أما آن لنا أن نستوعب الحقائق ؟!

أما آن لنا أن نستوعب الحقائق ؟!
بقلم:آصف قزموز

كان ذلك على ذمة الرُّواة أوائل الستينيات من القرن المنصرم، حين كان فقراء الفلسطينيون والعرب يجوبون البراري والقفار وصحاري الوطن العربي الشاسعة، باحثين عن لقمة العيش، فكان أبو فايك أحد الذين نجوا من الموت، وحالفه الحظ أنه لم يكن أحد الذين لم يدقوا جدار الخزان أبطال رواية الشهيد غسان كنفاني " رجال في الشمس"، فهلكوا.
المهم وصل أبو فايك واشتغل في تلك البلاد. وذات يوم بعد عدة سنوات، وبينما كان أبو فايك مصطحباً أم فايك في سيارتِه لِمْهَكْعَه، يمخر عباب الصحراء العربية، وفي منطقة مقطوعة من الصحراء، خرج عليه قطاع الطرق الذين اعتادوا أن يظهروا ويعتدون على العابرين. وعلى الفور أمروا أبو فايك أن يترجل من السيارة ففعل، واقتادوه وأم فايك داخل الصحراء، ثم رسموا دائرة وأمروا أبو فايك الوقوف داخل الدائرة، مهددين بقتله إذا دعس بقدمه خارج الدائرة المرسومة، وبدأوا باغتصاب إم فايك أمام عينيه وهي تقاوم مستنجدةً به مستغيثة، بأن يفعل شيئاً لمنعهم والدفاع عنها، ولكن كان موقفه معها كموقف أحد الحكام العرب، عندما اتصل به الرئيس الشهيد أبوعمار، وأبلغه أن قوات الاحتلال ستفجر خلال دقائق المقر على رأسه ومن معه، فكان الجواب على الطرف الآخر:" الخيرة في ما اختاره الله". وهكذا قضي الأمر وانتهوا من فعلتهم النكراءْ في الواقعتين، بعدما غرسوا سفالتهم في جبهة الصحراء العربية.
ولما عادت إلى السيارة، نظرت إم فايك الى أبو فايك نظرة احتجاج وعتاب، قائلةً: وَلاوْ يا أبو فايك، هان عليك عرضك وشرفك، وين المراجل، يَم رسمولك هالدويرة بالطبشورة اتقرطلت وظليت جواتها، يا زلمة عالأقل كنت حاول إتْمَهْيَظ ولو على عيني.فأجاب أبو فايك مزمجراً: إخرسي وَلي وْسدي بوزِك، ليش أنا سَكتِت الْهُم ؟! طب عليِّ الطلاق منك كل ما تْحِلِّي تِحْرَمي إني طعميتهم خازوق طار من راسهم، هم مفكرين إني خضعتلهُم وظليت واقف جُوا الدُّويرَه، وحياة اللي خَلَقِك إني طول الوقت وهم مِلتْهيين معك وأنا امطلع رجلي وداعس بَرِّيت الخط، مِش أبو فايك اللي بينصاع لَزُعران زي هدول لوكانوا ميت رجل.

ما أود قوله، أنه عندما انطلقت الانتفاضة الثانية في الثامن والعشرين من أيلول العام 2000، بصرف النظر عن الظروف والمقومات والمبررات والجهات التي اشعلتها، حاول الشهيد الراحل ياسر عرفات أن يوظف كل المفاعيل والعواطف الإنسانية والدينية بكل ما فيها من بلاغة شاحذة ومحرضة، في خدمة تلك المعركة الانتفاضوية غير المسبوقة في عنفها وتصاعدها، فسماها بانتفاضة الأقصى، لما للأقصى من قدسية وأهمية وحساسية دينية وتاريخية على كافة المستويات العربية والإسلامية والدولية، وهو ربما زاد في اعتقاد الرئيس أن تسميتها بانتفاضة الأقصى سيحرج كل هؤلاء ويجرهم للمعركة لنصرة الأقصى. لكن سرعان ما ذاب الثلج وبان المرج وبانت القَرعَة من إم لِقرون، فاستبيح الدم الفلسطيني المدافع اليتيم عن الأقصى، وانتهكت الحُرمات المقدسة تحت ناظري المجتمع العربي والإسلامي والدولي ككل، دون أي رد فعل يرتقي لمستوى المسؤولية تجاه ما جرى وما زال يجري، يعني على رأي المثل "ما اجتش العتمة عَ قَد إيد الحرامي". لا بل وأكثر من ذلك، حين حاصرت قوات الاحتلال كنيسة المهد، واعتقد البعض أن الإسرئيليين عِلقوا العَلْقَة العاطلِه، لأن الأمر هذه المرة يتعلق في الغرب الأوروبي وغير الأوروبي، فتكرر ذات المشهد الاحتلالي القبيح، ولم يحرك أحد ساكناً جدياً، وبانت غلاوِة الأقصى والكنيسة لدى أتباعهما والمتغنين بهما عن بُعْد.
