غزة ما تزال في قلبه ووجدانه ..ساعتان مع الرئيس "أبو مازن" ... أعادتا صوغ المشهد

غزة ما تزال في قلبه ووجدانه ..ساعتان مع الرئيس "أبو مازن" ... أعادتا صوغ المشهد
بقلم: د. مجدي جميل شقورة

مجالسة الرؤساء ميزة لا يتمتع بها الكثيرون، ومجرد مصافحة أحدهم أو التلويح له من بعيد يعتبر حدثاً مهماً في حياة الكثيرن، هذه حقيقة، وإن شاءت الأقدار وأتاحت للمرء هذه الفرصة، فإن الأمر لا يعدو أكثر من جلسة تختلط فيها المشاعر، ويسيطر عليه فضاء "المجاملات"، وتكتسب عادة طابع الرهبة والتردد والانفعال، فما بالك بمجالسة رئيس يشغل العالم كله من أقصاه إلى أقصاه، ويناور في منطقة ضيقة لا تكاد تتسع لحراك أو تتعاطى مع تكتيك، وفوق ذلك كله هو بالأساس ابن تجربة ثورية طويلة ومعمقة ومعقدة، وهو إلى جوار ذلك أكاديمي ناضج وحاصل "عن جدارة" على درجة الدكتوراة، (العملية لا الفخرية)، وقبل ذلك وبعده هو سياسي مخضرم وباحث لا يُشق لع غبار، كيف سيكون حالك عندها؟، هذه باختصار ارهاصات اللقاء الذي جمع كاتب هذه السطور بالرئيس محمود عباس في مكتبه في المقاطعة برام الله قبل نحو أسبوع من الان.
دلفنا إلى المكتب الخاص بالرئيس، حيث تدار المعارك التي لا يراها أحد، استقبلنا الرجل بابتسامة واسعة، كان حميماً ومضيافاً بحق، وبرغم أن اللقاء جاء في ذات اليوم الذي وقعت فيه عملية الكنيس اليهودي في القدس، وهو أمر يضع القيادة الفلسطينية على المحك، إلا أن الرجل بانت عليه علامات الثبات الانفعالي، والقدرة على إدارة الأزمة، ربما كانت تجربته الطويلة في العمل السياسي مفتاحاً يستبصر من خلاله آفاق الحلول ووسائل التغلب على الأزمات، يعرف أن الجمع الموجود في غرفة مكتبه من الساسة والنواب والوزراء والمستشارين معظمهم من أهل غزة، إضافة إلى كاتب سطور هذه المقالة، وبدا عليه أنه يرغب في معرفة أحوال أهله في القطاع دون مواربة ودون تجميل للحالة، وهنا انطلق لسان العبد الفقير في تقديم وصف موضوعي للمشهد، ونقل وقائع معاناة الناس على كل المستويات، وهو يستمع بشغف، وينقل بصره في المحيطين، وكأنه يسمع عن بعض التفاصيل التي يتم اغفالها عادة في التقارير الرسمية، شجعتنا هذه الايماءات أن نواصل تقديم الشروحات المطلوبة، وجدناه يبحث في كل سبيل من أجل توفير الحلول لنكبات غزة وكوارثها، ويهتم بأحوال سكانها ويناقش في كل تفصيل عن سبل تسهيل عيشهم وحياتهم وتثبيت صمودهم، ولكن هذا لم يمنعه من وقت إلى آخر أن يراجع أوراقه تارة أو يكمل الاستماع إلى وجهة نظر محددة أو يناقش في قضية لها صلة بغزة وأحوال أهلها، كل هذا من خلف مكتب خشبي بسيط وأثاث متواضع للغاية وعلامات زُهدٍ لا تخفى على أعين تبصر مفهوم الفخامة والأبهة والعظمة التي يتعمدها بعض السياسيون، وجدناه متقشفاً ولا تغريه المظاهر أبداً، وهو فوق كل ذلك يعي قيمة الشيء ويمنحه حقه، ويدرك دلالة كل اشارة وكل رمز، ويناظر منافحاً عن مواقفه التي يقتنع بأنها في النهاية ستصب في خدمة شعبه وقضيته العادلة.
