بنية العقل العربي-الإسلامي

بنية العقل العربي-الإسلامي
للباحث المغربي عبدالعزيزالخطابي

أولاً ـ موضوع بحث الكتاب:

تمثل ظاهرة الثقافة العربية الإسلامية العالمة منذ عصر التدوين حتى عهد ابن خلدون موضوع الكتاب الثاني في سلسلة (نقد العقل العربي) الذي أصبح محور اهتمام المفكر المغربي محمد عابد الجابري، وتشمل كلمة 

العالمة هنا التراث الثقافي المعرفي في المكتوب الذي أنتجته شخصيات ومذاهب ومدارس فكرية عربية اسلامية ذات مكانة مرموقة في عالم المعرفة، ومن ثم (فبنية العقل العربي) ليس بكتاب العقل وتحليل ونقد لعقل 

سواد الشعب للأمة العربية الاسلامية، وإنما هو نقد وتحليل لآليات العقل العربي المثقف حتى عصر ابن خلدون، فالكتاب بهذا الاعتبار يمكن وصفه بأنه بحث متعمق ينتسب إلى عالم الاجتماع الثقافي بالمعنى 

المعاصر لهذا المصطلح. وهكذا فهو يختلف على عدة مستويات عن بعض الكتب الأجنبية التي تمت بدراسة العقل العربي في الحقبات الأخيرة.

ثانياً ـ الأنظمة المعرفية للثقافة العربية الاسلامية العالمية:

مما لا شك فيه أن مؤلفات الثقافة العربية الاسلامية العالمة تمثل تراثاً معرفياً ضخماً، وأن مشروع الجابري يمثل في الحقيقة خطوة جادة لعلمنة هذا الزاد المعرفي وجعلنا نقترب أكثر من فهم منظم لظاهرة الثقافة 

العربية الاسلامية العالمية.

فبعروض وتحليلات وتعليقات اضافية على أمهات كتب وأطروحات هذه الثقافة بين عصر التدوين وعهد صاحب المقدمة توصل المؤلف إلى تحديد ثلاثة أنماط من الأنظمة المعرفية التي عرفتها الثقافة العربية 

الاسلامية العالمة، وهي النظام البياني (البيان) والنظام المعرفي (العرفان) والنظام البرهاني (البرهان).

فينتسب إلى النظام المعرفي البيان كل من اللغويين والنحاة وعلماء البلاغة وأصول الفقه والكلام، ويستند هذا النظام المعرفي في الأساس إلى النص (القرآن والحديث) والإجماع والاجتهاد كسلطات مرجعية في تشييده 

لتصوره للعالم ومن ثم خدمة العقيدة الاسلامية وبالأحرى فهمها.

أما العرفان فهو في نظر الكاتب (جملة التيارات الدينية التي يجمعها كونها تعتبر أن المعرفة الحقيقية بالله وأمور الدين هي تلك التي تقوم على تعميق الحياة الروحية واعتماد الحكمة في السلوك، مما يمنح القدرة على 

استعمال القوى التي هي من ميدان الإرادة فالعرفان يقوم على تجنيد الإرادة بديلاً عن العقل).

وأخيراً فإن النظام البرهاني يرى أن اكتساب المعرفة بالكون ككل أو كأجزاء لا يتم إلا بواسطة قوى الانسان الطبيعية من حس وتجربة ومحاكمة عقلية، ويؤكد الجابري أن لأرسطو دوراً كبيراً في نشر منهج النظام 

البرهاني في تراث الثقافة العربية الاسلامية العالمة.

وهكذا يتضح أن عقل هذه الثقافة ليس بالعقل المتجانس، وإنما يتفرع في الحقيقة إلى ثلاثة عقول كما رأينا، ونتجت عن ذلك مصادمات غير هيّنة بين هذه الأنظمة المعرفية كان أخطرها في رأي صاحب الكتاب 

تراجع العقل البرهاني أمام العقل البياني الذي عرف العالم العربي الاسلامي منذ عهد الانحطاط حتى العصر الحديث.

ثالثاً: أمثلة لطبيعة العقل البياني:

إن واحدةً من الأطروحات الرئيسة التي شغلت بال العقل البياني هي بالتأكيد ـ في نظر المؤلف ـ إشكالية اللفظ والمعنى، فسيبويه، عالم النحو العربي المعروف، يشير بوضوح إلى وجود هذه الإشكالية في اللغة 

العربية الفصحى، فيلاحظ سيبويه أن المتكلم باللسان ـ العربي الفصيح لا يمكن أن يعبر بهذا الأخير بطريقة صحيحة إلا إذا أعطي الاهتمام اللازم للمعنى، أي أن المتحدث بلغة الضاد الفصيحة ينبغي عليه أن يفكر 

وهو يتكلم أو يتكلم وهو يفكر فمنطق المعاني متداخل حتمياً مع اللفظ اللغوي عند سيبويه.

