خطبة الجمعة للعلامة السيد علي فضل الله

رام الله - دنيا الوطن
ألقى سماحة العلامة السيد علي فضل الله ، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:

 عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله. ولبلوغ التّقوى، علينا أن نستهدي بآيات الله: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}، وأن نتاجر مع الله، فالتَّجارة معه مربحة دائماً، ويرى المجاهدون نتائجها عند الله غفراناً وجنةً، ونراها نصراً وعزةً، وهذا ما شهدناه في أكثر من موقع.

والبداية من لبنان، الَّذي استطاعت فيه المقاومة الإسلاميّة أن تجيب عن السّؤال الّذي حيّر العدوّ والصَّديق: هل ستردّ على ما حصل في القنيطرة؟ فقد جاء جواب المقاومة سريعاً، بعمليّة نوعيّة جريئة، بعثت من خلالها رسالة إلى العدوّ الصّهيونيّ بأنّ أيّ اعتداء يقوم به، لن يكون سهلاً، وأنَّه قد يرسم شيئاً، ويخطّط له، وقد يُقدم على مغامرات، ولكنَّ النّتائج ستكون لحساب المقاومة، وأنَّ انشغالها بمواقع أخرى، كما كان يراهن العدوّ، لا يعني غفلتها عنه، وجهوزيّتها التامّة في مواجهته.

لقد أعادت المقاومة في عمليّة مزارع شبعا التّوازن إلى ساحة المواجهة مع العدو، وأجهضت محاولته كسر هذا التوازن، وتعديل قواعد الاشتباك، وثبّتت المعادلة الَّتي تؤكّد أنّ أيّ اعتداء تتعرَّض له، سيلاقي الردّ.. ولعلَّ أهميّة هذه العمليّة أنها حصلت في الموقع الّذي أرادته المقاومة، وليس في الموقع الذي كان يريده العدوّ أو يحتسبه، وأنّها استطاعت النّيل منه خلال جهوزيّته لا خلال استرخائه، ما أكّد الشّجاعة الاستثنائية لأبطال المقاومة. كما أنّها لم تتمّ بعفويّة، أو عشوائيّة، أو بتسرّع اقتضته الحاجة إلى ردٍّ لإعادة الاعتبار، بل أتت بناءً على تخطيط دقيق متقن ومدروس، حمل أعلى درجات الحكمة، وراعت فيه مصالح شعبها، عندما اختارت الزّمان والمكان المناسبين، اللّذين يكبّلان العدوّ، ويمنعانه من امتلاك حريّة الحركة في الردّ.

ومن غير الإنصاف أن تنطلق أصوات تتحدّث عن أنَّ ما تقوم به المقاومة يورّط لبنان مجدّداً في حرب غير متكافئة، كما تقول، وأن تعيد هذه الأصوات التّذكير بما جرى العام 2006، حين لحق الدّمار بلبنان واللبنانيين.

وكأنَّ المقاومة هي الَّتي اعتدت، وهي الّتي تحتلّ الأرض، وهي الَّتي تقاتل وتقتل خارج ساحة المعركة! وكأنَّ المطلوب منها أن تبقى مكتوفة اليدين أمام ما تتعرَّض له! لقد نسي هؤلاء أنَّ إسرائيل هي الَّتي بدأت هذا العدوان، عندما أقدمت على اغتيال ثلّة من المجاهدين، ولم تكن هذه العمليّة إلا رداً طبيعياً على ما قام به هذا العدوّ، الّذي لم تتوقّف طائراته عن اختراق سيادة لبنان، فضلاً عن مجازره في الماضي القريب والبعيد، واللائحة تطول وتطول.

لقد كنّا نأمل من كلّ هذه الأصوات، أن تشعر باعتزاز بوجود شباب لبنانيّ يعترف العدوّ بقدرته، ويقدّم التّضحيات من أجل وطنه وأمته، وهو على استعداد للمواجهة إلى النّهاية بقدرة وحكمة، حتى لا يُستباح هذا الوطن أمام العدو الّذي لا يبالي بأعراف ولا بمواثيق دوليّة.

