متلازمة سلام فياض

متلازمة سلام فياض
في الوقت الذي كان رئيس الوزراء الفسطيني رامي الحمدالله يشكو ضعف وزرائه في نوبة من نوبات التشكي أمام الرئيس محمود عباس، نفس النوبة التي كان الحمد الله يرثي وزارته بيد ويتلقى التكليف الرئاسي باليد الثانية، كان رجال "هيئة مكافحة الفساد" ينبشون ملفات رئيس الوزراء السابق، دكتور سلام فياض في مؤسسة "فلسطين الغد" من جديد، وكان قرار التحفظ على أموال المؤسسة غير الربحية قد أنجز في مكتب النائب العام.

استعادة كابوس فياض يأخذ شكل المتلازمة لدى بعض متنفذي فتح وحماس، الآن يتجول الكابوس في مناطق المجتمع المدني بعد أن استنفذ تماما خلال تولي فياض لرئاسة الوزراء، ويأخذ شكل شركة غير ربحية اسمها " فلسطين الغد " تدير عشرات المشاريع التنموية والطارئة بين القدس والضفة وغزة، وتبدو محاولة اخراج الكابوس وتسويقه وطنيا اقرب الى كوميديا غير موفقة وتفتقر الى الالهام.

يمكن هنا العودة الى التقرير السنوي للعام 2014، وهو عام التأسيس، الذي وزعته مؤسسة "فلسطين الغد" لمشاريعها المنفذة وتلك التي قيد التنفيذ في فلسطين، حيث يعرض التقرير 114 مشروعاً تتوزع على سبعة قطاعات، توجه جزء رئيسي منها نحو دعم المناطق المهمشة والأكثر تضرراً، وهي مناطق تتركز في المنطقة "ج" من الضفة الغربية التي تقع تحت السيطرة امنية الإسرائيلية، حسب تقسيمات اتفاقيات اوسلو، وتشمل القرى والتجمعات المحاذية لجدار الفصل.

في التقسيم الجغرافي حصلت مدينة القدس على اربعين مشروعاً بقيمة اجمالية تصل الى ثلاثة ملايين ونصف من مجمل ميزانية يصل حوالي الستة ملايين دولار.

المؤسسة التي ظهرت بقوة خلال العدوان الأخير على غزة من خلال حملة "ساندو غزة"، وهي حملة اتسمت بالتنظيم والمبادرة الطوعية، ساهمت في تحسين ظروف حوالي 15 ألف مستفيد سواء عبر الدعم المالي المباشر أو من خلال جمع التبرعات العينية من مؤسسات المجتمع المدني والمبادرات المجتمعية.

ملاحق التقرير توضح بمهنية عالية وتفاصيل دقيقة حجم الدعم ومصادره واوجه الصرف، وهو أمر تفتقر له الكثير من مؤسسات المجتمع المدني العاملة في فلسطين.

الجمهور الذي يراقب عملية التحفظ على أموال المؤسسة بدا مصدوماً من سذاجة التهمة ومدى التسييس وضيق الأفق الذي اتسمت به، ولن يكون من السهل اقناعه بحيثيات القرار، وهو، الجمهور، الذي يملك مرجعيات متراكمة وذاكرة جيدة حول أداء فياض في المشهد السياسي الفلسطيني والصراع الذي خاضته حماس وأوساط متنفذة من فتح لدفع الرجل بعيدا عن موقع القرار، إذ يصعب الحصول على نقاط اتفاق مشتركة بين فتح وحماس مثل اتفاقهما على التخلص من سلام فياض وظهوره المفاجىء في المشهد السياسي الفلسطيني، ثم عودته مؤخراً من خلال مؤسسة أهلية تنموية.

إبعاد فياض يشكل هدفاً قديماً وأثيراً لدى الفصيلين بدأ يتراكم منذ تولي الرجل حقيبة المالية في عهد الراحل ياسر عرفات، وتواصل خلال توليه لرئاسة الوزراء إثر انقلاب حماس وسيطرتها على قطاع غزة، في حينها وصل الأمر بشخص مثل القيادي في حماس محمود الزهار إلى اعتبار أن "تكليف فياض برئاسة الوزراء هو خروج عن العقيدة"، في ما اعتبر بعض قادة فتح أن الرجل في موقعه يشكل تهديداً مباشراً على دور الحركة في صناعة القرار.