في هذا الصدد، يسوق الجابري المناظرة الشهيرة التي جرت في بغداد بين المنطقي أبي بشر متى بن يونس (ت: 940م) من ناحية، وأبي سعيد السيرافي النحوي المعتزلي من ناحية ثانية، والمسألة المطروحة هنا 

هي في رأي الكاتب مسألة منطقية بحتة، وبالرغم من ذلك فإن أبا سعيد السيرافي لجأ إلى منطق النحو في القضية المطروحة بين المتناظرين، فالنحاة على العموم طالما ربطوا بين منطق اللغة ومنطق العقل في 

تفكيرهم وأبحاثهم. وهكذا تتبين إشكالية اللفظ والمعنى عند العقل كما يراها مؤلف الكتاب.

أما علماء أصول الفقه فإن النص القرآني أو الحديثي يهيمن عندهم على استعمال واستدلال العقل. إن الدلالة والاستدلال عندهم عمليتان مترابطتان: أي أن تصرف العقل في معنى اللفظ محدود إلى حد كبير. وبعبارة 

أخرى، فإن صاحب الكتاب لا يتردد في القول لأن وظيفة العقل عند علماء أصول الفقه وظيفة ثانوية بالنسبة لمدلول النص. (فالاجتهاد هو إذن عبارة عن استشعار للنص. وأن المعقول هو أيضاً معقول النص).

تتضح هيمنة القواعد اللغوية أو أبواب الخطاب، كما كانت تسمى، على مؤلفات علماء أصول الفقه؛ فأبواب الخطاب هذه تشغل ما لا يقل عن ثلث حجم الكتاب. وكمثال على ذلك يمكن ذكر الكتاب (المعتمد في أصول 

الفقه) لأبي الحسين البصري المتوفى في عام 436هـ، علماً بأن هذا الكتاب يُعدّ أهم أربعة كتب في أصول الفقه المعتزلي الممثل الرسمي والمخلص للنظام المعرفي والبياني؛ ومن ثم يخلص الجابري إلى القول بأن 

النشاط العقلي في علم أصول الفقه هو نشاط وحيد الاتجاه: الانطلاق من اللفظ إلى المعنى كما هو الشأن في علوم النحو واللغة والبلاغة: لذلك أصبح ـ في رأي المؤلف ـ الاجتهاد في علم أصول الفقه اجتهاداً في اللغة 

التي نزل بها الذكر الحكيم وهذا الانشغال بالمسائل اللغوية لدى هؤلاء العلماء تم على حساب اهتماماتهم بقضايا مقاصد الشريعة.

يرى المؤلف أن علم الكتاب كجزء من النظام المعرفي البياني لم يتحرر هو الآخر من سطوة إشكالية اللفظ والمعنى؛ فقد وضع المتكلمون المسلمون، والمعتزلة على وجه الخصوص، حدوداً لا ينبغي تجاوزها في 

تأويل الخطاب القرآني. إن كتاب (المغني في أبواب التوحيد والعدل) لأبي الحسن القاضي عبدالجبار (ت: 415هـ/1062م) يفصح عن تأثر علم الكلام بإشكالية اللفظ والمعنى إلى حد كبير؛ وهذا مثال آخر يسوقه 

الجابري للتدليل على أن العقل العربي تم إقصاؤه عن الممارسة الفعالة العقلية المستقلة عن الخطاب الشرعي.

إن حال البلاغيين من قضية اللفظ والمعنى تشبه وضعية المتكلمين والنحاة المشار إليها أعلاه؛ أي أن علماء البلاغة بقوا سجيني إشكالية اللفظ والمعنى، ونظرية النظم التي جاء بها عبدالقاهر الجرجاني مصداق لذلك. 

إن هذه النظرية مزدوجة الطبيعة: نظام الخطاب ونظام العقل. لكن علاقة هذين الأخيرين الواحد بالآخر تضامن علاقة اللفظ بالمعنى؛ إذ إن النظم هي تناسق دلالات الألفاظ وتلاقي معانيها على الوجه الذي يقتضيه 

العقل.

وباختصار، فإن تكوين العقل البياني يركز اهتمامه في الأساس على نظام الخطاب وليس على نظام العقل وذلك يعني أن البياني لا يعتمد على نظام السببية كما هو الأمر في نظام العقل. ومن نتائج طبيعة العقل 

البياني، كما يشير صاحب الكتاب، إلى ظاهرة الاهتمام من جهة، يتجنب التنافر بين الكلمات في الثقافة العربية الاسلامية العالمة ومن ناحية أخرى، عرفت هذه الثقافة ظاهرة التنافر بين الأفكار. وما الاعتناء بفن 

البديع في الخطاب (خصوصاً في العصر العباسي) إلا ملمح من ملامح هيمنة اللفظ على المعنى، الأمر الذي أدى إلى إغفاء عقلي في هذه الثقافة في رأي الجابري.

وبالاضافة إلى إشكالية اللفظ والمعنى التي عرقلت تحرر العقل البياني وصفاء تفكيره العقلاني فإن المؤلف يرى أن (لا يعني استخراج نتيجة تلزم ضرورة عن مقدمتين أو أكثر بل يعني إضافة أمر إلى أمر آخر بنوع 

من المساواة. إنه ليس عملية جمع وتأليف بل هو عملية مقايسة ومقاربة. إن القائس لا يصدر حكماً من عنده لا يبتدعه بل يمدد حكم الأصل إلى الفرع، إثباتاً أو نفياً اعتماداً على ما يجده هو من شبه بينهما يبدد 

القياس).

