دنيا الوطن تنشر حصريا كتاب "صوت العاصفة" للكاتب نبيل عمرو ..الحلقة الثامنة: "بيروت"

دنيا الوطن تنشر حصريا كتاب "صوت العاصفة" للكاتب نبيل عمرو ..الحلقة الثامنة: "بيروت"
رام الله -خاص دنيا الوطن

خص وزير الإعلام الأسبق وعضو المجلس الإستشاري لحركة فتح د نبيل عمرو صحيفة "دنيا الوطن" بنشر كتابه الجديد الذي صدر مؤخرا في رام الله والتي حمل عنوان "صوت العاصفة" ليحكي تجربته النضالية في الاعلام الى جانب تجاربه النضالية الأخرى على كافة المحافل الثورية .

وينقسم كتابه الى جزئين : يحمل كل جزء منهم حقبة تاريخية من زمن الثورة الفلسطينية ويتطرق الكاتب في الجزئين الى دور إذاعة الثورة الفلسطينية التي أصبحت الآن اذاعة صوت فلسطين في وتجربته الرائدة فيها على مدار سنين الثورة.

دنيا الوطن بدورها قامت بتجزئة الكتاب لنشره عبر صفحاتها على حلقات ليتمكن القاريء من الإطلاع عليه كاملا ففي الحلقة الثامنة ننشر تجربة عمرو بعنوان "بيروت".

"بيروت"

حين صدر قرار اغلاق الاذاعة في القاهرة، كرد على اتفاقية سيناء .. قررت القيادة الفلسطينية تأسيس اذاعة ميدانية في بيروت، وقد كلف رجل فلسطيني بتجميع اذاعة.. نظرا لصعوبة الحصول على اذاعة متكاملة وشحنها وتركيبها واطلاق بثها من بيروت، الرجل كان ذكيا وطموحا ودؤوبا اسمه ابو خالد حمام، كان يعمل ضمن جهاز الشهيد ابو جهاد، ويقوم بتركيب اجهزة اتصال وامور اخرى لا نعرفها.

كان الطيب عبد الرحيم الذي هو المسؤول الاول عن الاذاعة التي اغلقت والاذاعة التي يجري تجميعها، قد غادر الى بيروت لمتابعة العمل هناك، اما انا وكنت نائبه فقد استقر الرأي على ان ابقى في القاهرة، لتزويد بيروت بما يلزم من الكوادر والمواد الاذاعية .

بدأت الاذاعة في بيروت بالعمل، لم تكن قدرتها الفنية كافية لتغطية ما نطمح، كانت تغطي بعض اجزاء من لبنان وبعض اجزاء من شمال فلسطين ونادرا ما تلتقط في سوريا، الا انها كانت اذاعة على اي حال، تضمن ايصال صوت الثورة الى قطاع محدود من البشر وكنا بحاجة ماسة حتى الى هذا، غادرت وجميع من كان قد تبقى من زملائي القاهرة  الى دمشق ثم الى بيروت وبدأنا العمل، بعد فترة تم تعيين طيب عبد الرحيم سفيرا في الصين، وتم تعييني مسؤولا عن الاذاعات الفلسطينية جميعا، وكانت انذاك تنتشر من اقصى الوطن العربي الى اقصاه من الجزائر غربا حيث تحمل اذاعتنا على جميع الموجات العاملة  في الاذاعة الجزائرية، وتغطي الى جانب المغرب العربي معظم أنحاء اوروبا وكثيراً من مناطق العالم الاخرى وقد وفرت لنا هذه الاذاعة ومدتها ساعة كاملة يوميا اتصالا منتظما مع الفلسطينيين وانصار الثورة من العرب اينما وجدوا. وفي القاهرة حيث البث يصل الى ساعتين ونصف يوميا ومن ضمنها ساعة على أقوى الموجات المصرية العاملة، وكانت تغطي بوضوح شديد منطقة الشرق الاوسط بكاملها ثم اذاعتنا في بغداد واذاعتان في صنعاء وعدن ذلك الى جانب اذاعات محلية في امريكا اللاتينية كانت تطلب دعما ببعض البرامج والاناشيد وكنا نلبي احتياجاتها، ما وضعنا على الاثير في جميع انحاء المعمورة .

