التحرش التسولي

التحرش التسولي
بقلم : شاكر جودة

"التحرش التسولي " مسمى جديد لإحدى وسائل التسول المستحدثة التي شاهدتها مؤخراً أثناء تجوالي في شارع عمر المختار المحاذي لساحة الجندي المجهول في مدينة غزة من مفترق السرايا حتى بنك فلسطين واستفزتني للكتابة حولها . 
تعتمد هذه الوسيلة على قيام اثنين من الصبية المتسولون من جيل 13 – 15 عام المتواجدين في هذا الشارع بشكل دائم يمارسون مهنة التسول مع بقية الأجيال والأصناف من المتسولين بكافة الطرق وفي مقدمتها تلك الوسيلة التي باتت ظاهرة مقلقة وأطلقت عليها اسم " التحرش التسولي " والتي يقوم من خلالها الصبية المتسولين بمضايقة كل فتاة تمر في الشارع وإحراجها وإجبارها على الدفع ، ويحدث هذا الحدث عند مرور أي فتاة وحدها في هذا الشارع ، فيقوم أحد المتسولين بالسير بجوارها ويلح في طلب المساعدة منها ويضغط عليها الى أن تلتصق بالحائط الموازي لها هرباً من ضغطه ويفاجئها زميل آخر له بالتوقف ساداً الطريق أمامها ، مما يضطرها للتوقف مجبرة بجانب الحائط، وبلا قدرة على التراجع أو التقدم في السير ، ولا يتبق أمامها الا الصراخ للاستغاثة بأحد المارين أو الدفع للمتسولين إتاوة هذا التحرش ، عموما في معظم الأحيان تختار فتياتنا الحل الثاني وهو الدفع للخروج بسلام وبلا إحراج من هذه العملية التسولية ... وللتعمق في الحديث عن هذه القضية التي لم تعد حالة عرضية بل بات ظاهرة مقلقة يجب تناولها بالبحث للتعرف على أشكالها ، أسباب تفاقمها وانتشارها و كيفية القضاء عليها.. بداية سأبدأ بالتطرق لبعض أشكالها التقليدية ، ثم الحديثة المستحدثة منها والتي لم نعتدها من قبل، والتي يكفيك المرور فقط لمرة واحدة سيراً على الأقدام في هذا المكان لتتعرف عليها ، بدءاً من أولى حالاتها المتمثلة في العدد الكبير من المتناثرين صفاً بجوار الحائط من رجال ونساء من جميع الأعمار والفئات السنية ممن لا يبدو على وجوههم أي معالم فقر سوى ملابسهم الرثة ، والذين عند مرورك يتلون عليك من فنون الدعاء ما تستطيب له مسامعك ، وفقا لحالتك فان كنت فرداً وحيداُ يتم الدعاء لك بالصحة والعافية وتحقيق أمنياتك ، وإن كنت زوجاً فيتم الدعاء لك بها ولها بك وبالديمومة لبعضكما ، أما إن كنت مع أسرتك وأبنائك يكون الدعاء بدوامك لهم وبدوامهم لك ... وبعد تخطيك للمدخل المتراص بالمتسولين الجالسين تبدأ مرحلة جديدة من للتسول عنوانها " التسول البيعي " وهي طريقة أخري مبتكرة وليست بالجديدة تجمع بين عملية البيع والتسول لذلك أطلقت عليها مسمى " التسول البيعي " وهو عبارة عن نظام بيع أشياء بسيطة يقوم بها تارة بعض الصبية المتسولون مثل اللبان وبعض البسكوتات والسكريات وحبيبات من الترمس القديم في أكياس نايلون ويطلبون من المارة شراءها لمساعدتهم مما يضطرهم لدفع ثمنها وتركها لهم .. وتارة أخرى تقوم بها امرأة تفترش الأرض وفي حضنها أو بجوارها طفل رضيع وتضع أمامها وعلى خرقة بالية بعض ربطات من البقدونس وبجوارها بعض الأشياء الأخرى مثل علبة بوية أحذية، ثلاثة علب جبنه مثلثات، وأشياء أخري، وتطلب من المارة شراءها لشراء حليب للطفل ومثل تلك الحالات أطلقت عليها اسم " البيع التسولي"، وما ان تنتهى من هذه المرحلة وتتغول مشياً في هذا الشارع حتى تتعرف على حالات عديدة أخرى من فنون التسول فاقت في إتقان إخراجها كل الأفلام المصرية الخاصة بالتسول مالم نعتدها من قبل.. ومنها على سبيل الذكر لا الحصر، يستوقفك فجأة طفل في الشارع ويسلمك ورقة مكتوب عليها عبارة " أنا امرأة مستورة توفي زوجي وأحتاج لمساعدة مالية وأقف في الشارع المقابل لك وهذا