إن لزوم قياس العقل البياني لزوماً غير ضروري؛ إذ إن العلة غير المصرّح بها بل يلتمسها المستدل من ملامح (أمارات) يعتقد أن الشارع أناط الحكم بها من أدلة في الشاهد يتخذها مرشداً إلى مطلوبه؛ ومن ثم يتضح 

أن اللزوم البياني هو لزوم يقوم على مجرد الجواز وفي أحسن الأحوال على الترجيح وبالتالي، فالقياس البياني ليس لهو قوة منطق اللزوم الضروري التي يستند إليها القياس المنطقي الإغريقي المتمثل في العبارة 

المنطقية: كل انسان فان، سقراط انسان، إذن فهو فانٍ.

ويُرجع الكاتب طبيعة القياس البياني (التجويزية أو الترجيحية) إلى البيئة الصحراوية التي عاش فيها الانسان العربي في الجزيرة العربية (فالمبدأ الذي يؤسس وعي سكان هذه البيئة لن يكون السببية ولا الحتمية بل 

سيكون الجواز: كل شيء جائز. الاضطراد قائم فعلاً، ولكن المتغير المفاجئ الخارق للعادة ممكن في كل لحظة).

بعبارة أخرى، فإن الرؤية القائمة على الانفصال وعدم الاقتران الضروري بين الظواهر والأشياء هي في نظر الجابري رؤية تجعل الجهد العقلي محصوراً في المقارنة بين الأشياء، بعضها مع بعض، لا يتعداها. 

ومن ثم يلخص المؤلف خطأ البيانيين على اختلاف أصنافهم بأنهم (قرأوا النص القرآني بواسطة سلطة مرجعية أخرى هي عالم (الأعراب) عالمه الطبيعي والفكري الذي تحمله معها اللغة العربية التي جعلوا منها 

حَكَماً بدعوى أنها اللغة التي نزل بها القرآن).

رابعاً ـ طبيعة خاصيات العقل العرفاني:

إن آليات النظام المعرفي العرفاني تختلف في الأساس عن تلك التي رأيناها عن النظام المعرفي البياني؛ فوسائل كسب المعركة هنا تتمثل في طرق الإلهام والكشف، والرياضات والمجاهدات التي يتلقاها ويمارسها 

العارفون. والعقل العرفاني بالتأكيد متأثر هو بالنظرة الهرمسية عند صاحب الكتاب.

وتحتلّ إشكالية الظاهر/ الباطن فيه مكانة مماثلة للفظ/ المعنى في العقل البياني. وهكذا أصبح الزوج: الظاهر/ الباطن أداة رئيسة بتأويل الخطاب القرآني. لكن تدخل العامل السياسي في عقلية التأويل هذه لعب دوراً 

مهماً خصوصاً عند الشيعة والمتصوفة.

ويعتقد أهل العرفان أن معرفتهم أفضل من المعرفة البيانية والبرهانية، إذ إن طريق العرفان هو طريق الأصفياء، خصوصاً الأولياء والأئمة.

إن أهم شخصية تمثل النظام المعرفي العرفاني هو في رأي صاحب الكتاب ـ ابن عربي (560 ـ 638هـ): الشيخ الأكبر والكبريت الأحمر. فهذا الأخير يقول بأن الله جعل في كل شيء من مخلوقاته ظاهراً وباطناً. 

وأن ما نسميهم بأصحاب الإشارات معفون من التقيد بحدود اللغة (اللفظ والمعنى)؛ إذ إن فهم القرآن الحق هو فهم بالقلب. المؤمن ينبغي أن يضع نفسه في منزلة الرسول ليسمع مثله القرآن في قلبه، كما يسمع الرسول 

من جبريل؛ فموقف العارفين هذا موقف خطير جداً. إذ إن ذلك يجعل فهم الصحابة أقل من فهم العارف الصوفي أو الشيعي أما القياس العرفاني فيصفه المؤلف بأنه القياس بدون جامع، وبدون حد أوسط، وبدون رقابة 

عقلية. فجعل الشيعة مكانة الولاية أفضل من النبوة مصداقاً لعدم ترابط وتناسق بنية القياس العرفاني؛ فالولي عند المتصوفة والإمام عند الشيعي لهما السلطة الدينية ا لكاملة التي لا تنافسها أية سلطة أخرى بخصوص 

مصداقية المعرفة.

لا يتردد الجابري في إصدار نقده اللاذع للموقف العرفاني المشار إليه هنا. فهو في نظره هروب من عالم الواقع إلى عالم (العقل المستقيل) الذي يلجأ إليه العارف كلما اشتدت وطأة الواطئ عليه وعجز عهن تجاوز 

أرضيته.

إن النظام العرفاني يلغي الاستبصار بالعقل. (الموقف العرفاني موقف سحري يلغي العالم ليجعل من (أنا) العارف الحقيقة الوحيدة. إن النظرية العرفانية ذات رؤية سحرية في الصميم. إنها تخلق كل شيء يريده 

العارف من لا شيء)).

