خطبة الجمعة للعلامة السيد علي فضل الله

رام الله - دنيا الوطن
ألقى سماحة العلامة السيد علي فضل الله ، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله، الَّتي تجعل الإنسان أكثر رضا بقضاء الله وقدره، فلا يمكن لمن يرى الله؛ هذا الرب الرحيم الودود والعطوف ممسكاً بزمام الكون بقوانينه وحركته، لا يغيب عنه شيء، ولو للحظة، ولا يعزب عن علمه شيئاً مثقال ذرة، إلا أن يشعر بالاطمئنان والرضا بحكمه وقضائه بتقسيم الأرزاق وتقديره الأمور، فيرى في ذلك كل الخير، حتى لو كان على حسابه، قائلاً الحمد لله على كل شيء في السّرّاء والضَّراء.

بهذه الرّوح المطمئنة الواعية المستهدية بالله، استطاع المؤمنون أن يتقدَّموا في ساحات الحياة، فلم يهابوا ولم يخافوا أحداً، ولم يتأففوا من فقدان أيّ شيء، ولم يتأثروا بما أصابهم.. وهم بذلك نالوا ما وعدهم الله به: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.. وبهذه الروحيّة نواجه التّحدّيات...

والبداية من لبنان، الذي لا يزال ينتظر توافق القوى السياسية فيه على شخص رئيس الجمهورية، بعدما أصبح واضحاً أنَّ هذا التوافق هو السبيل الوحيد للوصول إلى إنهاء هذا الفراغ، وهو الطريق الأسلم لبلوغ هذه الغاية وإنجاز هذا الاستحقاق، ولكن لا يبدو أن هذا الأمر توفرت ظروفه داخلياً، في ظل بقاء المواقف الخلافية على حالها، رغم أنها تدور داخل البيت الواحد والمحور الواحد.

وفي هذا المجال، نحن مع الرأي الّذي يقول إن الثمرة الرئاسية في لبنان ناضجة لقطافها الآن قبل أن تسقط ويحتدم الصراع أكثر بين القوى الإقليمية.

لذلك، إنّ المسؤوليّة كبيرة، وهي تقع على عاتق القوى السياسية اللبنانية في الإسراع بتحقيق هذا التوافق، الذي سيساهم، إن حصل، في تأمين الاستقرار الدّاخليّ وتحريك عجلة السياسة، بعدما صار واضحاً حجم الأزمات التي تنتظر البلد، ولا سيما الحديث، وبالأرقام، عن تردّي الوضع المالي والاقتصادي، وعن البطالة، وانعكاس الأزمات الماليَّة التي تحدث في المنطقة على الداخل اللّبنانيّ.

في هذا الوقت، تستمرّ السّجالات بين القوى السياسيَّة، والّتي هي طابع الحياة السياسيّة اللبنانيّة، وقد اعتدناها وعلينا أن نعتادها دوماً، ولكن ما نريد التوقّف عنده والإشارة إليه، هو أن لا تخرج هذه السجالات عن حدود اللياقة في التعبير وآداب التعامل عند الاختلاف، حرصاً على صورة هذا البلد؛ بلد القيم والمبادئ، وعلى ثقافة أجياله، وأن لا تأخذ البعد الطائفيّ، الذي يعرف الجميع مدى تداعياته في هذه المرحلة، من خلال تضخيم ما جرى في وزارة هنا أو وزارة هناك، والذي لم يقف عند حدود مرجعيات سياسية، بل دخلت على خطه مرجعيات دينية وروحية، يُفترض منها أن تنأى عن هذا السجال، نظراً إلى ما تمثله.

إننا مع التوازن في هذا البلد ومع الكفاءة، ولكننا لسنا مع تضخيم الأمور وتجييش الحسّ الطائفي لحسابات سياسيّة في كلّ المراحل، ولا سيما في هذه المرحلة. ووسط كلّ هذا الجوّ، فإننا ننوّه بالدور الذي تقوم به الجهات الأمنية في حفظ الأمن في الداخل وعلى الحدود مما يتهدّد البلد، ولا سيما على حدوده الشرقيّة.

