خطبة الجمعة للعلامة السيد علي فضل الله

رام الله - دنيا الوطن
 ألقى سماحة العلامة السيد علي فضل الله ، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:

   عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله، ولزوم أمره، وعمارة قلوبنا بذكره. ومن التّقوى، الاهتداء بهدي رسول الله(ص)، في كيفيّة استقباله سنة جديدة؛ فقد كان يقف في بدايتها بين يدي الله للصَّلاة ركعتين، ثم يتوجَّه إليه بالدّعاء: "اللهم وهذه سنةٌ جديدةٌ، فأسألك فيها العصمة من الشَّيطان، والقوَّة على هذه النّفس الأمّارة بالسّوء، والاشتغال بما يقرّبني إليك يا كريم".

بهذه الصّورة، يريدنا رسول الله(ص) أن نبدأ سنة جديدة، وليس كما اعتاد الكثيرون، الَّذين يبدأونها بالاستغراق في أجواء اللهو والعبث، وبكلّ هذا الضّجيج والصّخب، الَّذي يصل إلى حدّ إطلاق الرّصاص في الهواء.. وهنا أتساءل: ماذا يعني إطلاق الرصاص؟ هل هو اعتراض على قدوم سنة جديدة، من خلال إطلاق الرصاص عليها؟ أو أصبح الابتهاج متخلّفاً إلى هذا الحد؟ هذا لا يعني أننا ضدّ الفرح، ولكنَّنا مع الفرح المسؤول، الَّذي لا يكون على حساب مسؤوليّاتنا وأهداف وجودنا في هذه الحياة، وما تعنيه مناسبة بداية سنة جديدة.

أيّها الأحبّة، عندما نبدأ سنتنا كما كان يبدأها رسول الله(ص)، نجعلها سنة خير، فالخير لن يأتي إلا بطاعة الله ورضوانه، وتحمّل مسؤولية الزمن الَّذي منحنا إياه، وبذلك، نصبح أكثر قدرةً على مواجهة التّحديات، حيث لا تزال تعصف بواقعنا رياح هوجاء عاتية، تعبث بأمنه واستقراره ووحدته ومقدّراته، وفتن تأكل أخضره ويابسه، فيما لا حلول واقعيَّة تلوح في الأفق. وإذا كان من حلول، فهي نوع من المسكّنات والمهدّئات الَّتي لا تسمن ولا تغني من جوع.

وهذا ما نشهده في لبنان، الَّذي تستمر معاناة أبنائه لسنة جديدة في العديد من الملفات، والملف الأبرز هو ملفّ الفراغ في سدّة رئاسة الجمهوريَّة، وعدم دوران عجلة المؤسَّسات الأساسيَّة في الدّولة، ما بات ينعكس على الكثير من القضايا الاجتماعيّة والاقتصاديّة والمعيشيّة، وعلى موضوع النفط.

أما الملفّ الثاني، فهو ملف مخطوفي الجيش اللبناني، الَّذي لا يزال يخضع للتّجاذب الداخليّ، في ظلّ عدم وجود آليّة واضحة للتعامل معه، ومطالب الخاطفين غير الواقعيّة والتعجيزيّة، ما يبقي الأهالي في حالة خوف، وحتى رعب، على مصير أولادهم، ويجعل الوطن في حالة استنزاف دائم، الأمر الَّذي يستدعي من الحكومة أن تكون أكثر جدّيّة في التعامل مع هذه القضيّة الحسّاسة، وأن تضعها في يد واحدة، تحسن التعامل معها، وتتابعها بسرية وكفاءة عالية، بما يشعر الأهالي بالاطمئنان، ولا يبقيهم رهينة الوعود والتمنيات، ويمنح الوطن الاستقرار.

والملف الثالث، هو ملف الفساد، الَّذي يبقى أسير مبادرات مشكورة، يقوم بها هذا الوزير أو ذاك، وقد تنتهي بغيابه عن مسرح الوزارة. إننا نريد السير في هذا الملفّ وفق خطَّة شاملة، هدفها اجتثاث مواقع الفساد الحاليّة، واتخاذ كلّ الإجراءات التي تمنع تجدّدها، من خلال تعزيز الإدارة والرقابة والمحاسبة.. والعلاج الأفضل، هو القيام بورشة أخلاقيّة على مستوى الإنسان، لأنَّ الأساس والأهمّ من كلّ شيء، هو اقتلاع الفساد من النفوس، فإنَّ الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم، فالإصلاح الواقعيّ يبدأ بإصلاح الإنسان أوّلاً.

ويبقى لنا الحوار الَّذي نستعجله ويستعجله كلّ اللبنانيين، في ظلّ ما يتهدّد الوطن من ازدياد منسوب التوتر الطائفيّ والمذهبيّ الداخليّ، على وقع الصّراعات الإقليميّة الدّائرة في الخارج، والتَّهديدات القائمة على حدودنا الشرقية، آملين أن يكون هذا الحوار مدخلاً لإيجاد الحلول الحقيقية، لا لتبريد الأجواء فحسب، وإن كان ذلك ضرورياً في هذه المرحلة، وأن يكون المتحاورون على قدر عالٍ من المسؤوليّة.