واليوم، وبعد التي واللُّتَيَّا، يعاود بعضنا من جديد ليتعلق بالحبال الذائبة ذاتها، فيبالغ بإطلاق الصيحات والاستصراخات لحماية الأقصى، يعني معقول نستمر بهذه الشعارات والمواقف المجرَّبة والبائسة، أو ليس في هذا شيء كثير من السذاجة وربما الغباء والعبثية المكلفة لنا، والأسوأ من ذلك أن البعض يكرره وهو يعلم ذات الحقيقة الخيبة التي نعلمها. نعم، الكل يعلم أن لا حروب ممكنة في هذا العصر سوى تلك المصنَّعة على أيدي أصحاب المصالح والنفوذ ومسيطر عليها كماً وكيفاً ومساحات وارتداداً وتوجيهات، وبقدر ما تحتاجه مصالحهم واستثماراتهم في الحروب، وهو ما يشهده الأعمى والبصير في الحروب الظالمة التي تدار على أكتاف الشعوب لصالح النظم والأحزاب المستبدة ذات الشراكة الكومبرادورية الفاقعة مع القوى الاستعمارية الحديثة. وبالتالي ليس من الحكمة الاستمرار بالصراخ والعويل والتغني بالتاريخ السحيق في دعوة العرب لحمايتنا ونظل بانتظار غودو ما لم نعتمد أولاً على ذاتنا وحسن أدائنا، لأن العامل الذاتي وحُسن الأداء سيظل هو الحاسم والجازم والقادر على تشجيع الآخرين وجرهم لنصرتنا سياسياً وحسب، لكن أقصى ما يمكن المطالبة به من العرب هو دعمنا سياسياً وديبلوماسياً بما تسمح به مصالحهم وشراكاتهم وأولوياتهم التي لا يمكن أن نتوقع وضعنا في رأسها ومقدمتها، ومثلما لنا أولوياتنا التي لا نقدم عليها أحدا، للعرب أيضاً أولوياتهم التي لا يجوز أن نطالب تبديتنا عليها.
نعم يا سادتي، قولوا في ما شئتم، ولكن هذه هي الحقيقة التي علينا استيعابها، ماحكَّ جلدك إلاَّ ظُفرك أو لِمكَيِّس في الحمام اللي بيكون مدفوع أجارُه مقدماً وعلى رأي الأميركان " نو فري لانتش". وحتى لا نظلم الأشقاء العرب باستثناء الضالعين والوالغين في دمنا ومصالحنا أشْكَرا خَبَر، فإن من الضرورة بمكان، أن نعرف أيضاً بأن النظام العربي الرسمي يشكل جزءاً مكوناَّ للنظام الدولي ككل، لا بل وتَشَكَّل أصلاً على هذه القاعدة وهذا الأساس، وبالتالي لا انفكاك له من الالتزامات التي يفرضها هذا النظام القديم الجديد، والتي هي حجر سنمَّار وأساس بقائه وسلامته واستقراره وإلاَّ، وزي ما بيقول المثل " اللي طَلَّع لِحمار عالميذَنِه هو اللي بينَزْلو". نعم لقد آن لدعاة العنف والحروب في ظل هذا الواقع الفاقع، أن يعرفوا جيداً أن لا مكان لتلك الحروب والعنتريات الهوبَراتيِّه إلاَّ في مخيلاتهم، وحتى لو افترضنا جدلاً أن العرب قرروا خوض أية حرب في أي مكان من العالم، فإن جيوشهم ومؤسساتهم العسكرية غير لائقة ولا كفؤة وبعضها تفكك ولم تعد قائمة.
