إنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم

إنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم
الشيخ الدكتور تيسير التميمي قاضي قضاة فلسطين رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً أمين سر الهيئة الإسلامية العليا بالقدس

عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال حدثني أبي عمر بن الخطاب قال { بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه وقال يا محمد أخبرني عن الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا قال صدقت قال فعجبنا له يسأله ويصدقه قال فأخبرني عن الإيمان قال أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره قال صدقت قال فأخبرني عن الإحسان قال أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك قال فأخبرني عن الساعة قال ما المسئول عنها بأعلم من السائل قال فأخبرني عن أمارتها قال أن تلد الأمة ربتها وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان قال ثم انطلق فلبثت مليا ثم قال لي يا عمر أتدري من السائل قلت الله ورسوله أعلم قال فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم } رواه مسلم .
هذا حديث عظيم تقوم عليه معظم أصول الإسلام ، ويجمع أنواعاً من العلوم والمعارف والآداب واللطائف كما قال النووي في شرحه ، ويشتمل على شرح الدين كله ، وورد الحديث في صحيح البخاري بنص قريب منه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال { كان النبي صلى الله عليه وسلم بارزاً يوماً للناس فأتاه جبريل فقال ما الإيمان؟ قال الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه وبلقائه ورسله وتؤمن بالبعث ، قال ما الإسلام؟ قال الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً وتقيم الصلاة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان ، قال ما الإحسان؟ قال أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ، قال متى الساعة؟ قال ما المسئول عنها بأعلم من السائل ، وسأخبرك عن أشراطها إذا ولدت الأمة ربها وإذا تطاول رعاة الإبل البُهم في البنيان ، في خمس لا يعلمهن إلا الله ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } ثم أدبر ، فقال ردوه ، فلم يَرَوْا شيئاً ، فقال هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم } الآية 34 سورة لقمان .
أول أصل من أصول الإسلام التي اشتمل عليها هذا الحديث هو أركان الإيمان الستة ؛ بحيث لا يصح الإيمان إلا بها مجتمعة ، فمن ترك ركناً منها فقد بطل إيمانه وخرج من حوزة الدين حقيقة ، مع ملاحظة أنها كلها أفعال قلبية لا اطّلاع لأحد عليها غير الله عز وجل ؛ إلا أن آثارها غالباً تظهر على المؤمن في سلوكه وحكاته وسكناته .
أما الأصل الثاني فهو أركان الإسلام الخمسة التي بني عليها ، وهي أقوال وأفعال ظاهرة يؤديها الإنسان بجوارحه ، فإن أداها صار مسلماً حقاً ، أما من أقر بالشهادتين فقد صار مسلماً حكماً .
والأصل الثالث في هذا الحديث فهو الإحسان : والمقصود به هنا الإحسان في العبادة ، وهو من مراتب الدين وأخصّ من الإيمان والإسلام ، ويكون بأن يستحضر العبد مشاهدة الله له وإطّلاعه عليه وقربه منه ، وهذا ما يدفعه إلى الإخلاص في العمل والعبادة ، فلا يؤديهما إلا لله بعيداً عن أية نية أخرى . ومرتبة الإحسان تزرع في قلب الإنسان الخشية والخوف والهيبة والتعظيم لأنه موقن بأن الله سميع بصير يحيط علمه بكل شيء بل يعلم ما في الصدور ، قال تعالى { يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ } غافر 19 . ومن بلغ هذه المرتبة في عبادته استأنس بالله وبمعيته ، وفرح بلقائه وانشغل قلبه بذكره واستغنى به عن غيره .
وقرر الحديث أصلاً مهماً جداً هو أن لا أحد يعلم متى تقوم الساعة ، فهذا مما استأثر الله بعلمه ولم يطلع عليه أحداً من خلقه حتى أحبَّهم إليه وهو المصطفى صلى الله عليه وسلم ، فعن ابن عمر { عن النبي صلى الله عليه وسلم قال مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله ثم قرأ هذه الآية (إن الله عنده علم الساعة) الآية } رواه البخاري . وحيث ذلك كذلك فقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنتين من أشراط الساعة وعلاماتها :
الأولى : أن تلد الأمة ربتها ، وهي كناية عن كثرة العقوق في الأولاد ، فيعاملون أمهاتهم وآباءهم معاملة الأسياد عبيدهم من حيث السب والضرب والاستخدام والإهانة والاستهانة ، والتقصير في برهم وأداء حقوقهم .