كما نقدّر خطوة الحكومة في إجراء الانتخابات البلديَّة الّتي قد تساهم في تفعيل العمل البلديّ والإنمائيّ، في الوقت الذي لا نريدها أن تكون سبباً في الصّراع داخل كلّ بلدة وقرية، بل أن يُختار فيها الأكثر كفاءة لإدارة شؤونها، ومن يملك الخبرة والعدالة ونظافة الكفّ.

ولا بدّ من أن نلفت إلى ضرورة الإسراع بحلّ ملف متطوّعي الدّفاع المدنيّ وحسمه لصالحهم، نظراً إلى الجهود الكبيرة التي يبذلونها، والتضحيات التي يقدمونها..

أما في سوريا، التي كنا ننتظر أن تبدأ خطواتها نحو الحلّ، والتي كنا نراها معقّدة من الأساس، لذلك قلنا إنها رحلة الألف ميل، فإننا لا زلنا ننتظر متابعة هذه المفاوضات لأجل الوصول إلى الحل، بعدما بات واضحاً للجميع أن الحل العسكري قد يقوّي موقع فريق، لكنه لا يحسم الصراع الداخليّ، في ظل احتدام الصراع الإقليمي وانعكاسه على الداخل السوري..

إنَّ الَّذين يحرصون على سوريا وعلى شعبها، من الدول الإقليميَّة أو الدوليَّة، عليهم أن لا يحوّلوا هذا البلد إلى رهينة لمصالحهم، بقدر ما عليهم أن يخفّفوا من معاناته، ويوفروا كلّ الظروف لإيقاف نزيف الحرب والدمار وطاحونة الموت فيه، والعودة إلى المفاوضات الجادة التي تعيد إلى هذا البلد أمنه ودوره، والاستفادة من الجوّ الدّوليّ لتحقيق ذلك.

وفي هذا المجال، فإننا ننوّه بالإنجاز الكبير الذي حصل بفكّ الحصار عن أهلنا في قريتي نبل والزهراء، بعد المعاناة الطويلة التي عاشوها جراء ذلك، ونأمل أن يكون ذلك مقدمة لفكّ الحصار عن مدن سوريا وقراها الأخرى، حتى تتنهي معاناتها.

أمّا العراق، فقد عادت لغة التقسيم فيه، انطلاقاً من الحديث عن الاستفتاء الّذي تسعى له السّلطات في المنطقة الكردية، والذي يحمل أبعاداً خطيرة، لكونه يتلاقى مع الحديث عن تحويل العراق إلى أقاليم ثلاثة: كردية وسنية وشيعية، ما يشكل خطراً، ليس على وحدة هذا البلد فقط، بل على كل البلدان المجاورة.

إنّنا نعتقد أنَّ الحلّ الوحيد للعراق يتمثّل بوحدة شعبه وأرضه، فلا يمكن لأيّ مكوّن أن يستقرّ إلا بتلاقيه مع المكوّنات الأخرى، ولا يستطيع أحدٌ أن يمنّي نفسه بأنه سيكون أكثر استقلالاً أو قدرةً، بل إنه سيقع أسير الآخرين وحساباتهم..

أما فلسطين، فإننا نتطلَّع بعين الاعتزاز إلى ما يسطّره الشباب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال، والَّذي يستمر في تحدّيه لإجراءات الكيان الاسرائيلي وقمعه، ويتابع مسيرته لامتلاك الحرية التي يصبو إليها..

إنَّ ما يجري في فلسطين هو حجةٌ على العرب والمسلمين وكل العالم، وإنّ التوجّه إليها هو السبيل للخروج من كل ما نعانيه من انقسامات وفتن.

وأخيراً، فإنّنا ننظر بإيجابيَّة إلى زيارة الرئيس الأميركي إلى أحد مساجد أميركا، رغم أنها تأتي في ظلّ الصّراع الدّاخليّ والحملات الانتخابيّة، حيث أكّد موقع الإسلام في أميركا، والدور الإيجابي الذي يقوم به المسلمون في هذا البلد، وأعلن وقوفه في وجه الحملات العنصريّة التي توجّه ضد المسلمين.

إنَّنا نأمل أن تتحوَّل هذه المواقف إلى أفعال، وأن لا تقف عند حدود المجاملات والكلام الدافئ والمعسول الَّذي اعتدناه في مواقع أخرى.


التعليقات