ابني الذي يحمل الرسالة أرجوك مساعدته ، وعندما تنظر تجد إمراة جميلة بملابس محترمة وترتدي نظارة شمسية ، على غرار ارحموا عزيز قوم ذل .. فتهب لمساعدتها. وما أن تهم في السير حتى يستوقفك أحدهم ويبدوا عليه العز يرتدي بدله جيدة ، طالبا منك المساعدة بأن تعطيه بدل أجرة الطريق ، لأن محفظته قد سرقت منه ، ولم يتبق لديه أية نقود لدفع ثمن أجرة السفر للعودة لبيته الذي يبعد بعيداً في أخر مدن قطاع غزة ليرفع من ثمن أجرة المواصلات ، ويستولي على مبلغ أعلى منك ، مما يدعوك للتعاطف معه ومساندته فيما يحتاج ... ولم تدرك حينها بأن هذه الحالات هي أحدث فنون التسول إلا عندما تقوم بعد ذلك بالحديث متباهياً بكرمك وحسن أخلاقك أمام معارفك بنصرة هؤلاء المحتاجين ..عندها فقط ستجد انك لست الوحيد الذي تم استغلاله في مثل هذه الأحداث ، فجميع أصدقائك كانوا قد وقعوا في هذا الفخ وتم استغفالهم مثلك .. واستكمالا لما بدأناً به الحديث حول أحداث الشارع ، فقد تقرر- تحت المضايقة من تصرفات المتسولين - بأن تهرب قليلا لمحل لا بقصد الشراء ، بل لطلب قسطاً من الراحة من ضغط التسول في الشارع ، فتدخل لإحدى المحلات في الشارع نفسه ولم تكاد تدخل حتى يلاحقك نوع قديم متجدد من أنواع التسول ممثلا في دخول امرأة تحمل طفلا يتوشح وجهه التعب ذابلا أنهكه الصراخ من شدة الجوع التي تبدو على قسمات وجهه ، وتقوم المرأة بطلب معونة لشراء غذاء لهذا الطفل ولا تتزحزح من مكانها إلى أن يقوم أحدكم بإعطائها مالاً لشراء غذاء لها ولابنها .. وتحت هذا الضغط غير المحتمل قررت أن أغادر الشارع كليا إلى شارع أخر بعيدا قليلا عن هذا المكان فذهبت إلى الشارع المجاور لزيارة أحد أصدقائي في محله التجاري .. وما كدت أن أجلس في محله بصحبة أصدقاء حتى فاجأتنا امرأتان في متوسط العمر تدخلان الباب تطلبان المساعدة لشراء ربطة خبز ورفض صاحب المحل طلبهما منوها بان هذا الطلب يتكرر يوميا ، إلا أن هذا الرد لم يمنع أحد أصدقائي الجالسين معنا بمساعدة إحداهن ، إلا أن المرأة التي معها لم تتحرك إلا بعد أن قام بمساعدتها هي الأخرى .
في نهاية هذا التشريح لانتشار وتفاقم هذه الظاهرة التي باتت تؤرق الجميع في قطاع غزة ، بت أنا وبما لا يدع مجالا للشك متيقنا بأنه لم يكن تردي الأوضاع الاقتصادية وزيادة نسبة البطالة وارتفاع مستويات الفقر المدقع التي طالت أكثر من 50% من سكان القطاع هما السبب الرئيسي الوحيد في انتشار هذه الظاهرة وزيادة أشكالها وتعدد أنواعها وعناصرها فقط ، الأمر الذي سيجعل من علاجها أمرا مستحيلا إلا بعد علاج مشكلة الفقر . وهذا أمر غير حقيقي حيث هناك أسباب أخرى أساسية ومهمة أدت إلى تفاقم هذه الظاهرة، وعلى رأسها تناغم وجود هذه الظاهرة مع مصلحة حكوماتنا الفلسطينية ومؤسساتنا الحكومية في غزة وتنظيماتنا والمؤسسات الأهلية والشعبية، التي ترى في وجود هذه الظاهرة دعما لتوجهاتهم أمام المؤسسات المانحة بإظهار أن الشعب الفلسطيني كله يعاني من الفقر والبطالة، الأمر الذي شكل مظلة لتفاقم هذه الظاهرة وزيادة تغولها، حتى باتت تعمل بشكل منظم ومقلق للشعب في قطاع غزة. وعليه وددت هنا أن اتلمس الحقيقة، وأدلل بالدليل القاطع لكل المتشدقين بأن الفقر وحده هو السبب في تنامي ظاهرة التسول، وأثبت بالدليل القاطع وبعدة نقاط أن الفقر لم يكن الدافع الوحيد لتنامي هذه الظاهرة وانتشارها في غزة:
 أولا: أكثر من 50% من سكان القطاع يرزحون تحت خط الفقر ويعانون من البطالة، ولو أن الفقر والبطالة هما السبب الوحيد للتسول لتجمع أكثر من نصف سكان قطاع غزة ممن باتوا تحت خط الفقر للتسول في هذا الميدان.
