الحلقة الحادية عشر من "صوت العاصفة"..على دنيا الوطن: اغاني العاشقين، الحكاية كلها "أحمد دحبور"

الحلقة الحادية عشر من "صوت العاصفة"..على دنيا الوطن: اغاني العاشقين، الحكاية كلها "أحمد دحبور"
رام الله -خاص دنيا الوطن
خص وزير الإعلام الأسبق وعضو المجلس الإستشاري لحركة فتح د نبيل عمرو صحيفة "دنيا الوطن" بنشر كتابه الجديد الذي صدر مؤخرا في رام الله والتي حمل عنوان "صوت العاصفة" ليحكي تجربته النضالية في الاعلام الى جانب تجاربه النضالية الأخرى على كافة المحافل الثورية .

وينقسم كتابه الى جزئين : يحمل كل جزء منهم حقبة تاريخية من زمن الثورة الفلسطينية ويتطرق الكاتب في الجزئين الى دور إذاعة الثورة الفلسطينية التي أصبحت الآن اذاعة صوت فلسطين في وتجربته الرائدة فيها على مدار سنين الثورة.

دنيا الوطن بدورها قامت بتجزئة الكتاب لنشره عبر صفحاتها على حلقات ليتمكن القاريء من الإطلاع عليه كاملا ففي الحلقة الحادية عشر والاولى من الجزء الثاني حيث تحدث عن أغاني الثورة الفلسطينية وشاعر الثورة أحمد دحبور تحت عنوان " اغاني العاشقين، الحكاية كلها. "بقلم: احمد دحبور

بدأت الحكاية في ربيع العام 1977، عندما قررت دائرة الثقافة والاعلام – فهكذا كان اسمها – ان تنتج في اطار منظمة التحرير الفلسطينية، مسرحية للشاعر سميح القاسم بعنوان" المؤسسة الوطنية للجنون". كان مدير عام الدائرة آنذاك هو المرحوم عبد الله الحوراني- ابو منيف- وكان المكلف بإخراج المسرحية المخرج السوري الكبير الراحل فواز الساجر. ولقد لفت نظر فواز، ان المسرحية تشتمل على اغان مكتوبة بالعبرية أصلا، وهي لغة يجيدها سميح القاسم، وقد وضعها في تلك الصيغة لأنها تحاكي مأساة اليهود العراقيين الذين غُرر بهم وسيقوا الى اسرائيل بوصفها الجنة الوطنية  الموعودة، ومن هنا كانت مفارقة العنوان، فهذا المشروع الاستعماري ليس إلا " المؤسسة الوطنية للجنون" وكان طبيعيا ومنطقيا، ان يتجاوز المخرج العربي السوري لغة الاعداء التي لا يعرفها اصلا، فاستعان بي لايجاد كلمات عربية ذات ايقاع لتحل محل اللغة العبرية، وكان ما فعلته، هو ابتكار نصوص ذات حيثية محددة تتعلق بالتفاصيل الدرامية كما كتبها سميح، الا اغنية واحدة رأيت ان تكون مدخلا الى العمل، وهي ذات مناخ وطني عام، غير مقيد بتفاصيل المسرحية، تلك الاغنية كانت مأخوذة من ترديدة موقعة كانت امهاتنا في الجليل يرددنها على التوالي.

" والله لأزرعك بالدار       يا عود اللوز الاخضر"

وكان الايقاع – لمن يعرف الاصل- سريعا يكاد يحاكي الرقص، حتى اذا وضعت هذه المحاولة بين يدي حسين نازك، الموسيقي، الموسيقي الكبير المعروف، احدث تغييرا على الايقاع، فأبطأ به، ومنحه مسحة من الشجن، وحين تم عرض المسرحية علق لحن " اللوز الاخضر" في اذهان الجمهور كما وضعه حسين نازك حتى اصبح اغنية مستقلة.

لم اكن اتوقع ان يلاقي " اللوز الاخضر" ذلك الانتشار الشعبي الذي غلب على اسم المسرحية، ولا سيما ان الكلمات التي كتبتُها كانت مبنية على اساس اغنية متكاملة، هي هذه التي يعرفها جمهور فلسطيني وعربي على نطاق واسع، حتى ظهرت تساؤلات عما اذا كان ثمة مشروع غنائي وراء ذلك.