واجهت الحاضرين بحقيقة أقتنع بها تماماً، حيث شكرته على محافظته على المدن الفلسطينية الجميلة في الضفة الغربية، رام الله ونابلس والخليل وبيت لحم، مدن تضاهي في نظافتها ومبانيها ومؤسساتها العواصم العربية، يحافظ عليها في مواجهة دعاة "الانتفاضة الثالثة"، الذين لا يرغبون في رؤية التطور العمراني والتنموي الحاصل في ربوع الضفة الغربية، تطور يقلق إسرائيل التي لطالما تمنت أن يعم الخراب والدمار تمهيداً لترحيل السكان وضم الضفة الغربية، لكن معركة الرئيس معهم لم تمنعه من البحث في كل الاتجاهات عما يُبقي هذه المسيرة من النهوض لتثبيت المواطن على أرضه ودعم مقومات الوجود الفلسطيني في الضفة الغربية، وهو أمر تعكسه الأرقام الإيجابية عن بقاء السكان ورفض فكرة الهجرة تحت أي سبب من الأسباب.
"أبو مازن" رجل ناهز الثمانين عاماً، لكن حيويته يحسده عليها الكثيرون ممن لم يعيشوا نصف عمره، يطالع ويهتم ويبحث ويقرأ، ويقول بلسان الحال لكل من ينتقد أن عليهم أن يتريثوا قليلاً، فالرجل يعمل في زمن المستحيلات، ويقاتل على مدار الساعة من أجل الحفاظ على الكينونة الفلسطينية والثبات الفلسطيني في مواجهة باطل اسرائيل وعربدتها، ويبرهن على منطقه بالانجازات السياسية غير المسبوقة على الصعيد الدولي، من انضام فلسطين إلى اليونسكو، ثم قبولها دولة غير عضو في الأمم المتحدة، ثم انضمامها إلى خمسة عشر معاهدة واتفاقية دولية، ثم كل هذه الاعترافات التي تتوالى تباعاً من الدول الأوروبية بالدولة الفلسطينية، ولا يخفى على أحد أن مواقفه أحدثت شرخاً في الموقف الإسرائيلي، وأنها كانت على الدوام سبباً في ايقاع إسرائيل في مواجهة مع أقرب حلفائها في العالم، يفعل كل هذا بصمت، لا يحب المهرجانات ولا يبيع الشعارات، ولا يعلو صوته، يعتمد الدبلوماسية "الناعمة" و"الهادئة" في مواجهة كل هذه الصراخ في المحيط الفلسطيني والعربي والدولي، ويواصل معركته التي لا يحيد عنها ويعرف منتهاها وإن ظن خصومه أن يتجه شرقاً بقوة فإن بوصلته نحو الغرب لا تخطئ، وإن أقسموا أنه ذهب باتجاه الشمال وأنهم شاهدوه يخطو بسرعة هناك، تكون راحتله قد حطت رحالها في الجنوب، هذا هو "أبو مازن" الذي لا يرغب خصومه في أن يعترفوا أنه هزمهم جميعاً حتى دون أن يبذل في سبيل ذلك قطرة عرق واحدة.
تثير مواقف أبو مازن إعجاب خصومه قبل محبيه، وهو برغم ابتسامته المتواضعة يخفي قلقاً عميقاً على وطنه وشعبه، وبرغم أن البعض يراه متسرعاً أمام وسائل الإعلام وفي حضرة الضيوف الأجانب، إلا أن هذا الرجل "البسيط" يتحول إلى بركان غضب إن تعلق الأمر بالثوابت الفلسطينية، فالقدس هي خطه الأحمر، وباقي القضايا لا تقل عن القدس أهمية بالنسبة له، حتى وإن بدا للكثيرين أن "متساهل" في تناولها أو معالجتها، صدقوني إنه هذا الرجل أمين ومؤتمن على فلسطين، شعباً وأرضاً، ولن يسجل التاريخ عنه أنه باع أو خان او غامر، ولكن سيسجل بعبارات من نور أنه قاتل كل خصومه وأوجعهم في عقر دارهم ثم لم يفرط بحبة تراب من أرض وطنه ولم يضيع مثقالاً من حقوق شعبه.
*باحث في الشؤون الفلسطينية

التعليقات