خطبة الجمعة للعلامة السيد علي فضل الله

رام الله - دنيا الوطن
 ألقى سماحة العلامة السيد علي فضل الله ، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:
عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله. ولبلوغ التقوى، نوصي بالاهتداء بما تحدّث به السيّد المسيح(ع) لحوارييه، عندما قال لهم: "يا معشر الحواريين، إنَّ ابن آدم مخلوق في الدّنيا في أربع منازل: هو في ثلاث منها واثق بالله، وفي الرابعة سيّئ الظنّ، يخاف خذلان الله إياه، فأما المنزلة الأولى، فإنه خلق في ظلمات ثلاث: ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة؛ فوفاه الله رزقه وهو في ظلماته، فإذا وقع في المنزلة الثانية، وأخرج من ظلمة البطن، وجد اللبن غذاءه جاهزاً، لا يخطو إليه بقدم ولا ساق.. فإذا ارتفع عن اللبن، وقع في المنزلة الثالثة، من الطَّعام من أبويه يكسبان عليه من حلال وحرام، فإذا مات أبواه، عطف عليه الناس بعد أن أوصى الله باليتيم ودعا إلى إكرامه.. فإذا وقع في المنزلة الرابعة، وكان رجلاً، خشي ألا يرزق، فيثبّ على الناس، فيخون أماناتهم، ويسرق أمتعتهم، ويغصبهم أموالهم، مخافة خذلان الله تعالى إياه.. ولو تساءل أنَّ الّذي أحاطه برعايته في المنازل الثلاث، أيعقل أن يتركه في الرابعة، فلما كان يستعجل الحرام".

أيُّها الأحبَّة، لقد أرادنا السيّد المسيح(ع) أن لا ننسى الله الَّذي أحاطنا برعايته منذ أن كنّا في بطون أمّهاتنا، وبعد أن خرجنا إلى الحياة، لأنَّه لن يتركنا ولن يخذلنا في مسيرة الحياة، ويكفينا أن نثق به، ونتوكَّل عليه، ونعمل بما يرضاه، حتى نجده مسدّداً ومؤيِّداً ومعيناً ورازقاً.

أقفل هذا الأسبوع على عددٍ من القضايا، والبداية من لبنان، حيث يزداد التّحدي لهذا البلد من حدوده الشرقيّة، في ظلّ ما تكشفه المعلومات الأمنية من استعدادات يقوم بها المسلّحون على هذه الحدود، لتهديد القرى اللبنانيّة، والاستنزاف شبه اليومي للجيش اللبناني هناك، والذي يأتي، مع الأسف، في ظلّ الترهّل الَّذي يعانيه الواقع السّياسيّ، والّذي لا يقف عند حدود عدم وجود رئيس للجمهوريّة، أو انتظام عمل المجلس النيابي، بل وصل إلى المؤسَّسة الَّتي تدير شؤون هذا البلد ومصالح الناس، حيث تغرق القوى السّياسيّة في السّجال حول كيفيَّة اتخاذ القرارات في الحكومة، وكأنَّ البلد بألف خير! وكأنَّ أموره تسير على ما يرام! فلا يوجد تهديد اقتصاديّ ولا أمنيّ ولا سياسيّ ولا معيشيّ، ولا توجد أزمة وجود أعداد كبيرة من اللاجئين السّوريّين، ولا كلّ ما ينتظر هذا البلد من استحقاقات!

إننا أمام هذا الواقع، نعيد دعوة القوى السياسيَّة جميعاً إلى أن تكون على مستوى التحديات التي تواجه هذا البلد، وآلام الناس ومعاناتهم، وإلى الإسراع في الخروج بصيغة حكوميَّة تضمن سير عمل هذه المؤسَّسة المتبقية، لتقوم بدورها، وتؤمّن مصالح الناس، بعيداً عن كلّ الحسابات الخاصَّة والضيّقة والآنية.

وهنا، نقدّر عمل كلّ القوى الّتي تسعى لتسهيل قيام الحكومة بهذا الدّور، في الوقت الَّذي نعيد الدّعوة إلى الإسراع في تأمين متطلبات الدّفاع للجيش اللبنانيّ، لمواجهة التّحدّي الخطير الّذي يواجهه، والَّذي عجزت عن مواجهته جيوش أخرى أكثر قدرةً وتجهيزاً.

وعلينا في ظلّ كلّ هذه المتغيّرات الّتي تشهدها المنطقة، أن لا نستكين لغطاء دوليّ أو إقليميّ لا يزال يظلّل السّاحة اللبنانيَّة، بقدر ما نسعى إلى تأمين غطاء داخليّ وبناء قوانا الذاتيَّة، من خلال وحدتنا وتضامننا وحسن تخطيطنا، لإدارة هذه المرحلة الصَّعبة والمعقّدة الّتي يمرّ بها لبنان والمنطقة.