اذكر يومها ان المرحوم ابا منيف، قد استدعانا انا وحسين، وطلب منا ان نتوسع في مشروع فرقة موسيقية فلسطينية، آن لها ان توجد، فقد كانت هناك اغاني الثورة المعروفة، وهذه معظمها من كلمات الشاعرين الكبيرين الراحلين سعيد المزين وصلاح الدين الحسيني، واسمهما الشعبيان هما فتى الثورة ابو هشام وابو الصادق، اما الالحان فكانت في معظمها من وضع موسيقيين مصريين او فلسطينيين متأثرين بالثقافة الموسيقية المصرية، فلماذا لا نعمل على مشروع فلسطيني خالص؟

تحمس حسين نازك للفكرة وعلى الفور قال: نحن ننشد لفلسطين، كعشاق ذوي هوى، فهل نسمي ما ننتج " اغاني العاشقين"؟ واهتززنا طربا لفكرة حسين، ولم يلبث ابو علي ان أتبع فكرته بتطبقيات جمالية، عندما التقط بعض النصوص من شعراء الارض المحتلة، محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد، واختار منها ما شكل نواة البوم مضيفا اليه " اللوز الاخضر" وفي تلك الفترة كانت دائرة الثقافة والاعلام تنتج عملها التلفزيوني الاول الذي اخرجه فيصل الياسري بعنوان " بأم عيني " والعنوان من كتاب المحامية اليهودية الشيوعية "فليتسيا لانغر" التي ضمنته وقائع من دفوعاتها عن الفدائيبين الفلسطينيين المعتقلين، ولما تم تكليف حسين نازك بوضع موسيقى المسلسل، فانه اخذ تلك الاغاني التي اعدها في تلك التجربة واعطى الالبوم عنوان المسلسل : "بأم عيني".

كان نجاح شريط بام عيني مدويا في الاوساط الفلسطينية، فالكلمات المنتقاة ذات شعبية والحان ابي علي وصلت الى وجدان الجمهور، حتى جاء يوم خاطبه فيه ابو منيف قائلاً: "اللي طلع الجمل على السطح لازم يتابع اموره، بدأت فأَكمل"، اذ لا يجوز ان يكون شريط " بأم عيني" بيضة ديك .. وهكذا اصبحت اغاني العاشقين حقيقة قائمة.

-2-

اخذ ابو علي حسين يختار بين تلامذته ومعجبيه من سيشكل نواة الفرقة، فتخفف اولا من كلمة " اغاني" مكتفيا بالعاشقين، لسبب محدد هو انه قرر اضافة مجموعة، تقدم الرقص الشعبي في مواكبة مجموعة الغناء، واهتدى الى المصمم الراقص البديع ميرز مارديني فكلفه بهذه المهمة، وميرز فنان سوري كردي، متدرب في المسرح العسكري السوري ذي السمعة الطيبة في مجال الرقص التعبيري، وقد نجح في تجميع راقصين مبدعين، وكانت بثينة منصور هي الاهم في هذه التشكيلة، اما على مستوى الغناء فكان ابو علي يختار من يضمه الى مشروعه هذا بدقة ومقاييس صعبة، حتى ان لم يكن في تلك المجموعة من لا يعزف على الة شرقية في اقل تقدير، العود والايقاع والقانون، مع منتخب يجيد العزف على الكمان.

