بيروت... ج2

بيروت... ج2
د نبيل عمرو

ما هي بيروت بالضبط ، ماذا كانت في ماضينا وماذا صارت في حاضرنا

بيروت عاصمة الاحلام والاوهام، عاصمة الممكن والمستحيل، عاصمة الحداثة والجاهلية، عاصمة ما فوق خط الغنى ووما تحت خط الفقر، الواجهة الامامية لروما وباريس ولاس فيغاس، وخلف الواجهة معابد اوثان ومعامل شعوذة، ومجموعات ترتدي ازياء مختلفة وتتهامس في البحث عن اقصر الطرق لاستثمار الدين والتاريخ والجغرافيا، وعرضه على مزاد كوني لا يغيب عنه احد.

وقد يبدو من هذا الاجتهاد الخاص بتوصيف حال بيروت انه ينطوي على تجريح بمدينة ومجتمع وقد يكون ذلك صحيحا، اذا ما ذابت الفوارق بين التجريح والتوصيف، ولأخلص في هذا الامر الاشكالي الى مقولة محددة ... ان بيروت اوضح مجمع لكل ما يعتبر سلبيا وايجابيا في حياتنا، ولعل هذا هو سرها والمقوم الاساس لاستثنائيتها وختم ظاهرتها بالعبقرية ، هذه المدينة الاسطورية ميزت نفسها بقدرة متجددة على هضم كل ما ينتج من داخلها وما تستورد او يصدر لها من خارجها

في بيروت يمكن ان ترى اشياء لا تراها في اي مكان اخر .

في شارع الثورة الفلسطينية وشريكها اللدود الحركة الوطنية اللبنانية وقبل انفجار سيارة ملغومة بدقائق ، شاهدت وفدا من الهنود الحمر مدججا بكافة الادوات الخاصة بهم من الريش والاصباغ والاشارات على نحو كما لو انهم ساقطون من احد افلام الكاوبوي ، سألت ما الذي جاء بهؤلاء الى هنا، هل يؤدون مشهدا تمثيليا خطر ببال مخرج صرعات لبناني ، اجابني احد الضالعين في فقه الاوهام لقد تمت دعوتهم من قبل احد الفصائل الفلسطينية او اللبنانية او العراقية او العربية او العالمية، لأخذ دور في المعركة المحتدمة مع امريكا ، لقد عقدوا مؤتمرا صحافيا نفوا فيه زعامة امريكا للعالم الحر واثبتوا بالبرهان القاطع زعامتها للتطهير العرقي ، وقد تلقوا دعوة من ليبيا لعمل مؤتمر صحافي اخر هناك، هل في غير بيروت ترى مشهدا كهذا، وهل في غير بيروت مدينة البنوك والملاهي والصالات التي تعرض بتزامن مع ما يعرض في باريس ، واكثر المرافق السياحية جمالا وبذخا وتميزا، وكازينو لبنان  وشارع الحمرا الذي قررنا تسميته في زمن التسكع الثوري على ارصفته بالشانزيليزيه، ذلك قبل ان تغمره البسطات واكوام القمامة وقطعان المتسولين ضحايا النظم الثورية العربية ، هل غير بيروت من فيه كل هذا وفيه امر اخر مواز بصورة سيريالية واعني به، تمكن هذه المدينة من خوض اكبر حرب مع اسرائيل في تاريخ الصراع المكتظ بالحروب القصيرة والانتصارات الاسرائيلية العريضة.

بيروت التي كانت، والتي اكسبتها التناقضات عبقرية لم تفك رموزها بعد .. كيف هي الان...

لا لزوم للحديث عن المليشيات التي تذوب كالملح وتعود الى الحياة ثانية ولا ارغب في الحديث عن اهواء ونزوات السياسيين اللذين يمتلكون اهم مفاعلات انتاج وتسويق الاوهام على انها حقائق ، ويمعنون في اعتصار ما تبقى من بيروت التي كانت حتى اخر قطرة.

لقد جرى التعود على حروب داخلية تثور وتهدأ ، وجرى ابتلاع شعارات اولها الفلسطيني البائس والشهير الذي اقترح طريقا جديدا للقدس تمر من جونية، والتي طورها حزب الله ليمررها من القلمون وحمص وحلب ، وغير حزب الله يرى انها تمر من ديار بكر وادلب والموصل في ظاهرة نرى فيها الشعار يمشي الى امام والسلوك يركض الى الخلف، كل ذلك تعودنا عليه ، حتى ان بيروت هضمت حكاية الوطن الذي يدخل عامه الثاني بلا رئيس كأحد اهم انجازات الممانعة ومتطلبات شق الطرق البديلة الى القدس ، ومفروض كما علمتنا ظاهرة بيروت هذه المرة ان نتعود على ما لم يخطر لنا على بال...

"القمامة".

وكيف سيستقر اخيرا توطينها الطائفي ، وهل في غير بيروت يمكن ان تكون القمامة بطلا لمشهد؟؟.