خامساً ـ البرهان في الثقافة العربية الاسلامية العالمة:

في محاولة لكسب المعرفة يستعمل العقل البرهاني وسائل مختلفة في الأساس عن تلك التي يلجأ إليها كل من النظام المعرفي البياني والعرفاني؛ فالبرهان يعتمد على قوى الانسان الطبيعية مثل الحس والتجربة 

واستعمال العقل في اكتساب معرفة الكون ككل أو كأجزاء. ويرى المؤلف أن العقل العربي البرهاني بدأ رحلته مع الفيلسوف العربي الكندي الذي دعا إلى وجوب تعلم الفلسفة. وتلاه الفارابي بالتأكيد على أسبقية 

الفلسفة زمنياً عن الملة (الدين)، وأن ما في الملة مثالات لما في الفلسفة. ويشير المعلم الثاني إلى أن المنطق كفكر فلسفي تنطبق مبادئه وتعميماته على جميع الناس، بينما بعض العلوم الأخرى مثل علم النحو يعطي 

قوانين تخص ألفاظ كل لغة؛ وفي نظر الجابري أن الفارابي كان يتوجه بذلك إلى البيانيين على العموم والنحاة على وجه الخصوص.

إن التأثر بالمنطق لم يفلت منه الإمام أبو حامد الغزالي بالرغم من تصوفه؛ فلقد بقي مناصراً له حتى آخر أيامه؛ ففي كتابه (القسطاس المستقيم) يحصر الغزالي طرق الاستدلال في القرآن في ثلاثة تؤول كلها إلى 

القياس الأرسطي. ولم يكتفِ مؤلف (المنقذ من الضلال) بالتبشير بالمنطق بل ذهب إلى بيان عدم صلاحية الاستدلال بالشاهد على الغائب في العقليات (علم الكلام) إذ إن صلاحية هذا المنهج مقصورة على الفقه حيث 

لا يطلب اليقين وإنما يكتفي بالظن.

ومع ذلك، يعيب الجابري على الغزالي أن المنطق كمنهج تحول معه (إلى مجرد آلية ذهنية شكلية مثل آلية قياس الغائب على الشاهد).

أما مساهمات ابن سينا في الدفع بالعقل البرهاني إلى الأمام فإنها في نظر المؤلف مساهمات سلبية؛ إذ إن فلسفته عبارة عن تلفيق بين إلهيات الفارابي وأخرويات الإسماعيلية؛ وبذلك يدشن كل من الغزالي وابن سينا ما 

أطلق عليه صاحب الكتاب اسم الأنظمة المعرفية الثلاثة. إنها أزمة (اختلطت فيها المفاهيم واشتبكت المسائل وتصادمت الرؤى والاستشرافات داخل الثقافة العربية الاسلامية، مما جعل الحاجة إلى إعادة التأسيس 

والبَنْيَنة ضرورة ملحة).

وهي أزمة حادة مسّت البيان والعرفان والبرهان وأدت إلى ما سماه الكتاب (بالتداخل التلفيقي) بين أجزاء النظم المعرفية المذكورة هنا؛ ومن هنا جاءت أهمية دور مشروع ابن حزم؛ فمشروع هذا الأخير يصفه 

صاحب الكتاب بأنه (مشروع فكري فلسفي الأبعاد يطمح إلى إعادة تأسيس البيان وإعادة ترتيب العلاقات بينه وبين البرهان مع إقصاء العرفان إقصاءً تاماً). وتتلخص معالم هذا المشروع الحزمي في المبادئ التالية:

1 ـ فهم الشريعة اعتماداً على حجة العقل.

2 ـ العلة هي علاقة طبيعية ضرورية بين الأشياء.

3 ـ السبب صفة خاصة بالكائنات التي تتمتع بحرية الإرادة.

4 ـ قياس الفقهاء باطل لأنهم يقيسون على أشياء تختلف في النوع.

ويتأثر ابن حزم في كل ذلك بطبيعيات أرسطو ومفاهيمها ونظرياتها البرهانية في تأسيسه النظام المعرفي البياني على رؤية البرهان. هذا لا يعني أن ابن حزم لا يترك مجالاً للنص في خدمة الشريعة. إن التمسك 

بالنص أمر وارد لا جدال فيه. لكن ما ورد فيه نص واضح هو قليل ومحصور. وعليه، فإنه يجب استعمال العقل في باقي الأمور غير المحصورة؛ ويمكن القول إن رؤية ابن حزم هي رؤية تؤسس البيان على 

البرهان تصوراً ومنهجاً.

