القدس.."أسطورة التاريخ" تحاصر حاضرها

رام الله - دنيا الوطن - بثينة حمدان
"في القدس، أَعني داخلَ السُّور القديم.، أَسيرُ من زَمَنٍ إلى زَمَنٍ بلا ذكرى تُصو.ّبُني. فإن الأنبياءَ هناك يقتسمون تاريخَ المقدَّس... يصعدون إلى السماء ويرجعون أَقلَّ إحباطاً وحزناً، فالمحبَّة والسلام مُقَدَّسَان وقادمان إلى المدينة. كنت أَمشي فوق مُنْحَدَرٍ وأَهْج.سُ: كيف يختلف الرُّواةُ على كلام الضوء في حَجَرٍ؟
أَم.نْ حَجَر ٍشحيح. الضوء تندلعُ الحروبُ؟" الشاعرمحمود درويش.

الحصول على تصريح اسرائيلي لدخول مدينة القدس لا يعني أنك ستجتاز حاجز قلنديا الذي تعتبره اسرائيل معبراً دولياً، وكثيراً ما أعاد الاسرائيليون المسنين والأطفال. وكي يدخل فريق» القبس» كان لا بد من استخدام مركبات تحمل لوحة الترخيص الصفراء، أي الاسرائيلية.

توقف الباص العمومي الذي أمامي عند الحاجز ليتركه معظم الركاب ما عدا أب وابنه الصغير لأنهما يحملان هوية القدس، أما الزوجة الضفاوية فقد تركت الباص، وسرنا معاً لنجتاز الحاجز مشياً على الأقدام..نحن الضفاويون منبوذون! سرنا في طريق المنبوذين عبرنا الدواليب الحديدية التي تغلق فجأة وتفتح بضغطة من الجندي. السقف مغطى بطبقات من الشبك الحديدي الصلب.

كان يوم السبت هادئاً عند الديانة اليهودية، يؤجلون مسيراتهم ومخططاتهم العنيفة لبقية الأسبوع. عند إحدى البوابات نجح البعض في كتابة شعارات مثل: «رايحة عالقدس نيالي» و«محررة ان شاء الله».. نعم كانت آخر زيارة لي قبل سبع سنوات.. فماذا عن جيل ينشأ دون أن يسمح له رؤية القدس!

روح المكان

بعد الحاجز اتخذت مركبة أخرى إلى باب العمود–باب دمشق-، وقفت أتأمل السور القديم والباعة المتجولين، وبعض الفلسطينيات القرويات اللواتي يبعن الفول الأخضر والزعتر ، ومجموعة من الجنود يتجولون في البلدة القديمة داخل السور.هناك بوابة كبيرة هي باب العمود، حيث تنتظرني لواء أبو رميلة. 

أما السور التاريخي الذي بناه السلطان العثماني سليمان القانوني فأحاط بالمدينة القديمة ومساحتها كيلو متر واحد، وبلغ متوسط سمكه مترين، تتخللته أبراج دفاعية وبعض الفتحات الطولية.
للقدس أحد عشر باباً أبرزها: الخليل، الحديد، العمود، الساهرة، المغاربة، النبي داوود، والأسباط. المدينة التي تعد ملتقى الحضارات والأديان السماوية الثلاثة، ومركز الطرق التجارية بنيت على أربعة جبال هي: «موريا، حيث المسجد الأقصى، جبل أكرا حيث كنيسة القيامة، جبل بزيتا قرب باب الساهرة، وجبل صهيون، حيث يقع مسجد النبي داوود»، ويحيط بها ايضاً جبلا الزيتون ورأس أبو عمار.

الضرائب التعجيزية!

اتجهنا أنا ولواء في أسواق المدينة مثل خان الزيت والقطانين إلى أن وصلنا إلى مطعم فلافل أبو شكري الذي تأسس عام 1965، ويعمل فيه اليوم أبناء أبو شكري واحفاده. وقف ابنه ياسر خلف كومة من صحون الحمص والمسبحة والفول، وبعد مذاق الفلافل الذي لا يضاهى تحدث للقبس عن معاملة الاسرائيليين لتجار البلدة: بلا تسهيلات أسوة بالتجار الاسرائيليين، عدا أنهم لا يصدقون ملفات المطعم المالية عند فرض ضريبتهم التي لا يقدمون مقابلها أي خدمات. والضرائب هي؛ الدخل، وضريبة التأمين الوطني بقيمة %10، والأملاك «الأرنونا» الخاصة بالمقدسيين والتي حولت المالك إلى مستأجر، وتبلغ $100 على المتر الواحد، وقد وصفها الكثيرون بأنها التهجير الصامت للمقدسيين، أما ضريبة التلفزيون فهي التعجيزية، وقيمتها ألف دولار سنوياً، وكثيراً ما منعت اسرائيل الحجاج وأي مسافر مقدسي من السفر لعدم دفعه الضريبة، إضافة إلى ضريبة القيمة المضافة من قيمة المبيعات والبالغة %17، وضريبة مستحدثة هي ضريبة أمن الجليل التي فرضت على جميع السكان العرب في اسرائيل نتيجة الشجارات التي حدثت مع يهود الجليل، عدا عن الغرامات التي تفرض على البائع الذي يعرض بضاعته في باب متجره.