ونصل إلى فلسطين، الَّتي وقع فيها ما كان منتظراً من عدم حصول الشّعب الفلسطينيّ على ما اعتبرناه الحد الأدنى من حقوقه، وذلك بعدما رفض مجلس الأمن، وبضغوط أميركيّة وإسرائيلية، هذا القرار الداعي إلى انسحاب الكيان الصّهيوني من الأرض المحتلة العام 67، قبل نهاية العام 2017، وتحت حجج واهية، تسمح للعدو الصّهيوني بالاستمرار في مخططه التهويدي، وحصاره لغزة.

إنَّنا أمام هذا الواقع، ورغم أهميّة تحرّك السّلطة الفلسطينية لنقل القضيّة إلى محكمة الجنايات الدولية وغيرها، لمقاضاة إسرائيل على جرائمها، نعيد التذكير بما أكَّدناه سابقاً، وأعدناه مراراً، بأنّ الرهان على مجلس الأمن وعلى المفاوضات غير مجدٍ، فالرهان الحقيقي لاسترداد الحقوق، يكون بالاعتماد على سواعد الشّعب الفلسطينيّ؛ وبانتفاضته ومقاومته ووحدته.

وهنا، نعيد الدَّعوة إلى العمل لتوحيد جهود السّلطة الفلسطينيّة في غزة والضفة الغربيّة، ومعها كلّ الفصائل الفاعلة، لمواجهة هذا الاستحقاق، والعمل لتحقيق كلّ المطالب الملحّة، ولا سيّما إعمار غزة، في الوقت الذي نعيد دعوة الدّول والشّعوب العربيّة والإسلاميّة، وكلّ دعاة حقوق الإنسان، إلى الوقوف مع الشّعب الفلسطيني.

وهنا نسأل: ما هو الموقف الَّذي يجب أن تأخذه الدول العربيّة تجاه الَّذين رفضوا قرارها، وهدَّدوا باستخدام الفيتو؟ ألم يحن الوقت لقرار عربيّ بمستوى التحدي؟ وإلى متى الانتظار؟

وإلى البحرين، الَّذي كنا نأمل من السّلطات فيه، أن تبادر إلى تعزيز لغة الحوار بينها وبين المعارضة، الَّتي تطالب بحقوق مشروعة، وأن تعتمد على الأساليب السّلميّة، بدلاً من عمليّات الاعتقال والترهيب، الَّتي كان آخرها اعتقال أمين عام جمعية الوفاق، سماحة الشَّيخ علي سلمان، الَّذي يمثّل عنواناً من عناوين الانفتاح والحرص على استقرار البحرين. إنَّنا نرى في هذا الاعتقال ما يزيد الأمور تعقيداً وتفاقماً، ويسمح للمصطادين بالماء العكر والعابثين بأمن هذا البلد، بأن يدخلوا على الخطّ.

وانطلاقاً من حرصنا على البحرين، ندعو السّلطات فيه إلى الإسراع في إطلاق سراح سماحة الشَّيخ علي سلمان، والعودة مجدّداً إلى خطّ الحوار الَّذي لا غنى عنه، ليستعيد البحرين موقعه وقوّته، فهو لن يستعيدهما إلا حين يحصل الشّعب على المساواة في حقوقه وفي المواطنة والعيش الكريم.

أما العراق، ففي الوقت الّذي نحيّي إنجازات الشَّعب العراقيّ وتضحياته وصبره في مواجهة الإرهاب الَّذي لا يزال يحتلّ أجزاء واسعة من هذا البلد، ندعو في هذه الظّروف الحسّاسة، إلى توخّي الوقوع في فخّ الانقسام المذهبيّ والطائفيّ، وندين أيّ عمليات تهجير أو تنكيل طائفيّ وعرقيّ تجري هنا وهناك، ولا سيما في المناطق التي تحرّرت من قبضة الإرهابيين، ونشدّد على عودة كلّ المهجرين إلى مناطقهم، ونطالب كلّ الحريصين على وأد الفتنة والتقسيم، بالعمل على إجهاض المحاولات الرامية إلى أن يكون لكلّ مكوّن عراقي جيشه، فيكون للسنّة جيشهم، وللشيعة جيشهم، وللأكراد جيشهم، وذلك على حساب بناء الجيش العراقيّ الوطنيّ، الذي يعدّ وحده ضمانة لبقاء العراق موحّداً، ويحفظ وجود كلّ مكوّناته وحقوقهم.. وإذا كان هناك من أحاديث عن أقاليم، فلا بدّ من أن يكون بُعدها إدارياً، لتكون مشاريع وحدة، لا أن يكون بُعدها طائفياً، أو مذهبياً، أو عرقياً، وتصبح مشاريع حرب.

وأخيراً، ومع انطلاقة أسبوع الوحدة الإسلاميّة، الَّذي أعلنه الإمام الخميني(رض)، بين الثاني عشر من ربيع الأول والسّابع عشر منه، وفي أجواء مولد نبي الرحمة والسّلام(ص)، نعيد دعوة المسلمين إلى أن يستفيدوا من هذه المناسبة، لتعزيز أواصر الوحدة بينهم، بالتركيز على القواسم المشتركة الكثيرة التي تجمعهم، وخصوصاً أنَّ ما يجمعهم أكثر بكثير مما يفرّقهم، وتفهّم بعضهم البعض في مواقع الاختلاف، تمهيداً لحوار علميّ وموضوعيّ، والنظر بكلّ جدية إلى قوله الله تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}.

   

التعليقات