استراتيجية الصمود "روابي" .. مقابل استراتيجية نتنياهو "التهجير"

استراتيجية الصمود "روابي" .. مقابل استراتيجية نتنياهو "التهجير"
مارلين كاتس
في خضم المشاحنات بين رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو والبيت الأبيض بشأن إيران التي سيطرت على عناوين الصحف، والتكهنات حول الانتخابات الإسرائيلية التي ستجري اليوم الثلاثاء، كان من السهل أن نغفل بندين صغيرين من الأخبارالواردة من إسرائيل. الأول مفاده تخصيص إسرائيل لمبلغ 46 مليون دولار لتشجيع الهجرة الأوروبية اليها. أما الخبر الثاني الذي دفن في خضم التقارير عن زيارة نتنياهو، كان ما بدا وكانه "بادرة حسن نية" تجاه الرئيس أوباما، وبعد تسع سنوات من الرفض، وافق نتنياهو على منح "روابي" المدينة الفلسطينية التي تم بناؤها حديثاً، الحق بالوصول لمصادر المياه.

قد تبدو هذه الأفكار والمواقف لا تستحق الوقوف عندها، ولكنها مهمة، كون كلا الخبرين والموقفين يوفران نظرة ثاقبة للأهداف والإستراتيجية الحقيقية لنتنياهو وحلفائه من اليمين.

وعلى الرغم من التعتيم الإعلامي الإسرائيلي، وبعض وسائل الإعلام العالمية، فإن روابي هي أول مدينة حديثة وغير إعتيادية يجري بناؤها من قبل الفلسطينيين للفلسطينيين في الضفة الغربية. فكرة المدينة وتمويلها هي من خلال تحالف يقوده الفلسطيني بشار المصري، حيث عند اكتمال بناء وتأهيل المدينة ستكون موطناً ل40،000 نسمة.

منذ بدأ البناء فيها في العام 2008 أصبحت روابي أكبر مشروع تنموي ينفذه القطاع الخاص في فلسطين، وأكبر مشغل للقوى العاملة حيث أوجدت المدينة ما يزيد عن خمسة آلاف فرصة عمل للشابات والشباب الذين قاموا بالفعل ببناء الكنائس والمساجد، ومركز للتسوق، والمدارس، والمرافق الترفيهية، بالإضافة إلى بناء وبيع ما يقارب من 1000 شقة.

لم يكن كل هذا سهلاً في مكان تحتله إسرائيل وتسيطر فيه على جميع الموارد من وإلى فلسطين، كل الطرق، المصادر المائية والمجال الجوي ، واستمرار إقامة حواجز على الطرق بهدف التعطيل، بدءاً من اصدار التصاريح، والتي حولتها اسرائيل إلى جحيم، إلى جانب فرض منع دوري وقصري للموردين والعاملين في روابي من الوصول إليها.

عندما زرت روابي لأول مرة في تشرين أول من عام 2013، وبفضل استخدام مواد البناء المخزنة في مستودعاتها أو التي يتم تصنيعها في موقع البناء داخل المدينة، كانت كل مواد البناء والعناصر الإنشائية في المدينة متوفرة لبناء الكنائس والمدارس والمباني الترفيهية والمساحات الخضراء، والمبانى التجارية، وأول 1000 وحدة سكنية، والتي أصبحت جاهزة تقريباً.

ورغم عدم منح الموافقات اللازمة لتوسيع أو إعادة تأهيل الطريق التي تمر في المنطقة المسماة "ج"، والتي تقع تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة، فقد كان القائمون على المدينة واثقين دوما بأنهم سيحصلون على حقهم في ربط المدينة بمصدر المياه، مما يسمح بانتقال مالكي أول ألف شقة اليها.

