"الكسبة" : خنساء فلسطين ..

"الكسبة" : خنساء فلسطين ..
رام الله - خاص دنيا الوطن- من محمد وليد

شهيدٌ هنا وشهيدٌ هناك، ولكن أعظم درجات الشهادة هي التي تقدم في سبيل الله، وما أعظمها عندما تكون على أرض الرباط فلسطين، حيث قال رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام : "لاتزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم، قيل من وأين هم، قيل في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس" .

عندما تقرأ الأسماء في كتاب الشهادة في فلسطين، تجد ان كل عائلة لها نصيب في هذا الكتاب، ولكن في اَخر الصفحات، تجد معنى الصبر والثبات والصمود عند بعض العائلات وتقبل ما كتب الله لهم، فمنهم من قدم شهيدين وثلاث وأربعة، ويحتسبونهم عند الله شهداء.

خنساء مخيم قلنديا، أم لثلاثة شهداء، تحملت ما لم تتحمله الكثير من النساء،  حيث قدمت أول شهيد لها في رمضان 2001 خلال الإنتفاضة الأولى، ليزف لها الإبن الثاني شهيداً بعد اربعين يوماً، ليستشهد الثالث في رمضان 2015، مسطرة بذلك أسمى معاني الصبر والصمود.

فاطمة الكسبة (50) سنة، سكان مخيم قلنديا، البلد الأصلي برفيليا قضاء  مدينة الرملة، زفت ثلاثة شهداء في أقل من 15 عاماً، ياسر ابن 11 عاماً، وسامر 15 عاماً، ومحمد 17 عاماً، واستشهد ياسر في صباح أول أيام العيد بعد إصابة خطيرة في الرأس، أدخلته في غيبوبة دامت أسبوع كامل،  وأمه في المشفى بجانب رأسه، تدعو الله أن يحفظ لها ابنها،  لكن الله اختار له الحياة الأفضل .

كتب ياسر يوم استشهاده، (ياسر الكسبة الذي استشهد)، ليبقيه والده داخل المنزل، بعد رؤية والدته لما كتبه، أرادت أن تبقيه داخل المنزل، وما أقوى من أحساس الأم بما تشعره إتجاه أبنائها.

خرج ياسر دون علم أهله، سالكاً طريق الشهادة، كأنه يعلم أنه سيلاقي وجه ربه شهيداً، وأمه تعد الإفطار وأخوته ينتظرون اَذان المغرب، ولكن خبر إصابته سبق مدفع الإفطار، ليدخل في غيبوبة قبل نبأ استشهاده.

انتظر ياسر العيد بفارغ الصبر، ليرتدي الملابس الجديدة ويلعب مع أولاد حارته، ولكن رصاصة الغدر قتلت أحلامه، ليرتقي شهيداً .

لم تجف دموع أم الشهيد، حتى وصل لها خبر إصابة ابنها سامر ، كارثة جديدة حلت على العائلة، لم تصدق الأمر بالبداية، والوالد في الأردن يطبع كتيبات لأربعينية ياسر، تمنت خنساء المخيم لو أنها تستطيع الطيران، لتصل بأسرع وقت عند ابنها، وعندما وصلت المشفى، كان قد دخل في غيبوبة، نزف الشهيدين الكثير من الدماء، والكثير من الوجع، ووالدتهم لم تستطع ان تسمع اَهاتهم وأن تودعهم قبل أن يغلقوا أعينهم .

بعد سبعة أيام، استشهد سامر، ووصل الخبر كافة أنحاء فلسطين، وارتوت الأرض العطشى من دموع أم الشهيدين، وأهله وأصحابه واحبابه، وجبال لا تستطيع أن تتحمل هذا الهم، لم يمضي أربعون يوماً على استشهاد ياسر، فتبعه أخوه الأكبر ليشاركه جنات النعيم، وينال الشهادة العظمى .

