دون الـصِّــفْـــر فــي عِــزِّ الــتَّـــوريـــط

دون الـصِّــفْـــر فــي عِــزِّ الــتَّـــوريـــط
دون الـصِّــفْـــر فــي عِــزِّ الــتَّـــوريـــط
آصف قزموز

منذ بواكير الخمسينيات إن لم نقل قبلها، تتزاحم المشاريع والمقترحات من قبل أطراف ومجموعات اقتصادية وسياسية عديدة، ولا سيما من قبل اللاعبين الدوليين المؤازرين لقيام دولة إسرائيل كمشروع صهيوني إستراتيجي متقدم في فلسطين، بدعوى معالجة القضية الفلسطينية، ولكن عبر سعيهم لتحويلها تدريجياً لقضية لاجئين يراد لها حل إنساني، وظلت المشاريع تتراصف وتتراكم متناغمةً متواليةً على ضفتي السياسة والاقتصاد من المشروع، لتصب في ذات البوتقة والهدف المرسوم حتى يوما هذا، وفي كل مرة يكون لسان حالنا "العبوا يا اولاد واللِّعِب على إمكُمْ".
وفي هذا الخضم، وتحقيقاً لأهداف بعيدة وقريبة المدى، طرحت مشاريع اقتصادية ذات أبعاد سياسية تصب في ذات الغايات الاستعمارية الاستيطانية، حيث جرى تقسيم مياه نهر الأردن ما بين العرب وإسرائيل بعد أن حولوا مجراه، فبتنا على نجواه أصبحنا على ذكراه، وأقيمت مشاريع اقتصادية تشغيلية على جانبيه، بهدف المساعدة في تشغيل الفلسطينيين الذين أخرجوا من ديارهم ليصبحوا لاجئين، وفي جميع الأحوال كانت المآلات والغايات سياسية أولاً وبامتياز، ولكن في قالب ومظهر إنساني أممي مضلل، لتترافق هذه المشاريع مع مشاريع سياسية هي الحامل والمحمول على أكتافها والمغذي والموجه لها نحو الغاية المقصودة. وهو ما يؤكد أن مشروع الاعتراف بإسرائيل من قبل العرب وحتى مفهوم السلام الاقتصادي السائر على الأرض من دون ضجيج، من تحت وفوق أقدامنا، لم يكن أمراً حديثاً أو صدفياً وإنما يجري العمل عليه منذ خمسينيات وستينيات القرن الماضي، لكن اختلفت الصيغ والتجليات على الأرض باختلاف المراحل والحقائق والمستجدات، واستراتيجية الجوهر ظلت واحدة، الأمر الذي جعل من تلك المشاريع البوابة الواسعة لدخول المفاوضات المباشرة مع اسرائيل في السبعينيات عبوراً لكامب ديفيد ووادي عربة حتى أوسلو وما تلاها.
خلاصة القول، إنه بعَيد قيام ثورة 23 يوليو في مصر كأحد ردود الأفعال على نكبة فلسطين العام 1948، ظهرت في ذات الفترة حركة القوميين العرب كإطار تنظيمي ورافعة قومية لفكر الناصرية التي تزعمها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، حيث وضعت قضية فلسطين في رأس أولوياتها. من هنا كان اللقاء التحالفي الوحدوي ما بين عبد الناصر الصاعد بمده القومي الناجز وجماهيريته الواسعة، مع حركة القوميين العرب في تلك الفترة، شأن عظيم في مرحلة النهوض الوطني والقومي، ما جعل الحركة تخشى بفعلها التحرري على نظام الحكم الوليد القادم من رحم ثورة 23 يوليو في مصر، فرفعت شعار: "فوق الصفر وتحت التوريط"، أي الشروع بالعمل العسكري بما لا يورط مصر في أية معارك أو صراعات مبكرة أو غير محسوبة.
الواضح أن هذا الشعار الذي اختطته حركة القوميين العرب بمنظور تقدمي قومي وأخلاقي، في بداية خمسينيات القرن الماضي في فلسطين، يجري اليوم توظيفه وامتطاء صهوته، ولكن بمنظور إرهابي احتلالي متطرف لا أخلاقي ولا إنساني. فها هي قوىً وأطراف عديدة تتكالب علينا بذات المفهوم مقلوباً وبالاتجاه المعاكس لحركة وتطلعات الشعوب الحية، حيث نجد حكومات الاحتلال المتطرفة مثلاً، تمارس عدوانها على شعبنا بكل تجلياته بحيث تشدد الخناق علينا بما يكرس احتلالها ويبقي حقوق شعبنا تحت ناب الغول ومخلب الاستيطان العنصري، ويمنع عن شعبنا كل سبل الحرية والعيش الكريم، إلاَّ بمقدار ما يبقينا تحت نير عبوديتهم ويمكننا من البقاء والاستمرارية لتأمين مصالحهم. فهم يحتجزون أموال الشعب الفلسطيني مثلاً ولكن حتى حدود شفير الهاوية، دون السماح بانهيار السلطة أو إنهائها، لأنه ما زال لهم مصلحة في بقائها هكذا مفرغة ومنزوعة المقام والمعنى وبلا آفاق منظورة أو محتملة، وفقط بما يخدمهم ويخدم استمرار احتلالهم، فهم يبقون علينا تحت حصار ودون الانهيار.