كانت صورة بيروت قبل الحضور اليها مرعبة ومنفرة فهذه المدينة الجميلة التي كانت بمثابة الفترينة الحضارية الاولى للعالم العربي تنهشها النار، ويشوه وجهها الدمار ويوقف نموها الذي كان فلكيا ذلك الاقتتال الشرس الذي لم ينج منه احد او طائفة او فريق سياسي، كانت بيروت مكانا يتقاتل فيه وعليه الجميع مع الجميع فيما يشبه انتفاضة غرائز مكبوتة لعقود في نفوس الناس الذين يشكلون خليطا كثير التنوع في عناصره ومكوناته، لا دين ولا مذهب ولا عقيدة ولا استخبارات ولا ولا ولا، الا وكان له في بيروت ميليشيا قادرة على تهشيم الواجهة الزجاجية التي هي الاستقرار والحداثة وقادرة ايضا الى الحاق المدينة الجميلة والانيقة والمتحررة الى ذيل قوائم القرى او الخرب التي تعج بالتخلف وتسكن فيه ذلك هو السر الذي يفسر لماذا لم ينج احد من الاقتتال في بيروت ثم في لبنان كله، ثم لماذا لم يتوصل احد بعد الى الاجابة عن سؤال لماذا؟ كان الفرقاء جميعا يقتتلون بحماس وشراسة وهم جميعا يعلمون ان لا امل لهم في كسب الحرب وانهم في وقت ما سيجلسون إلى مائدة اقتسام العيش على بقايا الوطن، تلك البقايا التي نجت من السنة النار .

كان الوافدون الى بيروت يحملون معهم اجنداتهم المتعارضة، التي هربوا بها من قسوة الانظمة شديدة الشراسة تجاه من يخالفها كانت بيروت بمثابة المنطقة الحرة الجاهزة لاستقبال كل البضائع السياسية والعقائدية الممنوعة في البلدان الاخرى، والجاهزة كذلك للاتجار بها، لقاء ما يسمى بالكوميشن، غير ان هذا الكوميشن كان يغلف بشعارات مجيدة وبرامج توحي بان معلنيها هم من العقائديين الذين لا مانع لديهم من الموت دفاعا عن هذه البرامج. وكانوا احيانا يموتون رغم كل محاولات النأي بالنفس وتجنب الخطر المباشر

اما الفلسطينيون الذين كان الجميع يتسابق على جر رجلهم الى الحرب الاهلية التي نشبت اساسا بفعل وجودهم المسلح، وبفعل شعور من طائفة معينة، بان الفلسطينيين سوف يحسمون الامور بانضمامهم بكل قوتهم البشرية والتسليحية وحتى السياسية والاقتصادية الى جانب طائفة اخرى، وما يخل بالتوازن المختل اصلا بين مكونات الدولة والمجتمع. الفلسطينيون هؤلاء يتمترسون في لبنان بعد ان طردوا من فردوس الجغرافيا السورية والاردنية وصاروا تحت السيطرة الفعلية لاجهزة هاتين الدولتين، تلك الاجهزة  التي هي بكل المقاييس اقوى مما لدى الدولة اللبنانية الف مرة.

الفلسطينيون هؤلاء أخيراً راحوا يستكملون وبلا تردد او وجل المقومات الفعلية لدولة داخل الدولة. فها هي اتفاقية القاهرة التي رعاها جمال عبد الناصر وفرضها بقوة سحره ونفوذه توفر لهم وجودا حرا وبصورة مطلقة في جنوب لبنان وفي منطقة سميت رسميا " فتح لاند" وحين تتكرس دولة عسكرية صغيرة في الجنوب، فلن يكون امامها اي حاجز جدي كي لا تتصل بكل التجمعات الفلسطينية والحليفة في باقي لبنان وعلى وجه الخصوص في المفتاح السحري الذي اسمه بيروت.

كان فريق هام من اللبنانيين يرفض بالمطلق هذا الشكل المسلح من اشكال الوجود الفلسطيني الغريب وحين انطلق صوت فلسطين صوت الثورة الفلسطينية من قلب العاصمة بيروت تعمقت المخاوف واضيف دليل حاسم على ان استيلاء الفلسطينيين مباشرة عبر حلفائهم على الوطن اللبناني دخل طور الاكتمال.



التعليقات