خطبة الجمعة للعلامة السيد علي فضل الله

رام الله - دنيا الوطن
 ألقى سماحة العلامة السيد علي فضل الله ، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:

   عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله. ولبلوغ التقوى، علينا أن نستهدي بوصيَّة السيد المسيح(ع) لأتباعه، عندما قال لهم: "صِلوا من قطعكم، وأعطوا من منعكم، وأحسنوا إلى من أساء إليكم، وسلّموا على من سبّكم، وأنصفوا من خاصمكم، واعفوا عمن ظلمكم، كما أنَّكم تحبّون أن يعفى عن إساءاتكم، فاعتبروا بعفو الله عنكم، ألا ترون أنَّ شمسه أشرقت على الأبرار والفجار منكم، وأنَّ مطره ينزل على الصّالحين والخاطئين منكم؟ فإن كنتم لا تحبّون إلا من أحبَّكم، ولا تحسنون إلا إلى من أحسن إليكم، ولا تكافئون إلا من أعطاكم، فما فضلكم إذاً على غيركم؟ قد يصنع هذا السّفهاء الَّذين ليست عندهم فضول ولا لهم أحلام، ولكن إن أردتم أن تكونوا أحبّاء الله وأصفياء الله، فأحسنوا إلى من أساء إليكم، واعفوا عمن ظلمكم، وسلِّموا على من أعرض عنكم. اسمعوا قولي، واحفظوا وصيَّتي، وارعوا عهدي، كيما تكونوا علماء فقهاء".

أيّها الأحبّة، بهذه الرّوح، استطاع السيّد المسيح(ع) وكلّ الأنبياء(ع)، أن يفتحوا قلوب النّاس. وبهذه الروح، يمكن أن نحوِّل أعداءنا إلى أصدقاء، وأن نواجه التّحديات.

والبداية من لبنان، الَّذي تستمرّ معاناته على المستوى السياسيّ والاجتماعيّ، في ظلّ التّهديد الأمني المستمرّ في الداخل، ومن الحدود الشرقيّة والجنوبيّة، والمراوحة في أزمة المخطوفين العسكريّين، وانعكاسها على حياتهم وعلى أهاليهم وكلّ الوطن، وجراء ما تكشفه الأيام من الفساد المستشري في أجهزة الدولة، مما يطاول صحَّة الإنسان وغذاءه ودواءه، فضلاً عن مائه وهوائه. وكلّ ذلك يأتي في ظلّ عدم انتظام عمل مؤسَّسات الدولة الرقابيَّة والتنفيذيَّة، الَّتي يفترض أن تعالج هذه المشاكل وتجد لها الحلول، ووسط انقسام داخليّ، واحتقان مذهبيّ وطائفيّ، وعدم جدوى انتظار حلول من الخارج، تساهم في حلحلة أزمات الداخل، مما اعتاد اللبنانيون عليه، فالجميع مشغول عما يجري في لبنان بملفّات المنطقة والحرب على الإرهاب.

إنّ كلّ هذا الواقع، وكما أكّدنا أكثر من مرة، بات يستدعي تواصلاً بين كلّ القوى الفاعلة في هذا الوطن، لمعالجة كلّ هذه المشكلات، وإخراج إنسان هذا البلد من يأسه.

ومن هنا، فإنَّنا ننظر بإيجابيَّة إلى اللقاء الَّذي جرى بين موقعين أساسيين في هذا البلد، ونقدّر كلّ الجهد الَّذي بُذل لحصول هذا اللقاء، ومن يتولى رعايته، لأهميَّة حصوله في هذا الظّرف الصَّعب، حيث يُراد للفتنة أن تعمّ. إنَّ هذا الحوار سيساهم في تبريد أجواء الاستنفار المذهبيّ والطّائفيّ الَّذي أنتجه الخطاب السّياسيّ الموتِّر، والَّذي انعكس إثارةً للمفردات المذهبيّة الَّتي تساهم في إثارة الأحقاد والكراهية، فضلاً عن أنّ ما يجري في المنطقة من أحداث سياسيّة أو صراع محاور، يُعطى طابعاً مذهبيّاً أو طائفيّاً ينعكس على الداخل اللبناني.

إنَّنا نأمل من هذا الحوار، أن يولِّد مناخات سياسيَّة إيجابيَّة، تمهِّد الطَّريق لفتح ثغرة في كلّ الملفات العالقة والكثيرة.. ونحن لن نحمِّل المتحاورين أكثر مما يتحمّلون، لأنَّنا نعرف حجم تعقيدات الملفّات المطروحة أمامهم، وتداعيات ما يجري في المنطقة، وانعكاسه على لبنان وعلى المتحاورين بالذات، ولكنّنا نرى أنَّ من حقّ اللبنانيين عليهم أن يبذلوا ما بوسعهم من جهود لتبديد قلقهم وخوفهم من حدوث فتنة مذهبيَّة، يرون أنها الحاضنة للإرهاب الَّذي يغزو المنطقة ولبنان، وأن يمهِّدوا الطَّريق لحوار وطنيّ تشارك فيه كلّ الأطراف، لما لهم من تأثير في المواقع السياسيَّة الأخرى.