لكن هنا لا بد أن نتذكر ونأخذ بالحسبان أن الأشياء تزول بزوال مسببات وجودها، وهذا الأمر ينطبق على حالتنا الفلسطينية كسلطة تحت الاحتلال. ليس هذا وحسب، بل إن الحروب التي تخاض اليوم في أكثر من بلد في منطقتنا والعالم، تحت عنوان الحرب على الإرهاب، باتت تستخدم ذات المنطق، فالحرب في سورية تدور بحسابات واضحة بما لا يطيح في النظام من سدته، ويمنح داعش استمراريتها في حربها كمعول هدم يساعد على الهدم والتفكيك اللازم لإعادة رسم وتفصيل الدول والبناء على خارطة جديدة للمنطقة.
كيف لا ونحن نشهد الدعم والإمداد يصل في وضح النهار بالطائرات لداعش في سورية والعراق وليبيا وغيرها، من ذات القوى التي تدعي محاربة داعش. وكيف لا ونحن من شهدنا إدامة وجود علي عبدالله صالح على خارطة الصراع حتى يومنا هذا، يعبث في مصير البلاد ويسهم في قتل وتقتيل العباد، وكأنه بريء من كل ما اقترف أو تسبب باقتراف جرائم منذ بدء الصراع وحتى يومنا هذا، في حين تجهز على نظم وحكام، وحوكم مسؤولون وأزيحوا عن الخريطة بزمن قياسي، رغم أن ما اقترفوه لا يساوي قطرة في بحر الدماء الذي اقترفه صالح وأمثاله من الحكام !!
ومن سخريات القدر في أمر واقعنا العربي بالمعنيين الواسع والضيق المجزأ للكلمة، تجلي ما كنا نسمعه على لسان الجدات في اللهجة الشعبية الدارجة، حين كنَّ "يَدْعين" على ظالم أو مجرم بالقول:" إلهي يجعلوا يتمنى الموت وما يْنولُه"، وحال العرب اليوم يقول، إننا كنا دائماً نتمنى الوحدة والتماسك العربي، بينما أصبحنا نتمنى التقسيم بأسرع وقت ممكن، ونحن نشهد الدول العربية سائرة في طريق التقسيم دون أن يسمح لها بإتمام عملية التقسيم، وذلك لإطالة أمد دوامة الصراع المرسومة، واستمرار الاستثمار بها لأطول وقت مجز، مع أن إتمام عملية تقسيم هذه الدول، بالتأكيد أصبح أقل كلفة وأوفر جهداً ومالاً ودماً مما كنا نخاف. ولعمري إني بت أرى في إطار شعار فوق الصفر وتحت التوريط الذي أصبح اليوم مُدَوَّلاً ومُعمَّماً على كل المستويات، عمليات استثمار في إدارة وإدامة الصراع، وليس في السعي لحله وإنهائه ورفعه عن كاهل الشعوب، وهو ما يسحب نفسه على كل مستويات وحلبات وأجسام الصراع فصائلياً وحزبياً وأنظمةً ودول، محلياً وإقليمياً ودولياً، إذ لا مصلحة لصناع القرار ومالكي عنان ومصائر الشعوب في إنهاء الصراع وحل الأزمات، وذلك بمنطوق الربح والخسارة من مناظيرهم الفردية والفئوية والدولية الضيقة، وكل هذا يجري في خدمة مصالح القوى وتطلعات وأطماع مراكز النفوذ الدولي، الذي باتت نظرية فوق الصفر وتحت التوريط،عملياً وفعلياً تشكل ديدنهم، والأداة الناظمة لتوظيف الصراع وتوجيهه تحت عباءاتهم السوداء في مسار غاياتهم المقصودة.
على فكرة، لقد ظلت سخريات القدر ومفارقاته ومقارباته العجيبة، تلعب بقضيتنا وترقص على إيقاعها رقصة الموت الذي لم ينته، فأي إعجاز تاريخي وكوميتراجيدي، حين تعلموا أيها السادة، أن نكبة عام 48 في العام الحالي 2015 يكون قد مضى عليها سبعة وستون عاماً، وهزيمة 67 سيكون قد مضى عليها ثمانية وأربعون عاماً. ونحن لا نزال دون الصفر في عز التوريط.
[email protected]

التعليقات