من هنا، يصبح من الصواب والحكمة لزاماً علينا أن نعمل على خلق مصالح لكل الأطراف الممكنة معنا، عرباً وغير عرب بما في ذلك الاسرائيليون أولاً، ونثبت أننا جديرون بأن نكون جزءاً إيجابياً من النظام الدولي والإقليمي كذلك. ومثلما نحن مدعوون للتفاهم مع العرب من على قاعدة إدراك هذا الواقع، فإننا مدعوون أيضاً للبحث عن السبل الكفيلة باستثمار الأجواء السياسية الدولية المتحركة لصالحنا تجاه إسرائيل للضغط باتجاه تمكيننا من تفاهم متوازن مع إسرائيل بأقصى حدود الممكن، بدلاً من الاستمرار بالانجرار لمربعات السياسة الإسرائيلية التي تغذيها مواقف بعضنا العدمية المتطرفة الجوفاء، المتجاوبة مع التطرف الإسرائيلي المتعمد على الدوام، فالتصعيد الإسرائيلي المتطرف هو باب الهرب الدائم لهم من أية أجواء إيجابية لصالحنا أو أية التزامات قد تفرض عليها، ولا سيما شعار وسُعار المستوطنين المنفلت هذه الأيام بهدف جرنا لانتفاضة ثالثة لا قدر الله، وبالتالي يجب أن نفسد محاولاتهم الدائمة هذه، ونعمل على إيجاد موطئ قدم لنا في المشروع الإقليمي المرسوم للمنطقة الذي يديره النظام الدولي، ولا يجوز الاستمرار بالتعامل مع الأميركان كعدو ثم نطالبهم بالنزاهة والعدالة والحياد، مع إدراكٍ شديد من جانبنا بأنه لا الأفق القريب ولا البعيد ولا الواقع العنيد، يشير الى تمكيننا من سقفٍ أعلى من حدود دولة بأحكام خاصة هي في الحقيقة إدارة لحكم ذاتي بمسمى دولة، وذلك خير لنا وأجزى من استمرار الجري وراء السراب العربي الرسمي في دائرة اللاممكن واللامتاح ولا المأمول، دونما إغفال لأهمية دور الشعوب العربية في التحسين والتطوير والارتقاء الآتي لا محالة ولا ريب أو لَبْسَ فيه، آخذين بعين الاعتبار أن الظروف والاشتراطات التي قد تفرض مثل هكذا سقف ومشروع لا يرقى لمستوى الحلم والطموح، قد تتغير فيتغير بتغيرها السقف والمشروع، ذلك لأن حتمية ومنطق الأمور يقول أن الأشياء تزول وتتغير بزوال وتغير مسببات وجودها، وهو ما تؤكده اليوم، حالة التغيير وإعادة الرسم الجارية لخريطة الشرق الأوسط.
صحيح أن الفوضى الخلاقة القائمة على أشدها وتدور رحاها في بلدان الشرق الأوسط عموماً والوطن العربي خصوصاً، ستتمخض عن ولادات جديدة لنظم ودويلات جديدة محملة على أجندات المصالح المتنفذة ذات الوزن المقرر، وهو ما لم يكن يختلف عن مبدأ وأهداف ولادة الخارطة القديمة للدول والمصالح في المنطقة في القرن الماضي، لكن ومع ذلك رب ضارة نافعة، إذ قد يؤسس هذا التغيير وإعادة الاصطفافات في العهد الجديد، بارقة أمل لنا في إطار حل سياسي متوازن يكون لهم مصلحة به أولاً ضمن الممكن التاريخي في اللحظة التاريخية، إن أحسنا رباطة الجأش ونظمنا الصفوف واستمرار السلوك السياسي المتوازن، وتوحدنا بمنطوق خارج عن سياسات المزايدة، والانجرار وردود الأفعال المُتَطَيِّرة التي أثقلت وما زالت تثقل كاهل شعبنا. ومع كل هذا يخطئ من يعتقد باستقرار المنطقة ودولة إسرائيل من دون قيام دولة الفلسطينيين الى جانبها، ومثلما بات أمنهم من أمننا فإن أمننا من أمنهم أيضاً، والعلاقة أضحت جدلية بين الدولتين ولا انفكاك لطرف من الآخر.
[email protected]

التعليقات