وجاء ابن رشد في الأندلس لكي يدفع بالمشروع الحزمي إلى الأمام؛ وتتمثل مساهمة صاحب كتاب (تهافت التهافت) في أنه أصبح شديد الالتزام بنظام السببية؛ وهو القائل بأن مَن رفع الأسباب فقد رفع العلم. إن 

التوجه الحزمي الرشدي البرهان (العقلاني) أثّر تأثيراً عميقاً خصوصاً على كل من الشاطبي وابن خلدون؛ فالشاطبي يمثل قمة الفكر العربي الاسلامي في ميدان الفكر الأصولي، أو علم الشريعة؛ أما ابن خلدون فقد 

بلغ بمقدمته أوج الفكر البرهاني في الفكر التاريخي والاجتماعي والسياسي. لكن حركة الفكر البرهاني لم يكتب لها الاستمرار بعد ابن رشد والشاطبي وابن خلدون. (ولكن النقلة التي بشّر بها الشاطبي في ميدان علم 

الشريعة مثلها مثل النقلة التي بشر بها ابن رشد في ميدان الحكمة بدون قابلة، بدون مستقبل، تماماً مثل النقلة التي بشر بها ابن خلدون في ميدان ثالث بقي ينظر إليه داخل الثقافة العربية الاسلامية على أنه يقع خارج 

شجرة العلوم النقلية منها والعقلية).

سادساً ـ تعاطف المؤلف مع العقل البرهاني:

لقد نجح الجابري في هذا الكتاب الضخم في معالجة وتحليل تراث الثقافة العربية الاسلامية في صياغة مبسطة سوف تجعل تراث هذه الثقافة في متناول غير المختصين من مثقفي الوطن العربي اليوم وفي المستقبل.

لقد أنجز الكاتب هذا الهدف بأسلوب ومنهج ولغة تتسم كلها بكثير من السهولة والوضوح كما أن المؤلف تقيد بروح التحليل والنقد التي يشير إليها عنوان الكتاب؛ فالمؤلف كان أ:ثر قسوة وأشد نقداً للعقل العرفاني؛ 

وفي المقابل فقد كان أكثر انبهاراً وحماساً وتعاطفاً مع العقل البرهاني؛ أما حدة نقده للعقل البياني فهي تميل إلى الأوصاف بشيء من القسوة؛ ومن ثم فولاء الجابري هو ولاء وتعاطف بيِّنان مع العقل البرهاني المستند 

إلى أسس المنطق الأرسطي على الخصوص. إن مثل هذا الموقف من البرهان يصدق عليه قول المتنبي بعد التصرف:

العقل البرهاني قبل البياني والعرفاني

هو الأول وهما في محل الثاني

إن هذا التحمس للبرهان دفع ـ في رأينا ـ بالمؤلف إلى نوع من التحيز لصالح العقل البرهاني؛ فهو من جهة، يمجد قياس المنطق الأرسطي المتعقل لكونه قياساً تتسم استنتاجاته باليقينية أو لزوم الضرورة كما هو 

الشأن في العبارة المنطقية المشهورة: كل انسان فان ـ سقراط انسان ـ إذن فسقراط فان. ومن جهة ثانية، فإن الجابري يحقر من مكانة القياس البياني الذي طالما يستعمل علاقة الأصل بالفرع كمنهجية للتوصل إلى 

استنتاجات وتشريعات كما هو الأمر في تحريم الفقهاء للنبيذ (فرع) قياساً على الأصل الذي هو الخمر.

سابعاً ـ العقل البياني أقرب إلى روح العلم الحديث:

إن نقد الكاتب للقياس البياني يعود في نظره إلى كون استنتاجاته ليست إلا احتمالية أو ترجيحية في أحسن الحالات، وبالتالي فهي غير دقيقة ولا يقينية مثل تلك التي يتوصل إليها المنطق الأرسطي. إن المتأمل في 

مدى التعاطف الذي يكنه صاحب الكتاب إلى القياس الأرسطي لا يسعه إلا أن يجد بعض المآخذ في مثل ذلك الموقف؛ فيقينية سقراط فإن تم التوصل إليها بسبب أن المقدمتين: كل انسان فان ـ وسقراط انسان تتصفان 

باليقينية المطلقة بخصوص الفناء النهائي لبني البشر. إن الجابري يدعو إلى ايجاد قياس شرعي اسلامي يتمتع بعين درجة اليقينية التي يُعرف بها قياس المنطق الأرسطي. نحن نرى أن دعوةً مثل هذه هي دعوة غير 

واقعية وتتعارض مع طبيعة الأشياء؛ فقياس الفقهاء والمشرّعين المسلمين طالما تتناول قضايا اجتماعية وانسانية لم يرد فيها نص واضح، لا في القرآن ولا في السنة، وبالتالي فالمسائل والقضايا الجديدة هي نتيجة 

حركة تغير وتطور المجتمعات الانسانية مع مرور الزمن.

فالقياس البياني المستند إلى نموذج النص/ الفرع يمثل منهجية واقعية لمعالجة ما يجد من قضايا ومشاكل في صلب المجتمعات الاسلامية المتطورة. نعم إنما يتوصل إليه الفقهاء عن طريق قياس بخصوص الفرع لا 

يتصف باليقينية التي يتصف بها الأصل. إنه لضرب من اللاواقعية والتبسيط أن ننشد اليقينية المطلقة من استنتاجات قياسية حول قضايا ومسائل انسانية معقدة لم يبينها الشرع؛ فالدعوة إلى معرفة يقينية في مثل هذه 

الأشياء هي دعوة غير واقعية ومناقضة للروح العلمية نفسها. والواقع أن كل ما يرجوه المشرّع الذي يلوذ إلى المنهج القياسي هو تشريعات احتمالية أو ترجيحية؛ ولعل كل التشريعات التي اجتهد فيها البشر بأساليبهم 