وعندما عدت للمدينة بعد ستة أشهر، مع وفد من قادة المجتمع المحلي وأعضاء الكونغرس، كان قد تم بيع 1000 وحدة سكنية تقريبا، ولكن من دون أن يتم إنتقال ساكنيها، حيث أن إسرائيل كانت لم تزل ترفض إمداد روابي بالمياه، حتى ذلك الوقت، كان مناخ التفاؤل يعم والأمل يراود الموظفين. ومع ذلك، عندما زار أصدقاء لي روابي في كانون الأول عام 2014، شعروا أنه مع عدم وجود المياه حتى حينه، ومع زيادة التكاليف، واليأس الذي بدا يتسلل الى مشتري المنازل الذين باتوا قلقين وغير مطمئنين .

في شباط من هذا العام كان هناك بعض "الأخبار السارة" عن روابي تناولتها وسائل الإعلام بشكل موسع، مفادها أن منسق أعمال الحكومة الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية اللواء يوآف (بولي) مردخاي، كان قد وافق على توصيل المياه لروابي.

قد يتساءل المرء لماذا تجعل اسرائيل بناء روابي مهمة صعبة للغاية؟ ولماذا تمنع الوصول إلى المياه التي تعد من أبسط الإحتياجات الأساسية؟ الجواب يكمن في كل من تاريخ إسرائيل، ورؤية نتنياهو/ ليبرمان لمستقبل إسرائيل.

بغض النظر عن وعود نتانياهو المخادعة لحل الدولتين، فقد أصبح من الواضح بشكل متزايد من تصرفاته وكلام حلفائه اليمينيين أن الهدف الحقيقي هو وجود الدولة الواحدة التي يسيطر عليها اليهود، من نهر الأردن إلى البحر الأبيض المتوسط، ومن سوريا إلى مصر.


ولكن نتنياهو وليبرمان، وآخرين، لديهم مشكلة، حيث تأسست إسرائيل كدولة يزعم أن تكون دولة يهودية وديمقراطية في آن واحد. في حين أن العديد من التساؤلات تدور حول استخدام العديد من المصطلحات بالفعل من قبل نتنياهو كمصطلح "الدولة اليهودية" لوصف أمة لا يوجد فيها سوى 70 % من سكانها يهودا، كما تشكل الأراضي التي يطمع في التوسع فيها مشكلة أكبر. بين النهر و البحر تعيش أعداد متساوية تقريبا من اليهود والفلسطينيين، على الرغم من أن الفلسطينيين لديهم معدلات ولادة أعلى. ولهذا لو كان الفضاء الواسع ليمثل دولة ديمقراطية، فإنها لن تكون دولة يهودية بالتحديد، في حين لو كانت لتكون دولة يهودية، فإنها بالتأكيد لن تكون ديمقراطية.


حل نتنياهو / ليبرمان لهذه المعضلة هو تغيير الحقائق على الأرض باستخدام استراتيجية "جلب / طرد" ، أي "جلب الهجرة الواردة ودفع أو طرد الطرف الآخر"، وهنا عند الفحص والتدقيق تتجسد قصة وسياسة إسرائيل طوال الوقت. 
في مطلع القرن العشرين عندما أطلق ثيودور هرتسل وآخرون ما أسموه "المشروع الصهيوني" كان اليهود يمثلون فقط حوالي 3 % من السكان. ولكن بحلول عام 1948 عشية التقسيم، تدفقت أعداد كبيرة من اليهود الفارين من المذابح، ومن ثم أدت النازية في أوروبا إلى قدوم 543،000 من اليهود، لكنها بقيت تشكل حوالي 32 % فقط من ال" 2 مليون" شخص الذين كانوا يعيشون في عهد الإنتداب البريطاني لفلسطين. 
الهجرة لوحدها لم تكن تكفي أبدا، ولكن النزوح الجماعي للفلسطينيين في مواجهة الجيش الإسرائيلي في أعقاب التقسيم هو الذي غيّر المعادلة. ففي مدة أكثر قليلا من عام واحد أجبر ما لا يقل عن مليون فلسطيني على ترك منازلهم، مما حدا بالدولة المستحدثة او المولودة حديثا "إسرائيل" لمصادرة هذه المنازل فورا، كما لم يسمح آنذاك أو في أي وقت آخر، لهؤلاء الفلسطينيين بالعودة أبدا. وبحلول عام 1950، بلغ تعداد كل سكان إسرائيل مليون وثلاثمائة وسبعون ألفا، من ضمنهم فقط مائة وخمسون الف فلسطيني تبقوا في البلاد .