إننا أمام كلّ ما جرى، نحيي أبطال المقاومة الإسلاميّة على هذا الإنجاز البطوليّ، الّذي ساهم في تعزيز روح العزة والكرامة في قلوب اللبنانيين، ورسّخ حقيقة أنَّ قوّة لبنان في قوّته، لا في ضعفه.

إنَّ على جميع اللبنانيين في هذا البلد، أن يعوا حقيقة هذا العدو الّذي لا يفهم إلا لغة القوّة، ولن يرتدع عن عدوانه. ولن يعيد الأرض المحتلّة لنا، إلا التلاحم بين سواعد الجيش اللبنانيّ والمقاومة، وصبر الشّعب وصموده..

وفي المقلب الآخر، وعلى الحدود الشّرقيّة، تُستكمَل صورة العدوان على هذا البلد واستقراره، من خلال الاستهداف الَّذي يتعرَّض له الجيش اللبناني، لكونه سياج هذا الوطن، ممّن يتهددونه، ومن العابثين بسلمه الأهلي وأمنه.

ويوماً بعد يوم، يؤكّد الجيش اللبناني قدرته وجهوزيّته واستعداده لبذل أغلى التضحيات من ضباطه وجنوده، رغم عدم توفّر الإمكانات الّتي يحتاجها. ونحن إذ نبارك للجيش وقفته وتضحياته، نضمّ صوتنا إلى كلّ الداعين لتأمين متطلّبات الدّفاع والمواجهة له، واستعجال تقديم الهبات التي وُعد بها، فلا يُعقل أن يقف الجيش في خطّ المواجهة، ويتصدّى للإرهاب بإمكانات متواضعة، لا تلبّي احتياجات المعركة.

إنَّ الجيش اللبناني لا تعوزه الإرادة والصَّلابة والاستعداد للتّضحية، بل تنقصه الإمكانات والأسلحة الحديثة، ولا بدَّ لنا أمام كلّ هذه التحديات، من العمل لتثبيت الأرض في الدّاخل، والإسراع في معالجة كلّ الملفّات العالقة السياسيّة والأمنيّة والاقتصاديّة والمعيشيّة، وأزمة الفساد المستشري داخل أجهزة الدولة وخارجها، وبثّ الحرارة في الحوار الجاري، أو الّذي ينبغي أن يجري، فلا يمكن مواجهة التحدّيات بالانقسام الداخليّ والضعف.

ونحن نرى أنّه لا بدَّ لنا وسط كلّ هذا الجو الإيجابي الّذي تجلّى خلال فترة العزاء بالملك عبدالله بن عبد العزيز، من العمل لتعزيز فرص التلاقي بين كلّ الدّول العربيّة والإسلاميّة الفاعلة، ولا سيما بين المملكة العربيّة السّعوديّة والجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة، كي لا تبقى هذه العلاقة في إطار المجاملات الاجتماعية، والخروج بحلول للأزمات الّتي تعانيها دول المنطقة، سواء سوريا أو العراق أو اليمن أو البحرين أو مصر، ومواجهة تحدّي الكيان الصّهيونيّ الّذي يستبيح الأرض والمقدّسات، ومعالجة حالة الاستنزاف التي يعانيها هذا العالم، والّتي وصلت إلى حد إفقار عدد من الدّول الغنيّة، فكيف بالدّول الفقيرة؟! فلا حلول إلا بالتّلاقي والتّعاون والحوار الجادّ والموضوعيّ والهادف، وإلا سيبقى هذا العالم أسيراً للاعبين بمصيره، والعابثين بأمنه واستقراره، ويبقى كيان العدو، رغم وهنه وضعفه، هو الأقوى في المنطقة.

فلنجدّد واقعنا، ولنعمل بقوله تعالى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}.
 

التعليقات