باختصار، فإن ابن ابو شكري يقول: «تأخذ هذه الضرائب أكثر من نصف أرباحنا». بل إن أكثر من مئتين وخمسين متجراً من أصل ألف أصبحت موصدة بسبب تراكم الضرائب، وبات %70 من سكان القدس العربية تحت خط الفقر. هم باختصار «مواطنون مقيمون» حسب الرؤية الاسرائيلية حتى أن هويتهم تختلف عن هوية عرب الـ48، هم مجرد اقامة، ولا يملكون جوازاً اسرائيلياً بل وثيقة تسمى «لاسيه باسيه» والاتفاقيات منحت الأردن المقدسيين جوازاً أردنياً.

المرابطات والمبعدات

دخلنا من باب السلسلة إلى المسجد الأقصى، والذي أوضحت لواء أنه يشمل كل ما هو داخل سور الأقصى من مرافق من مساحة والمباني، سواء مسجد أو قبة الصخرة وغيرها ولا فرق في أجر الصلاة في أي مكان داخله. 

أشارت لواء إلى باب المغاربة الذي يحاول الاسرائيليون اقتحام الاقصى عبره قادمين من الحي اليهودي، ومحاولة الصعود الى القبة، فيشتبكون مع الفلسطينيين المرابطين، فيتم اعتقالهم وابعادهم وحرمانهم من دخول الأقصى لفترات تصل إلى سنوات.

خديجة خويص (38 عاماً)، ماجستير تفسير قرآن من جامعة الخليل، دبلوم دراسات بيت المقدس من بريطانيا، خمسة أولاد، هي إحدى «المرابطات»، بينما يمنع الرجال من المرابطة، أبعدت أربع مرات واعتقلت كثيراً، وكانت إحدى التهم التكبير وتحريض النساء على الصلاة! جاءت اليوم لحضور كتب كتاب، يمنح العروسان فيه المصحف الشريف والدرج، ويوزع الحلو على الموجودين. خديجة في نومها تحلم أنها تلاحق المستوطنين، وأكثر ما يحزنها ويبكيها أن ينجحوا بالصعود إلى القبة.

الحفريات.. استعداداً «للهيكل»!

أخذني مشهد الأقصى بوابة الأرض والسماء، لكن لواء أعادتني للواقع، فدقت بقدميها على الأرض لتقول انه عند هذا الحد وصلت الحفريات الاسرائيلية، والتي بدأت في عهد الدولة العثمانية بحثاً عن الآثار، لكن الاسرائيليين حولوها إلى حفريات لتغيير معالم المكان وتهويده. بنوا مدينتهم تحت الأرض فوصلت باحاته خاصة عند باب السلسلة، لكنها لم تصل بعد إلى المسجد والقبة، وذلك استعدادا لبناء هيكلهم المزعوم.. وعند هذا الباب يقيم الاسرائيليون احتفالاتهم ويرقصون على أغانيهم التلمودية، وحفروا نفقاً يوصلهم إلى حائط البراق الذي يطلقون عليه «حائط المبكى» ويحضرون أطفالهم الى المكان، ويشيرون إلى الأقصى قائلين: هذا مكان المعبد!

همَّة الشباب

لواء أبو رميلة( 24 عاماً) وهي خريجة اعلام، قررت وزملاؤها قبل عام، لاسيما مع ازدياد الاقتحامات للأقصى انشاء موقع «ه.مَّة نيوز» الإخباري، بسبب ضعف الاعلام وعدم تصويره الاقتحامات، وبثوا الصور والمعلومات على حسابهم على الفيسبوك واليوتيوب وعبر خدمة الرسائل على الواتساب. بدأوا بامكاناتهم البسيطة وتكثف عملهم مع استشهاد أبو خضير حرقاً والاشتباك اليومي المستمر اثر استشهاده.

