القديستان

القديستان
بقلم عيسى قراقع 

رئيس هيئة شؤون الاسرى والمحررين

اطلق عليه يوم فلسطين، عندما اعلن قداسة بابا الفاتيكان فرنسيس وبحضور الرئيس الفلسطيني محمود عباس ابو مازن، ووفد فلسطيني ديني وسياسي، وخلال صلاة قداس في ساحة الفاتيكان، عن تطويب وقداسة الراهبتين الفلسطينيتين هما: الراهبة ماري الفونسين غطاس، والراهبة مريم بواردي ، واصبحت بذلك الفلسطينيتان أول قديستين فلسطينيتين في التاريخ المعاصر.

في احتفال الرهبنة المتميز ، حيث علت تراتيل الصلاة ، ورفع المحتشدون رؤوسهم الى الاعالي، اياديهم مفتوحة على مدى السماء الواسعة ، كانت الارض الفلسطينية مرهقة ، خارجة من دمها الى محرابها، وراءها الف عام من الصراخ ، وأولاد يحملون سلامهم او نعوشهم صاعدين.

القديستان الفلسطينيتان تطيران دون مسيح محجب أو معصوب العينين او مقيد ومحشور خلف النبوءات المغلقة ، وتطيران اكثر بعيدا عن الاستيطان الاستعماري الذي يفصل البشر عن المكان والشجرة، وبعيدا عن الموت المجاني قرب جدار أو على حاجز او في مركز تحقيق.

القديستان المقدستان بتراب الارض الأحمر، خرجتا من رحم واحد، ومن داخل مغارة واحدة، صوت واحد وبشرى للعالمين والمعذبين والمنكوبين روحا وجسدا واحلاما وحياة.

يكاد كل هذا العذاب ان يكون هذه القداسة، ويقال ان القداسة هي الصبر على الألم ، وتكريس الروح والحياة من اجل الفقراء والمرضى والاسرى والسلام العادل ، حينها تلتقي كلمة الله مع كلمة الارض ولا تفرق بينهما العنصرية وشياطين الاحتلال ومناهج الاستعباد.

القديستان الفلسطينيتان تلامسان الآن اكتاف القدس السبعة، وتصافحان آلاف الاسرى والاسيرات المعتقلين خلف القضبان، تقتربان من الاسير المضرب خضر عدنان، تسقياه الماء، وتقتربان من الاسيرين المريضين يسري المصري واياس الرفاعي، تقولان: الحب شفاء، والروح لا تفنيها امراض السرطان، عطر وردة من الجليل، شتلة زيتون من بيت لحم على جسدين يذوبان في الصمود الاعجازي، نفحة حياة على مئات المرضى المشلولين والمعاقين والمحاصرين بالموت البطيء.

القديستان الفلسطينيتان ، تفتحان خارطة البحر الميت، وتسيران على خطى الرعاة والانبياء والشهداء المعلقين في المسافات من الناصرة الى النقب، هنا يقيم شعب في صخور جسده، يتوالد ويحيا ولا يطرده الغبار العابر المدنس، ولا الاساطير المسلحة بالفتاوي والبنادق واسلاك الوعود الكاذبة.

القديستان تحددان اللقاء في هذا الفضاء، تسألان عن ضمير العالم، عن كبد العالم، وتقولان : الرهبنة عالمية وعابرة للقارات وكافة جهات القلب، والرهبنة هي سؤال المسيح الذي ولد بين شجرة تكاد ان تقتلع، وطفل يكاد ان يساق الى الذبح، وهي صهيل النور الانساني ، عندما يندحر الغزاة الملثمون ويتركون حصار النجمة والفكرة وبيت الميلاد الأول.

شكرا ايتها القديستان، شمس على النوافذ المفتوحة، وليست انفجارات قنابل تدق البحر واليابسة واللاجئين.

شكرا ايتها القديستان ، الضوء دائما صديقا للاسرى، والألوهية هي بشرة الكون، وهو يمسح دموعه بأجساد الموتى منذ النكبة حتى حاجز قلنديا، ويكون الكلام الفلسطيني اعجازا ، هكذا قالت الملائكة للمتعبدين والمحتشدين في ساحة الفاتيكان.

ليس الصمت اول الجحيم، وان كان الكلام نارا، فالصلاة الفلسطينية لم تعد تتسع لهذا الحشد المحترق المتطوح في كل الليالي : بيوت يداهمها الجيش ولا يتركون فيها اطفالا، ارض تجرف بلا رحمة ، بكاء ام خلف الحائط، يد غبار سوداء تمر في ساحة الكنيسة، شهيد يقوم غاضبا من قبره ، اسير يبني حلمه في جدار اسمنت وفولاذ .

شكرا ايتها القديستان، كيف استطعتن ان تحملن كل هذا المعنى في التاريخ وتضيئان، تعلنّ ان البلاد مقدسة باجسادنا ووضوءنا ودمنا وكلامنا الفضي، تعلنّ ان الذاكرة لا تهزمها الحروب، ولا البارود المتدفق رصاصا ومزاميرا، لا يقدس العبارة في المكان والزمان.

القديستان الفلسطينيتان تستفزان الدبابات والقنابل والطائرات بعد ان اشعلتا الكواكب ، قرأتا النص الكنعاني المغسول بالملح والخبز و حجارة الاطفال المنتشرين في باب الخليل وقرب قبر الشهيد محمد ابو خضير، وتقرآن: الطريق الى الغد صرح مفتوح، لا نشكو الحياة، نحب الحياة ، نشكو الاحتلال وهو يفجر المعبد واركان الصلاة.

 
إني ادعوكما الى العشاء الاخير ايتها القديستان : 

صراخ على فمي وشمعة في الصدور

خلف الباب ينتظرون

جلادا او سجانا أو شيطانا

باركاني الآن قبل القيامة

امتلأت عضلاتي بالبعث والنشور