضها  للظروف".

وأضاف ثوابتة :" في ظل ما يعيشه أهلنا الصامدون في قطاع غزة من واقع مرير، وانسداد الأفق السياسي وتَعّطُل مساعي إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة، أو التوافق على وضع برنامج يعزز مقومات صمود شعبنا ويدعم انتفاضته المتوقدة، إضافة إلى تداعيات الحصار الخانق الذي يفرضه الاحتلال  النازي على قطاع غزة وآثارها الكارثية على أبناء القطاع من استمرار إغلاق للمعابر، ومنع إدخال العديد من السلع الأساسية، وتعطيل عجلة الأعمار، وتفاقم أزمة الطاقة من نقص كهرباء ووقود وغاز الطهي، وزيادة غير مسبوقة في معدلات البطالة والفقر، كلها أزمات تحملها ويتحمل تبعاتها المواطن لتزداد صعوبة الظروف الحياتية والمعيشية بفعل الأزمات المتفاقمة يوماً بعد يوم".

وطالب ثوابتة حكومة الوفاق والجهات المسؤولة في القطاع ووكالة الغوث عدم التنصل من مسؤولياتها ووضع خطة لاستيعاب طاقات الشباب وتوفير فرص عمل كحلول مرحلية في ظل انسداد الافق وانعدام الأمل في تحقيق ملفات المصالحة العالقة منذ سنوات   .

وبين انه لايجوز أن نطالب الناس بالصمود ما لم تتوفر لهم عوامل ومقومات الصمود ، وإن هؤلاء الناس هم حاضنة المقاومة التي يجب أن يتوافر لها كل مقومات الدعم والإسناد لتصمد وتصمد.