خلال الفترة التي تسلم فيها سلام فياض مسؤولياته استطاع أن يقدم نموذجاً مختلفاً لرجل الدولة الذي يسعى لعصرنة أداء المؤسسة الرسمية والتخفف الواضح من البلاغة الثورية ورطانة الخطاب السائد واقتباساته الفارغة، والتركيز على أحداث الأثر وترشيد الأداء عبر وضع الخطط والاستراتجيات، وخلق ادارة رشيقة ومرنة لا تثقلها أعباء الارتجال والتعامل مع الوظيفة الرسمية كحق فصائلي، وما تسببت به المحاصصة من تفاقم البطالة المقنعة وتكاليفها الباهظة التي أرهقت ميزانية السلطة الهشة.

كان الأمر محاولة جريئة للانعطاف بالمؤسسة الرسمية التي ترهلت في زمن قياسي، نحو إدارة حديثة لتقديم الخدمات في سياق مفاهيم تضع الأداء الجيد والكفاءة في مقياس الوطنية.

يحسب للرجل، أيضاً، استعادة الأمن في مناطق الضفة مبتدئاً من الشمال، نابلس على وجه الخصوص، الحزم والصلابة وطول النفس التي
أبداها في مواجهة الفلتان الأمني وشبيحة الشوارع من المسلحين كانت مفاجئة تماماً لرجل اقتصاد جاء من مكتب رئيسي في الصندوق الدولي.
ترافقت تلك الحملات مع إعادة بناء الأجهزة الأمنية وتعزيز عقيدتها وتأهيلها وضخ دماء شابة مؤهلة في عروقها، مع ضمان نهايات خدمة كريمة للحرس القديم.

استعادة ثقة الجهات المانحة من خلال تأهيل الأداء المالي للسلطة وتطويره ونقله إلى مستويات عالية من الشفافية من خلال توفير فرص الاطلاع على الحركات المالية عبر شبكة الانترنت.

اختراق مناطق "ج" الخاضعة للسيطرة الأمنية للاحتلال والتجمعات المهمشة، حوالي 60% من مساحة الضفة الغربية، وفتحها أمام مشاريع التنمية وتأهيل البنى التحتية وضمها الى عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

بالنسبة للإسرائيليين كان "سلام فياض" خارج النص تماماً، أذكر أنني كتبت في حينها: "كانت إسرائيل تواصل عبثها في مفاوضة عرفات وزراعة بدائله، في محاولة لتفكيك "الظاهرة" وتوزيعها على نماذج كثيرة، في السياسة والاقتصاد و "المقاومة"، تلك الحملة التي انتهت بحصار غرفة ياسر عرفات في المقاطعة، عندما رفض "سلام فياض"، وزير المالية آنذاك، مغادرة المربع الصغير المحاصر، وتمدد على أرضية الغرفة جنباً إلى جنب مع ياسر عرفات، الذي احتفظ بجهاز التحكم بمكيف الهواء تحت مخدته، في تلك الغرفة الخانقة، أظن أن الملاحظة جاءت في مقابلة مع د. فياض أجرتها إحدى الصحف الأمريكية، تلك كانت إشارة مبكرة وواضحة الى أن الرجل لا يشبه الصورة المقترحة، اشارة لم يلتقطها كثيرون رغم وضوحها".

ببساطة شديدة سلام فياض لم يكن موظفاً "طيباً" لدى التقليد السياسي الذي يحكم المكان والوقت الفلسطينيين، ولم يقتنع على الاطلاق بدور "الموظف الذكي" القادم من البنك الدولي، ليضبط "مالية" السلطة الوطنية ويرشد الإنفاق، فيما يشبه "نوبة حراسة" على أموال المانحين، بتعبير أبسط كانت وطنيته تذهب منحى بناء المؤسسة وانضاج الواقع كأرضية لنشوء الدولة خارج غرفة المفاوضات، وليس الاتفاق على "دولة" تهبط في مظلة " المفاوضات" على واقع لم ينضج بعد.

هذه المقدمة، وهي طويلة نسبيا، ولكنها ضرورية لطرح أسئلة واقعية حول دوافع القرار، الذي تبدو أسبابه افتراضية، بالتحفظ على أموال مؤسسة فلسطين الغد، واتهامها الموارب بغسيل الأموال، أو وحسب مصدر أمني لـ"شبهة" أن المال المستخدم في مشاريع المؤسسة هو مال سياسي ويدار سياسياً!