إنَّ على المتحاورين أن يؤكّدوا بالممارسة جدّية هذا الحوار واستمراريّته، فثمَّة خوف وقلق دائم لدى اللبنانيين عند أيّ حوار يجري، من أن يكون حواراً شكلياً، أو حواراً يهدف إلى تقطيع الوقت، انتظاراً لاستحقاقات قادمة، أو حوار الضَّرورة أو غير ذلك. إنّ ما نريده هو الحوار الَّذي يُبنى على قاعدة أن لا خيار لهذا البلد إلا الحوار.

ونحن نأمل أن تتحرَّك، وفي هذا الوقت، حوارات أخرى يتمّ الحديث عنها، لكونها تساهم في تعزيز المناخ الإيجابي، وتؤمِّن السّبيل لوحدة وطنيّة مطلوبة، كبديل عن كلّ الاصطفافات الَّتي تعب منها هذا البلد. وكم هو ضروري في هذه المناسبة أن نسجِّل للشَّعب اللبناني تهيئته المناخ لحصول هذا اللقاء واللقاءات الأخرى، بإصراره على التمسّك بالسّلم الأهلي، وعدم تجاوبه مع كلّ دعوات الفتنة والتحريض، ووقوفه الدائم مع أيّ دعوة للّقاء والحوار، وتشجيعه لها!

وانطلاقاً من الحوار اللبناني، نعيد دعوة المتصارعين في أكثر من بلد عربيّ وإسلاميّ يكتوي بنيران الحروب الداخليَّة الّتي تأكل الأخضر واليابس، وتلتهم حتى تاريخه وتراثه، إلى العمل على تعزيز فرص الحوار في ما بينهم، والتَّجاوب مع أيّ دعوة للحوار، للوصول إلى حلول مرضية للجميع، لما فيه مصلحة أوطانهم، ولإيقاف نزيف الدم والدمار، وللتصدّي لكلّ الدّاخلين على خطّ هذه الأزمات والمستفيدين منها، ولا سيَّما العدوّ الصهيونيّ، حيث أثبتت الأيام ولا تزال تثبت أنَّ العنف الداخلي لا يحلّ أيّ مشكلة، بل يزيدها تعقيداً.

ونصل إلى فلسطين، حيث تستمرّ معاناة أهلنا في غزة، في ظلّ استمرار سياسة الحصار، وإقفال المعابر، وعودة الاعتداءات الصهيونيَّة، كما تستمرّ معاناة أهلنا في القدس، حيث يواصل العدو مشروعه بتهويدها، من خلال إقراره بناء مستوطنات جديدة، وسعيه إلى تقسيم المسجد الأقصى زمانيّاً ومكانيّاً، والتَّمييع المستمرّ لمشروع القرار الفلسطيني في مجلس الأمن، وحتى استخدام الفيتو ضدّه، رغم أنه لا يلبّي الحدّ الأدنى من احتياجات الشَّعب الفلسطينيّ.

إنَّنا أمام هذا الواقع الَّذي نحيّي فيه الشَّعب الفلسطينيّ وثباته ومقاومته، نعيد دعوة الدول والشّعوب العربيّة والإسلاميّة إلى تحمّل المسؤوليَّة تجاه هذه القضيّة، ولا سيّما الدّول التي تملك تأثيراً في الداخل الفلسطيني، كمصر والأردن.

وأخيراً، وفي اليوم العالميّ للغة العربيَّة، نعيد دعوة الأهل والمربّين والمدرِّسين، وكلّ الناطقين بهذه اللغة، إلى إعادة الاعتبار إليها، وخصوصاً أنّنا نشهد تراجعاً في الاهتمام بها، يتمثّل ضعفاً في التّعبير، وجهلاً بقواعدها ومفرداتها، ومزج مفردات لغة أخرى بها، ما يساهم في توهينها.. إنّنا نشدّد على الاهتمام بلغتنا، لكونها تعبّر عن هُويّتنا وأصالتنا، فهي لغة القرآن ولغة أصحاب الجنة، كما تشير بعض الأحاديث، وهي تمتلك من الميزات ما لا يوجد في لغاتٍ أخرى.

إنّنا لا نمانع تعلّم اللغات الأخرى، لكن ليس على حساب اللغة الأم. وإنّ أمةً لا تحترم لغتها، لا يمكن أن تكون في مصافي الأمم الراقية الَّتي تحترمها شعوب العالم.

التعليقات