كما هو الحال مع كل من عمل مع الفلسطينيين فهو يعرف أن الحياة في الضفة الغربية صعبة للغاية، حتى مع تجنب الخوض بما يتم يوميا من اعتقالات جماعية واجتياحات عسكرية وعنف من قبل المستوطنين.

يعيش الفلسطينيون في حياة مكتظة على مالا يزيد عن 40% من أرضهم، في ظل استمرار مصادرة الكثير من الأراضي والسيطرة الكاملة على مصادر المياه، وهدم المنازل، وبناء الجدران الفاصلة العنصرية والطرق المحظورة، لهذا فإن الفلسطينيين الذين يعيشون في الضفة الغربية يواجهون سلسلة من التدابير الدراماتيكية التي تقيد تفاصيل حياتهم، من "نظام المرورالبيزنطي" للسفر إلى إسرائيل "والحرمان من استخدام مطارها"، إلى تقييدات عن أي الطرق التي يمكن للفلسطينيين إستخدامها، أو ما يخص تمكينهم من بناء منزلهم، وإذا كان لديهم إمكانية الحصول على المياه، وشبكة الإنترنت، أو حتى خدمة الاتصالات اللاسلكية الحديثة.

هذه الظروف، في هذا البلد العربي الأكثر تعليماً في الشرق الأوسط، والتي تتمثل في ارتفاع معدل البطالة فيه إلى 25%، من المرجح أنها وراء حقيقة أن ما يقدر ب 45000 فلسطيني غادروا الضفة الغربية وقطاع غزة خلال السنوات الأربع الماضية بهدف البحث عن الفرص الاقتصادية.

روابي بمبانيها الجديدة المبتكرة والفلسطينية الصنع، ومدارسها الحديثة، ومدرجها المبهر، والأهم من ذلك كله استقلالها، هو كما يقول مؤسسها نموذج للصمود والتحدي والممانعة، ورؤية مستقبلية لما يمكن أن تكون عليه الحياة في دولة فلسطينية مستقلة.

في حين أن روابي لا تخلو من المنتقدين الفلسطينيين، فإن فشلها يمكن ان يشكل ملحمة، بغض النظر عن مقدار خبرة ومال أو مهارة الفلسطينيين بامتلاك أو الإستثمار في "بناء فلسطين استراتيجية"، فإن إسرائيل سوف لن تسمح أبدا بنجاحهم.


ويبدو في الآونة الأخيرة، أن رضوخ نتنياهو لا ينبغي أن ينظر إليه على أنه علامة على عظمته ولطفه أو كرمه أو حتى تغيير في نواياه، ولكن الضغوط من جانب الفلسطينيين وتلك الضغوط الموجهة من أوروبا والولايات المتحدة والشرق الأوسط، وهذا انتصار صغير يعطيني (وبالتأكيد يعطي غيري) الأمل أنه على الرغم من سنوات عديدة من الفشل، لا يمكن أن ننهي الجوانب الأكثر فظاعة للاحتلال فقط، ولكن يجب انهاء الاحتلال بذاته أيضاً. 
قد يتركز إهتمام العالم على محاولة إسرائيل الكبرى لتخريب الجهود الدولية للتوصل إلى اتفاق مع إيران، ولكن سيكون من الخطأ الفادح أن نغفل استثناء تسع سنوات من الكفاح من أجل المياه في روابي أو دعوات نتنياهو المتجددة لهجرة يهودية أخرى . 
ومن هذه الإجراءات، وغيرها مثل احتجاز اسرائيل لعائدات الضرائب الفلسطينية أو اعتقال مئات الأطفال الفلسطينيين كل عام، والتي تؤدي إلى دفع الفلسطينيين نحو الهجرة هي التي تشكل التهديد الاكبر في الشرق الاوسط، لأنه بدون عدالة لن يكون هناك سلام.

التعليقات