وعندما تنطق الحجارة

وعندما تنطق الحجارة
بقلم : حنين ارجوب 
تراها صامتة , إما متراصة أو متفرقة , تشبه بها كل شيء خال من الشعور والإحساس والضمير , تتلاعب بها , إن أحسنت التلاعب حمتك من برد ومن حر ومن عدو وإن لم تحسن جرحتك وأصابتك بخدش عظيم , إنها الحجارة .

هذا ما نعرفه عنها , صمتها قساوتها جمودها , لكنها بعدما سمعت بني البشر يشبهون أنفسهم بها قررت أن تنطق , أن تصرخ , أن تروي لنا حكاياتها , لتخبرنا بأنها أفضل بكثير من بني البشر , لتخبرنا بأنها تشعر , بأنها تتكلم , بأنها تحمي وتدافع وهنا بدأت الحجارة تروي حكاياتها .

فبتنهيدة وأنين , بدأت الحجارة تروي , فروت قصة أيدي ناعمة أيدي صغيرة , اتخذتها سلاحا ضد آليات عملاقة , وما اتخذتها سلاحا إلا لثقتها التامة بأنها ستحميها في الوقت الذي لم تثق به تلك الأيدي بمجموعات بشرية تعالت على مناصب ليكون سلاحها كلاما مرتبا مؤنقا منمقا فهنا روت لنا الحجارة دورها الدفاعي دورها كحامية لأصحاب تلك الأيدي التي لم ولن تخيب ظنها .

وبعد تلك التنهيدة شمخت الحجارة , لتروي لنا حكاية أولئك العظماء الذين احتوتهم وكانت منزلا لهم , رفعت رأسها لتروي لنا حكاية الأسرى الذين يسكنون داخل الجدران التي بنيت منها , فهي تستمع لشكواهم ليلا وتنظر لدمعاتهم المخفية وتنصت لأنينهم وتشعر بوشم رسومات لأسماء من يحبون على صدرها , لتجعله زينة له , في الوقت الذي تحول فيه العالم إلى إنسان عاجز , كفيف , أصم , أبكم , فهنا أظهرت الحجارة شعورها بالفخر من ولئك الأسرى الذين دفنت قضيتهم داخل زنازينهم من قبل حماتها .

 وفجأة ’ بكت بمرارة تلك الحجارة عندما روت لنا قصة أم تنام على متنها بعد أن احتضنت ابنها داخل القبر الذي بني منها , فهي تتحسر على دمعات تلك الأم وتتمزق ألما من ابتسامة ذلك الابن الذي يعجز عن مناداة أمه ليخبرها بأن لا تحزن , لأنه شهيد لأنه بطل لأنه في حماية تلك الحجارة التي احتضنته في الوقت الذي عجزت فيه القطعان البشرية التي تنبح دون على أن تعض , عجزت عن حمايته تتمزق ألما عند قدوم طفل لينادي أباه الذي استشهد أمامه , ليطلب منه العودة إلى المنزل لأنه جائع , لأنه بلا مأوى , لأن غيابه طال , فوالده استشهد ليعيش غيره , ولم يكن يعلم بأنه استشهد ليموت أبناءه جوعا , ليذل أطفاله , ولتشرد أسرته , فالحجارة هنا تتمتع بأسمى مشاعر الإحساس وهو الإحساس بالغير والألم الحقيقي الذي لا يعرفه الكبار لأن بيوتهم محاطة بحرس عظيم سيحمون أبناءهم وأسرته وهذه هي الرعية التي سيسألون عنها يوم الحساب بنظرهم .

  وهنا بدأت الحجارة بالنظر إلى الماء , لتتمنى أمنيات صغيرة لكنها مستحيلة لمن لا يريد تحقيقها فأمنياتها أنانية , لأنها تريد أن تحل محل غيرها , تريد أن تحل محل تلك الخيام التي يقطنها أبناء الأرض  الذين خلقوا من تراب تلك الأرض , فالحجارة هي من جنسهم , لذلك تشعر بهم , وتريد أن تكون حائطا ثابتا لا تهزه رياح الشتاء ولا تخلع عاموده أمطاره , فأنت أنانية أيتها الحجارة في مطلبك هذا , فكيف تريدين أن تحلي محل الحل الذي وضعه السادة لأولئك اللاجئين ؟ ألا تعلمي بأنه كتب عليهم الألم والمشقة طيلة حياتهم ؟ أم أنك ترفضين هذا الواقع الذي قبلناه وبكل صمت رغم رفضنا الداخلي له ؟ متمردة أنت أيتها الحجارة .

  تقلبت المشاعر على الحجارة  لتبدأ بالاستنشاق , فقد استنشقت بعمق روائح يصعب علينا الوصول لاستنشاقها , روائح سور عكا , روائح حارات القدس , روائح الحرم الإبراهيمي , روائح رفح وخانيونس وغزة بأكملها , روائح الشمال الجنوب البيدر الجبل السهل الوادي الصحراء , استنشقت الكثير الكثير من الروائح التي نتمنى استنشاقها , لكن ورقة تافهة وافق عليها من لم نوافق عليهم بأن تسمح لنا بالذهاب للاستنشاق , ورغم ذلك فهي لم تسمح لنا بذلك .

  فالحجارة فرحت وافتخرت وحزنت وتألمت وسمعت ورأت واشتمت ,  بل وشعرت بسيلان تلك الدماء , وسمعت صرخات تلك الأرواح التي تصادمت بها قبل صعودها للسماء , وتحركت لترتطم بجدران تلك المركبات الظالمة ولأن الصمت ظلم , قررت الحجارة أن تنطق ونطقت ,  بل وصرخت صرخة تستحلفنا بأن لا نشبه أولئك البشر بها , لأنها تشمئز وتنكر ذلك التشبيه , في الوقت الذي تمنيت فيه لو أنها بقيت صامتة تلك الحجارة .