المتعلقة والمتنوعة لا يمكن أن تكون مصداقيتها إلا احتمالية أو ترجيحية بالنسبة لمصالحهم؛ فالقياس هو عملية اجتهاد؛ والمجتهد يخطئ ويصيب. إن الجابري يضرب عرض الحائط بالقياس الذي يمكن أن يخطئ؛ 

ويطلب قياساً يكون دائماً مصيباً. إن طلباً مثل هذا يُخرجنا من عالم الانسان؛ وهو في رأينا موقف غريب للمؤلف الذي عُرف عنه التزامه بالواقع الاجتماعي للانسان؛ ومن الغريب في هذا المضمار أن صاحب 

الكتاب لا يشير، لا من قريب ولا من بعيد، إلى تخلي العلم الحديث كلياً تقريباً عن منطق أرسطو في كسب المعرفة؛ وإن المنطق التجريبي للعلم طالما يستعمل منهجية تشبه القياس البياني المستعمل لنموذج الأصل/ 

الفرع؛ فعلى مستوى العلوم الدقيقة، تستعمل العلوم البيولوجية أو الطبية مثلاً الحيوانات (الأصل) كميدان لتجاربها لبعض المخدرات والأدوية أو التقيحات ضد الفيروسات كفيروس مرض الإيدز Aids، نظراً لأن 

أخلاقيات هذه العلوم تمنع ممارسة مثل هذه التجارب على بني الإنسان؛ وطالما ينساق العلماء والمجربون إلى تعميم نتائج الأصل (الحيوانات) على الفرع (الإنسان)؛ وهذه التعميمات هي تعميمات احتمالية أو 

ترجيحية بالنسبة لمدى تأثر الانسان (النوع) بتلك الأدوية والمخدرات لوجود بعض الاختلافات ـ وإن كانت ضئيلة ـ بين الانسان والحيوان. أما استعمال منهجية الأصل/ النوع في العلوم الانسانية والاجتماعية الحديثة 

فهو واقع لا يحتاج إلى إثبات؛ وعلماء الاجتماع والسياسة والاقتصاد الغربيون يعممون كثيراً من نظرياتهم حول التنمية والتحديث إلى مجتمعات العالم الثالث، علماً بان منبت هذه النظريات هو واقع المجتمعات 

الغربية (الأصل) وليس واقع المجتمعات النامية (الفرع)، ودلّت الدراسات في هذا الميدان على أن أكثر ما يمكن أن تتصف به مصداقية العلوم الاجتماعية ونظرياتها هو الاحتمالية والترجيحية لا اليقينية بخصوص 

العلاقة بين الأصل والنوع.

بشأن هذه النقطة على وجه التحديد فالعلوم الاجتماعية والنفسية الغربية تعيش منذ السبعينات تحولاً إبيستيمولوجياً بخصوص طبيعة قوانين الظواهر النفسية والاجتماعية؛ فالحتمية الاجتماعية (السوسيولوجية) 

المتصلبة التي دعا إليها عالم الاجتماع دوركايم Durkeim وأتباعه، أو الحتمية السلوكية القاهرة التي قادها عالم النفس اسكنر Skinner أصبحتا مرفوضتين اليوم بين عدد كبير متزايد من علماء الاجتماع والنفس؛ 

وبعبارة أخرى، فإن استنتاجات هذه العلوم وتكهناتها هي في النهاية ذات طبيعة احتمالية أو ترجيحية لا يقينية؛ فتعدد العوامل التي تؤثر في الظاهرات النفسية والاجتماعية تجعل من الصعب الحديث عن استنتاجات 

يقينية على مستوى الفرع كتلك التي يتوصل إليها المنطق الأرسطي بخصوص يقينية فناء سقراط الانسان. وبكل صراحة، فإن طلب اليقينية التامة من القياس البياني في كل استنتاجاته هو طلب غير مشروع، ومن 

ثم، غير واقعي وغير علمي؛ وفي رأينا أن الذي ينبغي أن نعيبه على العقل العربي ليس هو استعماله للقياس البياني وإنما هو توقفه عن الاجتهاد ـ بالقياس أو غير القياس ـ في قضاياه ومشاكله بالرجوع إلى تراثه 

ومبادئ حضارته، بدل سقوطه في دوامة التقليد والتطفل بين أيدي المهيمنين على مصيره.

ثامناً ـ حدود العقل البرهاني:

من القضايا الأخرى المركزية التي ينتقد فيها المؤلف العقل البياني العربي الاسلامي مسألة وقوع هذا الأخير في سجن النص على حساب استعمال العقل البرهاني. إن إشكالية النقل والعقل إشكالية مطروحة منذ 

العهود الأولى لنشأة الثقافة العربية الاسلامية؛ فموقف علماء المسلمين الأوائل من هذه القضية أنه كان يؤمن بعدم وجود التناقض بين اجتهاد العقل وروح النص. في هذا الصدد، فإن الجابري ـ تحت انبهاره للبرهان، 

يكاد يعطي الانطباع بأن التفكير العقلي البرهاني لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ وهذا ما جعله مفرط التحمس في جعل هذا النوع من التفكير الأول والأخير في كسب معرفة موثوق بها حول ظاهرات 

الكون المتنوعة وهو موقف يتطلب الوقوف عنده. في رأينا تلزم الاشارة هنا إلى ملمحين لهذا العقل:

1 ـ إن المعرفة المكتسبة عن طريق البرهان تبقى في النهاية معرفة محدودة المصداقية خصوصاً في ما يتعلق بالظاهرات الأكثر تعقيداً، وهذا باعتراف الكاتب نفسه.

