اليونان – أرض الفلاسفة تغرق في بحر الفشل

اليونان – أرض الفلاسفة تغرق في بحر الفشل
قلم : أ فكري جودة
            أفاق العالم اليوم على وقع انباء تجدد الازمة الاقتصادية في اليونان، والتي ظهرت بوادر تشكلها يوم 27/6/2015 عندما أعلن البنك المركزي اليوناني  "يورو جروب" رفضه لتمديد مهلة تسديد دفعة بقيمة 1.7 مليار يورو مستحقة بتاريخ 29/6/2015. هذا الخبر كان كفيلا بإطلاق تأثير "دومينو" رهيب شمل الأسواق الحلية اليونانية ومثيلاتها الأوربية والعالمية أيضا، بل إن الأثر السلبي قد ضرب الأسواق الآسيوية الأكثر بعدا عن تأثيرات هذه الأزمة.

            رأينا ذلك بمجرد صدور البيان الرئاسي اليوناني  الذي شمل قرارا بإغلاق المصارف اليونانية لمدة ستة أيام عمل ، وتحديد عمليات السحب النقدي اليومي ب60 يورو يوميا. وذلك بهدف مواجهة الاحتياج المفاجئ والهائل للسيولة النقدية الذي وضعت فيه السلطات النقدية لتغطية سداد القرض المستحق.

ولنا أن نتصور مقدار الأثر الكارثي الذي تركه هذا الحدث على مستوى الاقتصاد الكلي والجزيء في اليونان، والتي كانت تعاني أصلا من تبعات الأزمات المالية المتوالية منذ العام2009 ، والتعافي البطيء بل الخجول الذي ترافق مع حزم الإنعاش المتعددة التي قدمها الاتحاد الأوربي بقيادة ألمانيا والذي جاء مشروطا بفرض خطط التقشف غير الشعبية وفرض مجموعة من قواعد الحوكمة المؤسسية التي تضمن حدودا مقبولة من النزاهة والشفافية.

رأينا اليوم طوابير قياسية للمواطنين اليونانيين أمام أجهزة ال ATM في محاولة منهم لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وهم الذين اكتووا سابقا بنيران الليبرالية الاقتصادية الزائفة والتي أدت إلى إفلاسهم قبل سنوات قليلة،  ترافق ذلك مع انهيار شامل لأسعار البورصة المحلية والأوربية والأسيوية ، ومن الاكيد أن يمتد ذلك إلى الأسواق الأمريكية قريبا جدا، كما وضح التأثير على أدوات الدين اليونانية بحيث ارتفع سعر الفائدة على السندات الحكومية اليونانية بسبب انخفاض الثقة العالمية في حقيقة مقدرة اليونان على الوفاء بالتزاماتها المالية.

هل تعاقب أوروبا اليونان على اختيارها السياسي؟

ليس من المستغرب أن يتم ربط ما يحدث من تداعيات اقتصادية  بالمشهد السياسي المحلي والأوربي وحتى الإقليمي ، فأزمة اليونان بدأت مبكرا مع الأزمة العالمية في العام 2009، حيث عصفت هذه الأزمة بالاقتصادات الأقل تطورا في جنوب أوروبا وشملت اليونان والبرتغال وأيرلندا وأسبانيا وحتى إيطاليا ولو بتأثير أقل حدة، بل كنا قد بدأنا نسمع همسا هنا وهناك أن الدور القادم هو على العملاق الفرنسي، لكن هذا لم يحدث.

ما يهمنا هنا هو طريقة التعامل الأوروبيّ مع الأزمة اليونانية والتي كانت الأشد وطأة نظرا لعوامل عدة مرتبطة بالهيكل الاقتصادي والمحلي والنظام المالي والطبقة السياسية الفاسدة ونمط المعيشة السائد والتركيبة السكانية في اليونان.

فقد قدم الاتحاد الأوربي ابتداء من العام 2011 ما يمكن اعتباره أكبر برنامج إنقاذ اقتصادي في التاريخ لليونان وذلك بقيمة إجمالية وصلت إلى 350 مليار يورو  وذلك من خلال اتفاق تم توقعيه في حينه مع الحكومة اليونانية بقيادة الحزب الديمقراطي الجديد ذو التوجهات اليمينية والذي انطبع عهده بمجوعة من الفضائح المرتبطة بالفساد المالي والسياسي.