«القدس الكبرى»

كانت الشابة لواء تعرف كل شيء في الدين والسياسة، وبدل أن تقضي نهارها في التسوق والترفيه، حفظت حتى تاريخهم ومعتقداتهم، فالقدس الكبرى هي مشروعهم الديني الذي يقضي بأن يكون المكان عام 2020 مهيئاً لنزول الهيكل من السماء، وهو عام تصل فيه اسرائيل أوج قوتها حسب الاعتقاد اليهودي، وهو عام تراجعها في معركة تسمى جورة العناب يفوز فيها العرب على اليهود، وهو اسم منطقة محاذية لسور القدس، حيث سيقتل فيه الأعور الدجال وجوج ومأجوج. ويدعي اليهود أن الجورة هي منطقة أثرية تعود لفترة الهيكل الثاني المزعوم، في حين توجد فيها بركة مياه كبيرة اهتم بها المماليك فبنوا جسرا لنقل المياه الى المسجد وسكان القدس. 

صادر الاحتلال جزءًا كبيراً من أراضيها فبنى حديقة عامة بمساحة سبعة دونمات، فتحولت أشجار التين والزيتون إلى عشب أخضر، وفي نهاية البلدة تقع بركة السلطان سليمان القانوني التي حولها الاحتلال إلى قاعة مفتوحة للحفلات الموسيقية الصاخبة.. حدائق تلمودية ومراقص ليلية في قدس الأقداس!

وتحاول الحكومة الاسرائيلية الاستعداد للمعركة بالتهويد واضعاف سكان القدس، وربط مستوطنات الضفة بالقدس عبر الشوارع والجسور، واغلاق الضفة بجدار الضم والفصل العنصري.

رواية الإسلام

هذا وأكد لنا الشيخ عكرمة صبري خطيب المسجد الأقصى أن العلامات الكبرى للقيامة لم تحدث وتتمثل في نزول السيد المسيح عليه السلام وقتله للأعور الدجال مدعي النبوءة، كما يقتل قبائل جوج ومأجوج التي تفسد في الارض. كما أكد أن تحديد السنة بـ2020 هو وهمي ويبقى مرتبطاً بالخالق عز وجل، وأن جورة العناب لم ترد في القرآن الكريم.

قبر المسيح عليه السلام

كانت هناك مجموعة من الزوار حول الغرفة التي تضم قبر السيد المسيح عليه السلام، يدخلون فردا فرداً يسلمون ويصلون على قبره في كنيسة القيامة التي شيدتها الملكة هيلانة والدة الامبراطور الروماني قسطنطين، حيث عثر على الصليب الذي صلب عليه المسيح في مغارة قريبة.

ومع صعوبة وصولنا الى القبر وقفنا مع الدليل السياحي فوزي ناصر الذي حدثنا عن أهم الشعائر الدينية في الكنيسة. ففي سبت النور، أول يوم في اسبوع الآلام وهو آخر أسبوع من صيام الأربعين يوماً للمسيحيين، يدخل بطريرك الأرثوذكس لإضاءة الشعلة من القبر ثم يصرخ المسيحيون «قام حقاً قام»، كناية عن قيام المسيح من قبره إلى السماء قاهراً الموت.

حتى الدهان ممنوع.. ممنوع 

في طريقنا اشارت لواء إلى بيت العائلة الذي تتناوب عليه كي لا يبقى فارغاً وبالتالي مطمعاً سهلاً للاسرائيليين. تحدثت عن السقف المهترئ الذي يسقط على طعامهم ورؤوسهم. التقينا في الطريق محمد شلبي 36 عاماً، يسكن في شارع الواد، حاول الحصول على ترخيص دون جدوى، فبنى 45 متراً تم هدمها، ومن منزله يشاهد المسيرات الليلية والشهرية للمستوطنين بهتافاتهم العنصرية وأعمال الشغب من تكسير كل مافي طريقهم.

الوصول إلى البيت بقرار محكمة.. 

اتجهنا إلى باب الحديد، باحثين عن حوش الشهابي، وإذا بإشارة «المبكى الصغير»، عدا عن حائط البراق الذي حولوه إلى المبكى الكبير، اخترعوا هذا الجدار للصلاة فيه، كونه حسب اعتقادهم مقابلا لما يسمى الهيكل. ووضعوا اشارة ممنوع الدخول في الزقاق.

التقينا بيوسف رملاوي، الذي أوضح أنه بإمكاننا الدخول، فقد حصل على قرار محكمة التي حددت ممراً من بضعة أمتار للوصول إلى بيته. سرنا معه إلى البيت الذي يعيش فيه واخوته، أربع عائلات من 18 فرداً، كل منهم في غرفة واحدة.. فالبناء ممنوع.

لا يخرجون بعد السادسة مساء. حتى ابنته شهد (خمس سنوات) تخاف من الخروج، فكثيراً ما يشتمها المصلون اليهود، ويبصقون عليها ويخيفونها. ولكثرة مضايقاتهم ليلاً وضع يوسف كاميرات في المدخل، ليثبت ازعاجهم لدى الشرطة الاسرائيلية، بعد أن كانت لا تأخذ بشكواه.