2 ـ إن التفكير العقلي البرهاني في معناه العام الحديث، لا يمكن له أن يفكر ويتعقل في فراغ؛ وإنما هو يقوم بعملية التفكير والبرهان في إطار اجتماع، ثقافي، سياسي، ديني، إيديولوجي ... ومن ثم فتحرره المطلق من 

هذه المؤثرات غير حاضر على مستوى الواقع والموضوعية؛ فمسألة إباحة تعاطي الكحول مثلاً في المجتمعات الغربية لا يمكن إرجاعها إلى برهان عقلاني بحت؛ فالأدلة الموضوعية على سلبيات إباحة الكحول 

تفوق بكثير إيجابياتها؛ وبالرغم من المعرفة بذلك فإن أكثر ما قام به بعض هذه الجماعات هو القيام بحملات توعية لتعاطي الكحول باعتدال (كما هو الشأن في فرنسا)، أو منع تعاطيها عند قيادة السيارة، كما هو الحال 

في بعض المقاطعات الكندية اليوم. فالعقل البرهاني ليس إذن بكامل الحضور بخصوص القضايا التي تتصف بتعقيدات ثقافية وإيديولوجية وسياسية واقتصادية ... وههنا يأتي ـ في رأينا دور النص القرآني والحديثي 

في البتّ في المسائل الشائكة مثل إباحة تعاطي الكحول أو منعه في المجتمع، وهو ما جاء في القول الفصل في القرآن بالنسبة للمجتمع الاسلامي الحق. وهذا يعني أن المعرفة في الثقافة العربية الاسلامية العالمية 

تستند إلى مصدرين: المعرفة البرهانية والمعرفة النصية. إن الواحدة مكملة للأخرى في المنظور الاسلامي.

تاسعاً ـ مدى شرعية موقف المؤلف من العقول الثلاثة:

السؤال الذي يطرح نفسه هو: ما هي شرعية مثل هذا النقد الذي تردد في صفحات النصف الأول من هذا الكتاب الضخم؟ إن المنهجية التي استعملها المؤلف لتحديد طبيعة العقل البياني هي من نوع تحليل الخطاب 

البياني؛ أي أن صاحب الكتاب درس وحلل المؤلفات العربية الاسلامية البارزة لعلماء النظام المعرفي البياني منذ عصر التدوين حتى عهد ابن خلدون؛ وبعد القيام بالوصف المنهجي التفصيلي والمنظم لآليات العقل 

البياني الذي سطا على الثقافة العربية الاسلامية العالمة أصدر المؤلف حكمه المتشدد على هذا العقل.

فالمؤلف يبدو وكأنه كتب الكتاب ليصف العقل العربي ولينتقده في المقام الأول وليس ليحلل ويتفهم الظروف الموضوعية التي أفرزته وشكلت طبيعته؛ فلا يكاد المرء يجد في القسم الذي خصصه المؤلف في كتابه 

لمناقشة العقل البياني أية محاولة جادة لفحص هذا العقل في ضوء ما يسمى اليوم بعلم اجتماع المعرفة Sociology of Knowledge؛ فمركزية إشكالية اللفظ/ المعنى في بنية العقل العربي البياني لم تلقَ اهتماماً 

من صاحب الكتاب لتبرير شرعية وجودها في هيكل الثقافة العربية الاسلامية العالمة؛ فاستناد العقل البياني إلى النص له ـ في رأينا ـ ما يبرره إذا نظرنا إيه بمنظور علم اجتماع المعرفة؛ فمما لا شك فيه أن القرآن هو 

المؤثر الأول على طبيعة الظاهرة الاسلامية العربية بما فيها ثقافتها العالمة. إن أول ما يتميز به القرآن على المستوى البياني هو إعجاز لغته، وإن هذا الكتاب يعلن في وضح النهار أن فيه إشارات ومعلومات عامة 

حول كل شيء (... ما فرطنا في الكتاب من شيء). كما أن الاسلام يؤكد أنه خاتم الرسالات السماوية وأكملها؛ فليس بالعجيب إذن أن تحتل المعرفة بألفاظ ومعاني اللغة التي نزل بها القرآن الصدارة في التكوين 

الثقافي والتفكير المعرفي عند عدد كبير من المفكرين العرب والمسلمين؛ وبالتالي فنحن نرى أن اهتمام هؤلاء باللفظ وبالمعنى ـ وهو أكثر ما يعيبه المؤلف عليهم ـ هو نتيجة حتمية ـ لا غرابة فيها ـ لهذه الرسالة 

الدينية الجديدة التي تمثل فيها لغة الوحي السماوي ملمحاً رئيساً من ملامح إعجازها. وبالتأكيد فإن الإعجاز اللغوي القرآني هو سمة يتميز بها الاسلام كدين عن الرسالات السماوية السابقة، كما تتميز بها الحضارة 

العربية الاسلامية ـ إلى حد بعيد ـ عن الحضارات الانسانية الأخرى.