 ثانياً: السلوك والوقاحة التي يستخدمها المتسولون في طلب المساعدة خاصة من الفتيات والنساء اللواتي يتم إجبارهن على الدفع بالإحراج والتدافع الجسدي تجاههن والوقوف أمامهن لاعتراض الطريق لهو أكبر دليل على أنه ليس الفقر دافعهم للتسول ، لأن الفقر يكسر الإنسان ويجعله ذليلا لا متمرداً وقحاً كأمثال هؤلاء المتسولين .
 ثالثاً: عند دخولك للشارع تشعر بأنه يوجد تنسيق كبير بين المتسولين للمساعدة فيما بينهم على كيفية إحراج الضحية بالقوة في الشارع، من خلال تضامنهم بالالتفاف حول أي إنسان لإحراجه وإجباره على الدفع، مما يوحي لمن يشاهد طريقتهم في التنسيق فيما بينهم ، بأنهم جماعة منظمة مدربة خلفها إدارة تدير عملهم وتنظمه ، وكأنك تشاهد فيلماً من الأفلام المصرية القديمة التي تناولت عملية التسول.
 لديهم أماكن محددة ومخصصة لجلوس ووقوف كل فرد لا تتغير، وكأنها أماكن مستأجرة ثابتة لا يتمكن أحد من طردهم منها أو منافستهم عليها، فلو كان الفقر الدافع حول وجودهم، لكان سيترك أحدهم مكانه لغيره إذا تحصل على ما يكفيه من الأموال .. وهذا دليل على أن الفقر ليس السبب وراء تسولهم، حيث جمع عدد كبير منهم أموال طائلة ولازالوا موجودين في أماكنهم منذ فترة طويلة.
 لم يعد المتسولون أفرادا متناثرين بل أصبحوا جماعة منظمة تعمل تحت إمرة عصابة منظمة تدير شئونهم وتدربهم وتقدم لهم الحماية والدليل أنهم أصبحوا مجموعة قوية لا يمكن لأحد منافستهم على أماكن تواجدهم، ولا يسمح لأحد بالتسول في نفس الشارع وبجوارهم وقد بات لهم ولأماكن تواجدهم حماية ممن يديرون وجودهم في هذه المهنة والمكان.

وفي النهاية لم أقصد هنا التعرض لهذه الظاهرة بالشرح والتحليل بحثا عن تأييدكم لوجهة نظري في هذه الظاهرة بقدر ما آمل في مساندتكم لعلاج هذه المشكلة ، ولا انكر أهمية دور كل فرد فيكم للمساهمة في القضاء على هذه الظاهرة ، وبشكل خاص بعد أن خاب أملنا كالعادة في حكوماتنا ومؤسساتنا وتنظيماتنا وأحزابنا المنقسمة وبتنا لا نعتمد عليها ولا نثق بكفاءتها ، بل إضافة إلى أن الانقسام يعتبر من أهم أسباب تنامي هذه الظاهرة، إضافة الى الفائدة التي يجنيها المنقسمون وباقي المؤسسات الاغاثية من وجود المتسولين في الشوارع لتعظيم منافعهم من مشاريعها الاغاثية التي تتقدم بها للمولين مستفيدة من هذه الظاهرة .. وعليه يجب ان تكون الحلول للقضاء على هذه الظاهرة بعيداً عن الحكومات والتنظيمات والمؤسسات ، وترتكزعليك أنت يا ابن وطني ، أيها الإنسان الذي بت وحدك تحمل هموم وطنك وتشعر بخطورة تفاقم هذه المشكلة التي قد تساهم بتسرب أبنائنا من المدارس للالتحاق بأطفال الشوارع المتسولين ، لذلك لن ينجح أي حل في مواجهة هذه الظاهرة بعيد عنك أنت ، فكن أنت التغيير إن أردت التغيير وأنا كلي ثقة بأنك لا تقل وطنية واحتراما لمجتمعك عني وعن كل الشرفاء في هذا الوطن ، والحل بسيط جداً ، يتمثل في حرمان المتسولين من الدعم المالي ، فأن لم يجد المتسول من يعطيه المال لن يتواجد في هذا المكان ، وسيضطر لتغيير مهنة التسول التي استسهل امتهانها ، وكلنا يعلم بأن الأقربين أولى بالمعروف ، فان كان لديك فائض خير تود تقديمه للمحتاجين فانظر حولك ، ففي هذا الوضع الاقتصادي الصعب هم كثر من يستحقون المساعدة ، فابدأ بأهلك وأقاربك وجيرانك .. ألا تتفقون معي في هذا الرأي ؟؟ ... إذن ماذا ننتظر لنبدأ.. فلنبدأ جميعا من هذه الساعة ومن الآن .