لم تستطع أم الشهداء أن تكبت حزنها ووجعها، وشرعت بالبكاء، وانهمر من عيونها شلال من الدموع، وهي تقول : "كنت واقفة بجانبهم طوال الوقت، وأنا أدعوا الله أن يشفيهما، هم لا يشعرون أنني واقفة بجانبهم، رحمهم الله" .

لم يكمل الشهيد سامر دراسته، ترك المدرسة في الصف التاسع، ليؤدي واجبه في الدفاع عن أرضه ووطنه، سيطر جيش الاحتلال على مدينة رام الله، وشدد الحصار على الرئيس الراحل أبو عمار، ولم يستطع سامر أن يتحمل هذا الحصار، فكذب على أمه لينال الشهادة، وهي تقول له لا تذهب إلى اي مكان، وهي تشعر أن شيئاً ما سيحدث، خرج سامر ولكنه لم يعد إلى بيته، أصيب سامر برصاصة في الرأس، وأدخلته غيبوبة لأسبوع كامل، ليعلن عن استشهاده في 25/01/2002، بعد أربعين يوماً من استشهاد أخيه الأصغر ياسر .

كان محمد الكسبة عند إغتيال إخوته، لا يتجاوز من العمر الثلاث سنوات، لا يفهم معنى الموت والشهادة، ولكنه كان يشعر بما تمر به أمه، وكانت أمه تخاف على محمد من أن يمسه شيء، فهو الحلم الأكبر بالنسبة لها، بعد استشهاد ياسر وسامر، وتقول : "رحمة الله عليهم لا أستطيع أن ارجعهم إلى الدنيا، يجب علينا أن نعيش حياتنا، والله سينتقم من الذين سلبوا حياتنا وسيرجع حقنا بإذن الله عز وجل، اليهود المغتصبين أولاد الحرام، الله ينتقم منهم" .

كبر حمودة وترعرع في بيت الشهداء، وكان من الاوائل في مدرسته، تربى على الأخلاق الحميدة والمحبة، ومن خوف أمه عليه كانت تبقيه في المنزل، منكرة لأصحابه أنه بالداخل، وكأنها تشعر بأنه سيكون الشهيد الثالث لها، ذهب محمد وأمه الى العمرة، حيث كان لا يقطع فرض ولا سنة ويصوم رمضان، وكان حلم محمد الأكبر أن يصلي في المسجد الأقصى، خاطر محمد بحياته ليدخل الى القدس، فحاله مثل حال الكثير من الفلسطينيين الممنوعين من دخول عاصمة فلسطين، وصل محمد المسجد الأقصى رغم أنف الغاصبين اليهود، وصلى في القدس، وكان محمد كثير الابتسام في هذه الرحلة الجميلة، وكأنه يعلم أنه دخل الأقصى ليودعه، قبل ملاقاة وجه ربه، محمد من عشاق الشهادة والتضحية للدفاع عن الوطن وفي سبيل الله للفوز بجنات النعيم.

وتقول والدته لمراسل دنيا الوطن : "محمد شريف عفيف متواضع، ذهب ليصلي ويتعبد في الأقصى، وجلس مع أحبائه وأصدقائه ، وكانت ابتسامته لا تفارق وجهه، ذهب الى الأقصى ليودع، فالشهيد يشعر أنه يعيش اَخر لحظات حياته" .

أصيب محمد برصاصتين في قدمه في رمضان 2014، أي قبل سنة من  استشهاده.

في الجمعة الثانية من رمضان، صلى محمد قيام الليل، وتناول السحور مع العائلة، وخرج الى المسجد لصلاة الفجر، وبعد انتهاء صلاة الفجر، توجه ليساعد شباب مخيمه في تنظيم عملية السير بالقرب من حاجز قلنديا.

وفي نصف حديثها عن محمد، اجهشت بالبكاء مرة اخرى، وهي تردد : "الله ينتقم من اليهود، الله يوخذ أولادهم، الله يحرمهم منهم مثل ما حرموني منهم، حسبي الله ونعم الوكيل فيهم" .