وإلى اليمن، حيث تزداد المخاوف على هذا البلد من تفاقم الصّراع فيه واشتعال حرب أهليَّة، جراء التجاذبات الداخليَّة الَّتي تتخذ طابعاً مناطقياً بين الشّمال والجنوب، أو طابعاً قبلياً أو مذهبياً، والتدخّلات الإقليميَّة في هذه المنطقة ذات الطّابع الحسّاس والاستراتيجيّ، ما بات يؤكد ضرورة العودة إلى طاولة الحوار لمعالجة كل القضايا، حتى لا يغرق اليمن في أتون حرب أهليّة لا تبقي ولا تذر، ولا يكون فريسة التدخلات الخارجيّة والمجموعات التكفيريّة، التي تعتاش على الفتن الداخلية، وتستفيد منها.

وإلى البحرين، الَّذي لا نزال ننتظر فيه مبادرة من السّلطات تساهم في تخفيف التوتر والاحتقان، من خلال إطلاق سراح الشيخ علي سلمان وبقية المعتقلين، والعودة إلى حوارٍ داخليٍ جاد يُبعد هذا البلد عن صراع الداخل وتدخلات الخارج. إنَّنا نرى أنّ الحلّ في البحرين في يد سلطاته، فالقوى المعارضة تطالب بحقوق طبيعيَّة، لكي يشعر إنسان هذا البلد بإنسانيّته وكرامته وبحريته، ويكون الجميع على قدر من المساواة.

ونعود إلى فلسطين، لنذكّر مجدداً بمعاناة الشَّعب الفلسطيني، الَّذي نخشى أن يُنسى وسط كلّ ما يجري في المنطقة، حيث يستمرّ العدو بممارساته ومخطّطاته المتمثّلة في الاستيطان والقتل والاعتداءات على المساجد والكنائس، كما حصل أخيراً، والاستهداف المستمرّ للمسجد الأقصى من قِبَل المستوطنين، فيما يُشدّد الحصار المالي على السّلطة الفلسطينيّة، والّذي يهدّد لقمة عيش الشَّعب الفلسطينيّ، كما يهدد مؤسَّساته، إضافةً إلى الحصار الدائم لغزة.

إنَّ كلّ هذا الواقع بات يدعو إلى وحدة الموقف في الداخل، ووقفة للدّول والشّعوب العربيَّة والإسلاميّة مع هذا الشَّعب، حتى لا يستفرد العدوّ به، ولا تستمرّ معاناته، وحتى لا تسقط قضيّته التي ينبغي أن تبقى القضيّة الأساس في وجدان كلّ العرب والمسلمين، مهما تعقَّدت أزماتهم، وكثرت معاناتهم.

وأخيراً، تكثر في هذه الأيام المؤتمرات الَّتي تعقد في مواجهة الإرهاب، الَّذي بات يعبث بوحدة العالم العربيّ والإسلاميّ، ويهدّد مكوّنات هذا العالم من مسلمين ومسيحيين وأيزيديين، إضافةً إلى الآشوريين مؤخراً.. إننا في الوقت الَّذي نؤكّد أهميَّة هذه المؤتمرات، ولا سيّما عندما تنطلق من قيادات لها وزنها وحضورها في السّاحة الدّينيّة أو الثّقافيّة أو السّياسيّة، نعتبر أنَّ الأمر بات بحاجةٍ إلى أكثر من مؤتمرات، فثمَّة حاجة إلى النّزول إلى أرض الواقع، لمعالجة الأسباب الَّتي تدعو شباباً وفتيات إلى ترك أماكن استقرارهم، والانخراط في تلك المجموعات، وهو الأمر الَّذي يستدعي دراسة وافية وعميقة للدّوافع الَّتي تكمن وراء ما يقوم به هؤلاء.

ويبقى أن نسأل: هل هذه الدّوافع تتَّصل بشعور حادّ بالتّهميش الَّذي يتعرَّض له المسلمون في العالم، أو هي دوافع مذهبيَّة، وردّ على ظلم أو إجحاف يشعر به هذا المذهب أو ذاك؟ وهل هي رد فعل على ظلم موجود في هذه الدّولة أو تلك، أو تعبير عن احتجاجات كبيرة على عدم قدرة القيادات المدنيَّة والسّياسيَّة على تحقيق الطموحات، أو أنّ الأمر يتعلّق بفهم هشّ للإسلام أخذ يسود بفعل ضعف البنى الفكريّة والفقهيّة للعاملين في المؤسَّسات الدينيَّة؟

إنّ الأمر في يد أصحاب القرار الدّيني والسياسيّ، الَّذين ندعوهم إلى عدم إبقاء المواجهة في دائرة البيانات والإعلام والمؤتمرات، بل إلى معالجة جذريَّة لهذه الظّاهرة الخطيرة، الَّتي لن تستطيع الأساليب العسكريَّة أو الحصار الاقتصاديّ أن يلغيها، بل قد تزيدها هذه الإجراءات قوةً وامتداداً، إن لم نبادر إلى معالجتها معالجة جذريَّة وعميقة.

 

التعليقات