البؤساء و أمن إسرائيل

البؤساء و أمن إسرائيل
بقلم : رهام عودة

تُعد رواية البؤساء للكاتب الفرنسي الشهير فكتور هوجو من أهم روايات القرن التاسع عشر، لوصفها حياة الفقراء و البؤساء في فرنسا خلال عهد الملك لويس فيليب ، فقد كانت أكثر قصة إنسانية مؤثرة تعاطف معها معظم قراء الرواية،هي سجن بطل الرواية جان فالجان لمدة 19 عام في سجن طولون، بسبب سرقته لرغيف خبز من أجل إطعام أخته و أطفالها الجائعين.

لقد اعتبرت هذه الرواية عبر عدة عقود زمنية،من أهم الروايات التي تُمثل الظلم الشديد الذي تتعرض له الشعوب، وقد تم عرض تلك الرواية في المسرح و السينما باعتبارها رمز للشعوب البائسة التي تفتقد للعدالة الاجتماعية في بلادها .

لكنني أعتقد هنا، أن المأساة المصورة في هذه الرواية الشهيرة، لا تضاهي رواية أهل غزة الحقيقية الغير مكتوبة و المنبثقة من واقع الحياة اليومية، حيث الأبطال هم أناس حقيقيون ، يعيشون كل يوم مأساة إنسانية ،و يختبرون كل ساعة من عمرهم حياة أكثر بؤساً و أشد ظلماً و ألماً من حياة الأبطال الخياليين لرواية البؤساء الفرنسية.

ففي الوقت الذي كان يعتقد فيه الكاتب الفرنسي هوجو، أن عدم قدرة الأسرة الفرنسية الحصول على رغيف خبز هو دافع كبير للثورة على الملك ، فماذا نقول في عصرنا هذا ؟ عصر الديمقراطية وحقوق الإنسان !

ماذا نقول ، عندما يكون الإنسان ليس فقط عاجزاً عن الحصول على رغيف خبز لإطعام أطفاله، بل عاجزاً عن تقديم وعداً لأطفاله بأنهم سوف يعيشون ليوم أخر ، و أنهم سوف ينامون ليلة هادئة بدون سماع دوي القنابل ، و أنهم سيفرحون بالعيد، و سيكبرون يوماً ما... ليصبحوا ما يشاءون... في وطنهم الصغير الذي مازال مدمراً !

فللأسف، الإنسان بغزة لا يملك خياراً بأن يعيش أو يموت ، بل هو عاجز أيضاً عن اختيار طريقة موته، دون انتهاك لكرامة جسده، فهو بكل بساطه لا يستطيع أن يموت بسلام و ليس فقط أن يعيش بسلام !

و عندما نتكلم عن بؤساء غزة ، فنحن نتحدث هنا عن بشر حقيقيين، يتألمون بصمت كل يوم في ظل قسوة الحياة اليومية.

عندما نصف سكان غزة بالبؤساء ، نحن نتحدث عن ...

الشاب الغزي الذي كان يحلم في يوم ما، أن يصبح لاعب كرة قدم في فريق رياضي شهير، لكنه بسبب الحرب فقد ساقيه و أصبح جليسا لكرسي متحرك .

الشابة الغزية التي عاشت قصة حب أفلاطونية مع شاب فلسطيني من الضفة الغربية، لكنها عجزت أن تتزوجه بسبب منعها من السفر عبر حاجز مرور إسرائيلي يفصل بين قطاع غزة و الضفة الغربية.

الطفل الغزي الذي حُرم من غناء أناشيد الحياة و السلام ، و أصبح عندما يتم التصويت له عبر برنامج مواهب شهير، يُعبر عن سعادته بالبكاء و الدموع ،لأنه لا يعرف ما هو الفرح و كيف يمكنه التعبير عنه.

المرأة الغزية التي أصبحت أرملة بسبب فقدانها لزوجها الذي مات قهرا وحسرة ، على منزله المدمر و على فقدانه لابنه الشاب الذي ذهب و لم يعد .

الرجل الغزي الذي يعمل كموظف حكومي ، و لكنه يذهب إلي عمله سيراً على الأقدام بسبب عجز حكومته عن صرف راتب شهري له يغطي نفقات مواصلاته.

العائلة الغزية التي تشردت، و أصبحت تكتوي بحرارة الصيف تحت سقف الكرفانات البالية، بسبب تأخر إعادة إعمار منزلها المدمر أثناء الحرب.