وتكون برنامج الإنقاذ الاقتصادي من جزئين : الأول عبارة عن حزمتي إنقاذ مالي نفذتا تباعا في العامين 2011 و2012 وذلك مقابل تنفيذ الحكومة اليمينية لمجموعة من الإصلاحات القانونية والمالية.

أما الثاني والمحدد للأول: فهو تنفيذ أربع حزم تقشفية متوالية بدأت منذ العام 2010 كشرط أساسي لتقديم حزمتي الإنقاذ المالي.

بالطبع ظهرت مقاومة شديدة بين صفوف الطبقات الدنيا والمتوسطة لهذه الإجراءات التقشفية لما لها من أثر اجتماعي مباشر عليها، مما أدخل اليونان في حالة من السيولة الاجتماعية والسياسية تجلّت مظاهرها في الاحتجاجات السلمية والمظاهرات المليونية  وتطورت لأحداث عنف غير مسبوقة كادت تعصف بالبلاد إلى الهاوية.

وانعكس ذلك بشكل درامي في اختيارات الناخب اليوناني في الانتخابات العامة التي جرت مطلع هذا العام 2015، حيث نتج عنها فوز حزب جديد بالانتخابات هو حزب سيريزا اليساري المناهض للإجراءات التقشفية والداعي في مرحلة من المراحل إلى انسحاب اليونان من الاتحاد الأوروبي.

وبالفعل أقدم رئيس الوزراء المنتخب على ما وعد به جماهيره، وهو عدم الالتزام بالإجراءات المفروضة أوروبيا والعمل على إنجاز "خطة وطنية لحل أزمة الديون" ، مما عنى الاصطدام المباشر والعلني مع صنّاع السياسة النقدية الأوربية ، ونقل سيناريو التعاون إلى مستويات مختلفة من المفاوضات المضنية والجادة وغير الجادة احيانا، مما دفع أوروبا لاستخدام سياسات جديدة مغلفة بأدوات الضغط المباشر تارة والناعم مرات أخرى تجاه الحكومة اليونانية الجديدة،

إلاّ أن ذلك لم يفلح في تعديل توجهات الحكومة اليسارية ذات التوجهات الوطنية ، مما ثبّت حالة تضاد المصالح بل أججها، فلم تفلح الدورات المتوالية من الاجتماعات المكوكية في الوصول إلى حل مرض للطرفين في ظل إصرار الطرف الإغريقي على مواقفه المعلنة، وعدم تنازل المسؤولين الاوربيين عن تدخلاتهم الضامنة لالتزام اليونان ماليا حسب اعتقادهم.

التداعيات السابقة  كانت الممهد لموقف البنك المركزي الأوروبيّ  القاسي والمتمثل بعدم تأجيل موعد سداد دفعة القرض المستحقة. ويمكن بوضوح أن نشتم رائحة الموقف السياسي الأوروبي الذي ضاق ذرعا بتصرفات "هؤلاء الصبية الشيوعيون" – كما يصفهم بعض الأوروبيين- ، وبخاصة أن اليونان تحت ظل حكم اليسار قد انتهج منهجا أكثر استقلالية عن أوروبا، ونجد ذلك جليا في السياسات النقدية والاقتصادية والاجتماعية، ومثال ذلك عدم الالتزام العلني بالحد الأدنى لنسب عجز الموازنة ، وسياسات الهجرة ويمتد ذلك إلى الموقف المتفرد لليونان تجاه كل من تركيا ومصر.

وهذا على ما يبدو أنه كان الدافع لأوروبا لأن تتخذ خطوة اقتصادية قاسية بنكهة سياسية واضحة تهدف أساسا لإعادة خلط الاوراق السياسية الداخلية في اليونان، علّ ذلك ينتج تحولا مريحا للمجموع الأوروبي ويخفض من درجة التهديد العالية بتفكيك الاتحاد الأوروبي تحت تأثير النزعات الوطنية المحلية. وبرغم العلم المسبق بما قد ينجم من أضرار اقتصادية على مستويات متعددة، إلا انها تبقى أضرارا آنية ممكن احتواؤها.

يمكن مما سبق أن نلحظ المدى الكبير لتأثير الاقتصاد على السياسة وليس العكس، ويمكن أيضا أن نلتقط لحظة تاريخية نادرة يقوم فيها الاتحاد الأوروبي بالتكشير عن أنياب كنا نظن أنها للضحك فقط، لكننا اليوم نشهد هذه الأنياب تمزق الابن العاق المدلل الذي حاول الخروج عن نهج عرّابيه.