واشهد لهذا الفريق الشاب، بالاذن الموسيقية التي كانت تناقش ابا علي في هذا المذهب الموسيقي او ذاك، لكنهم عند التنفيذ يكونوا اشبه بالجيش المنظم من حيث الانضباط والالتزام، وقد برز في طليعة هؤلاء من اطلقنا عليهم تحببا تعبير " الهبابشة" ذلك انهم ثلاثة اخوة وشقيقاتهم من اسرة هباش " خليل ،خالد، محمد، آمنة، وفاطمة. واذا كانت الشقيقتان ركيزتين في القسم "الكورالي"، فقد كان خليل عازف ايقاع، وخالد عازف قانون ومجوز، ومحمد الطفل المعجزة آنذاك يعزف على العود ويغني، ولديه قدرة ملحوظة على تقديم البرامج، ولم تلبث دائرة الثقافة ان أنتجت مسلسلها التلفزيوني الثاني، "عز الدين القسام"، وقد كتبت قصة العمل ومعظم السيناريو، ثم سافرت الى اليمن حيث اراد هيثم حقي مخرج العمل مزيدا من الاغاني للمسلسل، لاني ركزت في القصة على شخصية الشاعر نوح ابراهيم، رفيق درب القسام وقد استشهد بعد القسام بفترة. وقد تولى الشاعر المرحوم ابو الصادق، مهمة استكمال ما بدأته من اناشيد المسلسل على لسان نوح ابراهيم، ومن الطريف ان تداخل ما كتبناه انا وابو الصادق، بحيث لم نعد نفرق من صاحب هذه الكلمات من ذاك، حتى ان المرحوم احمد الجمل – وكان مدير عام الدائرة- قال ذات يوم: إن هذه الاغنية  من كلمات احمد دحبور، فلما سألناه عن سر هذا الاستنتاج، قال: ان في الاغنية قولا: ما عاد فينا نستنى، وهذا التعبير ماعاد فينا بتأثير اللهجة السورية وانت يا احمد كنت في سورية دائما فلا يقولها ابو الصادق ابن غزة!!

ان هذه المحادثة الطريفة تشير الى مدى الانصهار في جهد القائمين على العمل، ولكن المهم في الامر ان اغاني مسلسل القسام كما كانت اغاني مسلسل " بام عيني " هي من اداء العاشقين، ونتيجة للنجاح الكبير الذي حققته اغاني القسام، فقد افرد لها المرحوم ابو منيف البوما صوتيا خاصا، لا يزال الجمهور يتداوله حتى اليوم مع انه مكتوب في العام 1981،

وراحت الفرقة تزداد وتتكامل بكل من عناصر الغناء والرقص التعبيري الشعبي، اضيف الى هؤلاء احمد الناجي عازف العود البارع، وكذلك يعرب البرغوثي، وذات الصوت القوي المتميز بمساحاته المتعددة سهام دغمان. ولكن لا يجوز اغفال ان قائد هذه الكوكبة الغنائية هو " الجبل الذي يغني" حسين منذر وقد اطلقت عليه هذه الصفة في اول ما كتبت حول ميلاد فرقة العاشقين.

وبطبيعة الحال نجح حسين نازك، باضافة عناصر جديدة باستمرار، وان كان يعول كثيرا على ميرز مارديني، في اختيار عناصر الرقص التعبيري، حتى اتى ذات يوم شهد فيه مسرح عدن خمسة وعشرين فنانا  بين عازف ومغن وراقص يصعدون المسرح مرة واحدة، ولا يمكن المرور على تلك التجربة دون توقف عند الجندي المجهول الذي كان يدير هذه المجموعة باقتدار وخبرة، فضلا عن عزفه على الفلوت، ذلك هو محمد سعد ذياب ابو ايمن.

-3-

كان البوم العاشقين الاول، هو كما سبقت الاشارة اغاني مسلسل بام عيني، وظل نظام هذه الاغاني يقود التجربة باستمرار، فالاغاني التي كتب نصوصها الشاعر ابو الصادق صلاح الدين الحسيني ولحنها الموسيقي المقدسي حسين نازك، ظلت تعتمد على الاداء الجماعي اساسا، الا حين كانت الحاجة الفنية تقتضي ظهور "الصولو"، فكان حسين المنذر وهو ابو علي ايضا، بصوته الجبلي الجهير يصدح فيها ويعلو.