محمد مش إرهابي، محمد كان يساعد الختيار الي على العكازة ليوصله إلى الحاجز، محمد بحمل الولد الصغيرالضائع الي ببكي بدور على أمه، محمد مش إرهابي، محمد كان لابس بابوج وكان ينظم السير، الإرهابي بكون معه سلاح، الإرهابي بكون معه قنابل، يعني محمد مش إرهابي، اليهود إرهابيين، الله يحرق دمهم مثل ما حرقوا دمي على أولادي، هذا ما قالته خنساء مخيم قلنديا، وهي تبكي بحرقة، وتتوعد الذي قتله أنها ستأخذ بثأرها منه، فلا أحد قادر أن يقف أمام غضب أم سلبوها أولادها الثلاث.

  تمنت أم الشهداء أن تفرح لمحمد، أن تزوجه ليبقى قريبا منها، وبعيداً عن المواجهات لكي لا تخسره، اخبرته أنها ستخطب له بعد سنتين، بعد إكمال بناء بيته ، ولكن محمد أراد أن يبنى له بيتاً في الجنة، ويتزوج من الحوريات التي وعده الله بها.

توقعت خنساء المخيم أن يزف محمد شهيداً لها في السنة الماضية، بسبب الحرب على غزة، والمواجهات التي اندلعت على إثرها، ومسيرة 48 ألف في ليلة القدر، ولكن الله أراد له أن يصاب بقدميه .

سمع محمد صوت إمرأة تصرخ، فذهب ليلقي نظرة على ما يحصل، فرأى جندياً اسرئيلياً يدفع إمرأة وإبنتها، ويضربهن ويصرخ عليهن، والأم تقاوم وتريد أن تدخل إلى القدس بأي ثمن، تأثر محمد ولم يستطع أن يتحمل ما راَه، فألقى بضع حجارة على الجندي ليترك المرأة وشأنها، استدعى الجندي قوات خاصة لأغتيال محمد.

بعد مدة قصيرة، توقفت سيارة ونزل منها قاتل محمد ليرديه شهيداً، بعد إطلاق خمسة رصاصات عليه، أصابت عنقه وصدره، لترتفع روحه الى من باريها، ولم يكتفي الضابط الإسرائيلي بإطلاق النار عليه، بل اعتدى عليه بالضرب بالسلاح والأرجل.

وصل الخبر لأهل محمد، أُصيب محمد في قدميه، أمه كانت تتوقع أن يزف لها شهيداً، ذهبت الى المستشفى وهي موجوعة القلب، فلا أحد يستطيع أن يتحمل ما تحملته بتقديم ثلاثة شهداء للوطن، حمدت الله على ما أصابها، وتوسلت الله أن ينتقم من قاتلين أبنائها.

تذكرت أم الشهداء زيارة أم الشهيد عبد الله غنيمات لها يوم استشهاد محمد، و إخبارها عن ما قاله محمد عند استشهاد عبدالله : "نيالك زفتك اليوم ، وأنا زفتي بعدك" . 

ويذكر أن خنساء القدس كانت على وشك أن تقدم شهيداً رابعاً، وهو الإبن البكر لها، الجريح ثائر الكسبة، وأصيب ثائر برصاصة حاقدة أطلقها جندي اسرائيلي حاقد عليه، وكادت أن تودي بحياته، ولكن الله رحمه ورحم أمه التي فقدت ثلاثة أبناء.

وناشدت خنساء القدس الرئيس وكافة الفصائل،  بالرد على جرائم الاغتيال، بحق أبنائنا وأبناء فلسطين، وجاء الرد سريعاً من الحكومة، حيث توعد الرئيس بملاحقة اسرائيل على ما ارتكبته من جرائم بحق الشعب الفلسطيني، وأيضاً وضع قضية استشهاد أبنائها الثلاث على رأس القضايا المقدمة لمحكمة الجنايات الدولية .

فاطمة الكسبة الملقبة بـ(خنساء القدس) مثال لكثير من النساء الفلسطينيات الجبارات الصامدات المرابطات، يقدمن كل يوم شهيداً وأسيراً وجريحاً، فدا الله والوطن .