الثانية : أن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان ، وهي كناية عن أن أسافل الناس الذين يصيرون رؤساء لهم بسبب امتلاك الأموال الطائلة بعد الفقر المدقع فيتباهون بارتفاع البنيان وزخرفته ، واكتساب القوة والنفوذ الذي يمكّنهم من السطوة والبطش ، وفي ذلك انقلاب القيم والموازين وفساد نظام الدين والدنيا ، فأسوأ الأزمنة زمان تختلط فيه أقدار الناس ، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أحمد وغيره { سيأتي على الناس سنوات خداعات يُصَدَّقُ فيها الكاذب ويُكَذَّبُ فيها الصادق ويؤتمنُ فيها الخائن ويُخَوَّنُ فيها الأمين ويَنْطِقُ فيها الرويبضة . قيل وما الرويبضة ؟ قال الرجل التافه يتكلم في أمر العامة } صححه الحاكم والذهبي .
ويستفاد من هذا الأصل ذم ما لا تدعو الحاجة إليه من رفع البناء وإعلائه والإنفاق على تزيينه لمجرد التباهي ، فإطالته والارتفاع به لم يكن معروفاً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، بل كان بنيانهم على قدر ما تدعو إليه حاجتهم ، وكلما ابتعد الناس عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم وروح الإسلام حصل منهم توسع في المعمار ومبالغة في زخرفة المباني وبذل الأموال العظيمة في سفاسف الأمور تعلقاً بالدنيا ، ولا يؤجر العبد على شيء من هذه النفقات ، قال صلى الله عليه وسلم { لا تقوم الساعة حتى يتطاول الناس في البنيان } رواه البخاري ، سئل أبو الدرداء رضي الله عنه [ مَا بالنَا نكرهُ الموتْ ؟ فقَال لأنكُم أخربْتُم آخرتكم وعمَّرتُم دنْياكمْ ، فأنتم تكْرهون أن تُنقلُوا منَ العُمران إلَى الخَرابْ ]
ويتضمن الحديث أيضاً بعض آداب طلب العلم :
* فمن ذلك مثلاً أنه ينبغي لطالب العلم أن يحسن الجلوس بين يدي معلمه متواضعاً مستحضراً الأدب في القول والفعل والهيئة واللهجة ونبرة الصوت ، ومراعياً التجمل وتحسين الهندام ؛ وبالأخص في حضرة العلماء والفضلاء الأجلاّء ، وأن يكون قوي النفس والهمة متجنباً الكبر حيياً حياءً لا يمنعه السؤال والبحث عن الحق .
* ومن ذلك أيضاً أنه ينبغي للمعلم التحلي بالتواضع مع تلاميذه وتجاوز ما يجب أن يكون عليه مما يستوجب التعظيم والتكريم ، وأن يكون حليماً عليهم ، وألا يتردد عن قول لا أعلم إذا سئل عن شيء لا يعلمه ؛ فهذا لا ينقص من مكانته وقدره ، وأن ينبههم إلى قواعد العلم وأصول المسائل وأمهاتها حرصاً على نفعهم .
* ويحسن بالمعلم الإكثار من الحوار والمناقشة بعرض السؤال والجواب على التلاميذ فهو من أنجح أساليب التعليم ، وقد تعلمناه من رسولنا صلى الله عليه وسلم في أكثر من مناسبة ؛ فقد قال لمعاذ رضي الله عنه { ... ألا أدلك على أبواب الخير ؟ ... ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه ؟ ... ألا أخبرك بملاك ذلك كله ؟ ... } رواه الترمذي ، وفي خطبة الوداع قال للحجاج بيت الله الحرام { أي يوم هذا ؟ قالوا يوم حرام ، ثم قال أي شهر هذا ؟ قالوا شهر حرام ، ثم قال أي بلد هذا ؟ قالوا بلد حرام ... } رواه أحمد وغيره .