في هذا الصدد بالإمكان القول بأن معظم الحضارات الانسانية عرفت البرهان والعرفان ... فالحضارة العربية الاسلامية تشترك فيهما مع الحضارات الانسانية الأخرى. إنما ما يميز هذه الحضارة إلى حد بعيد هو في 

الأساس العقل البياني؛ فالنظام المعرفي هو إذن حصيلة منتظرة لمثل تلك الخلفية التي يمتزج فيها تأثير العامل اللغوي لآليات تفكير في فهم النص كمرجع رئيس لجذور طبيعة نشأة الحضارة العربية الاسلامية 

وتطورها.

إن سكوت الكاتب على جذور الظروف التي أنتجت العقل البياني أدى ـ في رأينا ـ بالجابري إلى فقدانه تقيده المعروف بقوانين الحتمية الاجتماعية التي أكدها في مناقشته للتفكير الفلسفي العربي الاسلامي في كتابه ( 

نحن والتراث)، ففي هذا الأخير أبرز حتمية اجتماعية ثقافية فسّر بها ونقد بها بصورة أكثر إقناعاً الفرق بين الفكر الفلسفي الاسلامي العربي، في كل من المشرق والمغرب، حتى عصر ابن خلدون. أما صمته هنا عن 

الإفصاح عن حتميات العقول الثلاثة فيعكس في رأينا خللاً منهجياً ويضعف بالتالي قوة الأسس لشرعية نقده.

إن شدة ارتباط العقل العربي الاسلامي بالنص تمثل خصوصية لا جدال فيها حتى عند أصحاب العقل البرهاني مثل ابن خلدون. فصاحب (المقدمة) لا يتجاهل النص القرآني في تحليلاته الاجتماعية التي حفلت بها 

أصول هذا الكتاب؛ فبخصوص ظاهرة الترف وانحلال الحضارات يسوق ابن خلدون الآية المناسبة في تأكيد العلاقة الوثيقة بين البرهان والبيان في الثقافة العربية الاسلامية العالمة (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا 

مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً).

من المآخذ الأخرى التي تستحق الإشارة إليها هنا نسيان الكاتب مناقشة سبب عدم تأثر كل من العقل البياني (بحسب اعتقاد صاحب الكتاب) والعقل العرفاني بدعوة الاسلام الصريحة إلى مدى أهمية الاهتداء بنور 

العقل بالنسبة للكائن الانساني. إن تأكيد القرآن على ذلك لا يحتاج إلى بيان. ن عدم تأثر نظامَي العرفان والبيان بكل من المنطق الأرسطي العقلاني من جهة، ودعوة الاسلام إلى التدبر والتفكر والتعقل من جهة ثانية 

(وهذا بحسب مقولة المؤلف) تشابه إلى حد كبير العقل العربي السياسي، فهذا الأخير لم يتأثر بعد فترة الخلافة الراشدة القصيرة، لا بمبادئ الديمقراطية الغربية حديثاً، ولا بمبادئ الشورى الاسلامية قديماً وحديثاً. إن 

صمت المؤلف عن إثارة مكانة العقل في الاسلام (وهو العاشق للعقل والبرهان وآليتهما) لابد أن يثير بعض التساؤلات عند البعض على الأقل. هل يدل ذلك على أن الكاتب لا يؤمن بأن ما يعطيه الاسلام للعقل من 

حرية غير كاف لإعطاء العقل وظيفته الكاملة في تحقيق عمليات البرهان الناضجة؟ في انتظار الإجابة عن تلك التساؤلات يبقى انبهار الجابري بالعقل البرهاني وآلياته ـ قبل أي نظام معرفي آخر ـ حقيقة لا جدال 

فيها؛ ولعل شدة هذا الانبهار هي التي جعلته لا يولي اهتماماً كبيراً إلى أسباب ظهور النظام المعرفي البياني والعرفان في الثقافة العربية الاسلامية العالمة؛ ولعلّ ذلك الانبهار نفسه هو الذي جعله غير قادر على 

الحديث عن العقل العربي الاسلامي الذي تواجد فيه البرهان مع النص (أو البيان)، جنباً إلى جنب ودون أن يضر هذا بمسيرة العلوم باختلاف أنواعها التي عرفتها الثقافة العربية الاسلامية حتى عهد ابن خلدون؛ 

فالصراع بين البيان والبرهان أو التناقض بينهما، في الثقافة العربية الاسلامية ليس إذن قضية حتمية كمان عرف ذلك تأريخ العلوم الغربية الحديثة منذ عصر النهضة؛ وخاصية العقل العربي الاسلامي العالم هذه لم 

يعتنِ المؤلف لإبرازها وشرح حيثياتها؛ وهي تستحق ـ في نظرنا ـ اهتماماً أكثر في كتاب يركز على أنظمة المعارف للثقافة العربية الاسلامية.

التعليقات