اما الالبوم الثاني، وقد وضع كلماته ايضا شاعرنا الكبير ابو الصادق، فهو ذو بناء درامي متميز، حيث اشتق ابو الصادق من فلكلورنا الشعبي شخصية " ظريف الطول" رامزا به الفلسطيني المجرب المناضل، الساعي الى حبيبته " دلعونا" وهي رمز في هذا العمل للقضية الفلسطينية، وقد احتاج في هذا البناء الدرامي الى استخدام الاغاني الشعبية المعروفة مثل دلعونا، وعلى ما قال المغنى والحوار بين الحادي والمستمع. وهو ما التقطه ابو علي حسين نازك بحذق ودراية من حيث الابتكار الموسيقي، وتضمين الجملة الغنائية المتوارثة، ولأن العمل ذو طبيعة درامية فقد اقتضى اضافة شخصية جديدة هي الفتى المنشد الذي ادى دوره باقتدار فاتن، محمد هباش، الذي كان لايزال في مقتبل العمر، اضافة الى سهى التي شكلت اضافية ندية الى العمل، واتسع دور الرقص التعبيري فابتكر ميرز مارديني رقصات مثيرة تستوحي الدبكة الفلسطينية، وتضيف اليها وقد تألقت بثينة منصور في هذا الرقص الذي كان يقتضي في الاحوال العادية قامة طويلة لكنها وان لم تكن لها تلك القامة نجحت في الاقناع واشعال حمية الجمهور.

ومن ينسى صيف 1982، يومها شن العدو الصهيوني هجومه الشهير على الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية في لبنان، وكنت آنذاك في دمشق، اتابع الاخبار كأي عربي، مشدودا الى التفاصيل والوقائع التي كانت تصل الينا بوسائل مختلفة، وحينذاك بدأت اكتب الاغاني المواكبة للوقائع او بالاحرى وجدت نفسي اقوم بتأريخ العدوان غناءً، حتى ان اغنية " اشهد يا عالم علينا وع بيروت" كانت بمثابة تدوين لانتقال المعارك من الجنوب الى بيروت وصولا الى الذروة الدرامية الخاصة بخروج الفلسطينيين من لبنان، فوقوع مجزرة صبرا وشاتيلا ثم بروز المقاومة الفلسطينية اللبنانية في لبنان، وقد بلغت ذروتها في عملية مشهودة وقعت في صور وتحولت مجموعة النصوص التي أرّخت بها تلك المقاومة والصمود، الى البوم بعنوان " الكلام المباح" والطريف ان ورشة عفوية قد تشكلت في حينها فانا اكتب وابو علي نازك يلحن، وابو علي المنذر ومعه جملة العاشقين يغنون، وحين دعينا الى عدن في العام 1983، لنحتفل بذكرى الانطلاقة ظهرت على الملأ فرقة العاشقين لتردد بعدها الجماهير اغاني الكلام المباح، حتى ليمكن القول ان حفلة عدن – كما صرنا نسميها – كانت هي الانطلاقة لتوظيف الاصوات الفردية الى جانب الصوت الجمعي، وظهر الى جانب صوت ابو علي المنذر، صوتان فرديان هامان هما محمد هباش وسهى دغمان، واصبحت الفرقة في وضع حساس، فهي في مستوى لا يجوز التراجع عنه او البقاء عليه، واصبحت تتلقى الكثير من الدعوات في الوطن العربي ودول المعسكر الاشتراكي، بل امكن احياء حفلات في لندن وباريس، والى ذلك اصبح للفرقة رصيد من الاغاني بما يحيي عددا من الحفلات.

وكان ابو ايمن، محمد سعد ذياب، يغذيني بجمل موسيقية محفوظة من فلكلورنا الشعبي التي تضافرت مع الحان ابي علي نازك لتجعل من العاشقين ظاهرة تستحق الاهتمام الكبير، اذ لم نتوقف عند البوم "الكلام المباح" فقد كتبت نصوصا جديدة، اطلقنا على بعضها اسم مغناة عتابا، تيمنا بنص كتبته لتأريخ ظاهرة العتابا في الفلكلور، بالترابط مع الحدث الفلسطيني، وجمع ابو ايمن هذه الاغاني التي انجزناها متفرقة فاعطاها اسما خاصا " لو حتال" وكان يقصد مشهد الصمود الفلسطيني في الداخل، ووقائع تشكل الثورة الفلسطينية وتأثيرها في الوجدان العام.

ذلكم بعض ما تحفظه الذاكرة عن هذه الظاهرة التي ظلت مفتوحة باستمرارا على الاحداث والتجارب الفنية الجديدة ولا يزال الحبل على الجرار.

التعليقات