إنهم البؤساء ، إنهم مواطني قطاع غزة الذين حُرموا من السعادة، بغض النظر عن مستواهم الاقتصادي أو الاجتماعي ، فالفقير و الغني بغزة تعيس ! و الفقير و الغني بغزة معاقب حتى إشعاراً أخر!

فهل حقق العقاب االجماعي للغزين أمن إسرائيل ؟

سؤال يستحق أن يتم طرحه ليس فقط على الشعب الإسرائيلي، بل على بعض القادة الإسرائيليين المتطرفين الذين يعتقدون أنه بمعاقبتهم للمدنيين الفلسطينيين سوف يحققون أمن إسرائيل و سوف يجلبون الاستقرار لشعبهم.

لذا على هؤلاء القادة، أن يعوا جيداً أن العنف يولد عنف أكبر ، و أن سياسة العقاب الجماعي لن تجدي نفعا مع الفلسطينيين ، خاصة أهالي قطاع غزة الذين هم بأشد الحاجة إلي بارقة أمل لمستقبل اًمن لهم و لأولادهم ، يبشرهم بالحياة و السلام و يلبي أبسط متطلباتهم الإنسانية وهي العيش بحرية و كرامة .

لكن في ذات الوقت، وبناءً على التطورات السياسية الأخيرة ، أعتقد أن القيادة السياسية في إسرائيل ، بدأت تدرك الخطأ الكبير الذي ارتكبته بحق المدنيين الغزيين، بعد أن تلقت عدة انتقادات دولية حول الانتهاكات في حقوق الانسان خلال الحروب الإسرائلية المتعاقبة ضد القطاع، و بدأت تدرك تلك القيادة أن العقاب الجماعي للغزين لن يجلب الأمن لإسرائيل بل سيسيئ لسمعة إسرائيل الدولية.

لذا قررت مؤخراً السلطات الإسرائيلية ، فتح متنفس صغير للغزين عن طريق تقديم لهم بعض التسهيلات الانسانية و الاقتصادية في مجال السماح لبعض الغزين من كبار السن بالحصول على تصاريح صلاة في القدس و تم تسهيل تبادل الزيارات بين الضفة الغربية و قطاع غزة لبعض العائلات و إعطاء تصاريح تنقل لرجال الأعمال و التجار الغزيين، بالاضافة الي السماح بتوريد بعض المنتجات الزراعية من غزة إلي الضفة الغربية.

لكن بالرغم من هذه التسهيلات الإسرائيلية، إلا أنني أرى أن هذه التسهيلات ما هي إلا مجرد نقطة في بحر الاحتياجات الإنسانية لسكان قطاع غزة، فالغزين لا يحتاجون فقط للغذاء و الدواء والسفر المشروط ، بل هم بحاجة إلي إعادة اعمار قطاعهم المدمر، وهم بحاجة إلي فرص عمل حقيقية تنقذ شبابهم من شبح البطالة و الهجرة الغير الشرعية.

إنهم بالفعل في أشد الحاجة إلي معابر مفتوحة باستمرار لجميع السكان، دون تمييز حسب العمر أو الجندر أو الحالة الاجتماعية أو حتى الانتماء السياسي.

لذا أرى، أن مسئولية الاستجابة لاحتياجات قطاع غزة لا يمكن فقط تعليقها على شماعة الاحتلال الإسرائيلي، بل المسئولية تقع أيضاً على طرفي الانقسام الفلسطيني بالدرجة الأولى الذين فشلو بإيجاد حل سياسي سلمي لمشاكل القطاع.

فالانقسام الفلسطيني أعاق تنفيذ مشاريع تنموية محتملة في غزة، و أدى إلي تردد المانحين الدوليين بتمويل مشاريع إعادة الإعمار، بسبب عدم ثقتهم بطرفي الانقسام الفلسطيني.

أما على الصعيد العربي، فمازال هناك مسئولية عربية، بسبب إغلاق معبر رفح البري من قبل الحكومة المصرية، التي تتردد بفتح المعبر، نظراً للوضع الأمني الحرج في سيناء.

و أخيراً، أعتقد أنه اًن الاًوان، لأن يتم النظر لقطاع غزة كمنطقه جغرافية إنسانية مكتظة بعدد كبير من المدنيين، و ليس فقط كمنطقة أمنية لصراع داخلي و إقليمي أو ساحة حرب مستمره.

فقطاع غزة هو حياة لسكان تم تهميشهم و التعامل معهم كقرابين بشرية لخلافات سياسية داخلية و حروب دموية مدمرة .

و بكل بساطه الشعب الفلسطيني في غزة، لا يريد فقط أن ينجوا من الحرب ، بل يريد أن يعيش أيضا ....