محاكاة أخرى لحياة الأسير الفِلَسطينيّ، تأخذك إلى آفاق رحبة من التّأمّل والتّماهي..

رام الله - دنيا الوطن- مطانس فرح
غادرت مسرح "الميدان"، يوم السّبت الأخير، مُنتشيًا، فخورًا، ومطمئنّـًا إلى حال فنّنا الإبداعيّ المحلّيّ، بوجود بعض الأعمال المسرحيّة المحلّيّة النّادرة، الّتي تهدف إلى النّهوض بالمشاهد وبحركتنا المسرحيّة الفِلَسطينيّة؛ حيث عشت في "الزّمن الموازي"، فترة زمنيّة لا توازي باقي الأزمنة المسرحيّة. فقد استطاع مؤلّف ومخرج العمل المسرحيّ، الشّابّ المُبدع المتميّز بشّار مرقس، أن يعالج ويطرح قضيّة الأسرى، الّتي سبق أن طُرحت على خشبات مسارحنا، بعيدًا عن الشّعارات الوطنيّة الرّنّانة والطّنّانة، لينجح بامتياز في إيصال الرّسالة وإصابة الهدف.

 لم يسقط مؤلّف «الزّمن الموازي» ومخرجه، بشّار مرقس – كما سقط البعض في السّابق – لدى طرحه قضيّة الأسرى الشّائكة، في مطبّ الضّحيّة والجلّاد (الممضوغة والمعلوكة)، بل ارتقى وسما بالعمل من خلال أنسنة الأسير وقضيّته، فدأب على ألّا يجرّده من إنسانيّته، وأن يدمجها بامتياز مع معاناته ووطنيّته؛ ليحاكينا من خلال عمله ويمسّ فينا إنسانيّتنا ويحرّك مشاعرنا ويوقد وطنيّتنا. وذلك لأنّه لم يعتمد على نصوص مسرحيّة جاهزة، بل اجتهد وثابر في دراسة وبحث قضيّة الأسرى، وتعقّب قصّة الأسير الفِلَسطينيّ وليد دقّة، ليختارها قصّة فرديّة يحاكي عبرها قصص جميع الأسرى.

 

لم ينسَ أو يتناسَ بشّار أنّ الأسرى، أساسًا، بشر، لا مجرّد معاناة وأرقام وضحايا؛ لذا نجح بحنكته في أن يحرّر الإنسان المكبوت والأسير داخل الأسير ذاته، رغم عدم تحرير الأسير من أسره. ففي زنزانة أو حجرة سجن واحدة تحمل الرّقم 4، نموذجًا لمئات الزّنازين، استطاع مرقس أن يجمع قصصًا إنسانيّة، لأسرى ينجحون في تحقيق أحلام قد تكون – في نظرنا – صغيرةً وبسيطة، إلّا أنّها كبيرة وسط ظروف الأسر القاسية واللّا-إنسانيّة؛ حيث يعيش أبطالنا عذاب الأسر، ونعيش معهم حكاياتهم الإنسانيّة وأحلامهم، ما بين الحقيقة والخيال، ما بين واقع مرير ممزوج بـ«كوميديا» ساخرة، ما بين محاولة النّسيان ومحاربة عامل الزّمن، ما بين الصّبر والأمل، ما بين وبين..

 

تسلّط المسرحيّة الضّوء على تجربة الأسير «وديع» (هنري أندراوس)، الّذي يخطّط خفيةً، مع مجموعة من الأسرى، لبناء آلة عود، مستخدمًا الآليّات والأدوات المتوافرة داخل السّجن، احتفالًا بزواجه المنشود بحبيبته.. وغيرها من القصص الإنسانيّة الثّانويّة.

 

إنّ المسرحيّة لا تجسّد عملًا وثائقيّـًا أو سيرةً ذاتية للأسير وليد دقّة، بل هي مستوحاة من تجربته؛ حيث استطاع المؤلّف والمخرج أن ينقل جوانب فيها إلى تجربة أكبر من أسير في الزنزانة نفسها، في مسعًى منه لبناء عالم مسرحيّ متكامل، يعكس حياة الأسر من خلال تجربة شخصيّة، لا تخلو من الشّموليّة. لقد استطاع المخرج الشّابّ أن يحمل جميع تفاصيل الأسير الحياتيّة، الإنسانيّة واليوميّة، لينقل لنا المعنى الّذي تحمله الحياة داخل الأسر؛ "فلا يمكن أن نتعاطى معها على أنّها مجرّد قصّة بطوليّة، فأنا اُؤمن بأنّ البطل المجرّد من إنسانيّته يصبح مجرّد "رقم".." – كما يقول بشّار مرقس. وقد نجح المخرج في تخطّي الأزمة، وكسر المتعارف عليه في غالبيّة الأعمال المشابهة، لتكتشف أنّ وراء معاناة الأسير الوطنيّ ونضاله إنسانًا عاديّـًا حالمًا.

 

إنّ مسرحيّة «الزّمن الموازي» لا تطرح قضيّة سياسيّة مسطّحة، بل أسئلة عميقة وإنسانيّة: عن معنى الانتظار، وكيفيّة حفاظ الأسير على توازنه داخل غرفة أو زنزانة، وعدم الانزلاق، وهو يقف عند حافة الجنون.

 

من خلال ديكور بسيط نسبيّـًا، لكنْ مُتقن التّنفيذ، استطعنا التّحرّك والتّنقّل – خلال المسرحيّة – مع الممثّلين، ما بين الزّنزانة، وغرفة الزّيارات، وساحة السّجن؛ حيث شغل الممثّلون المكان وملأُوا الحيّز المسرحيّ، وأضفى كلّ منهم بصمته على هذا العمل المميّز. تمثيل الفنّانين مُتقن وحركاتهم على المسرح مدروسة وليست مجرّدة.

 

ورغم تسليط الضّوء على جانب الأسير الإنسانيّ في هذا العمل، إلّا أنّ المخرج اختار أن يجسّد لنا مقطعًا قصيرًا، لكنّه معبّر جدًّا، لبطل المسرحيّة «وديع»، يذكّرنا من خلاله – إن نسينا أو تناسينا – بالجلّاد والضّحيّة، وبمعاناة الأسرى وعذابهم داخل السّجون الإسرائيليّة، يأخذك إلى أماكن بعيدة – قريبة، ويذكّرك بآلام المخلّص وعذابه، ليصفعك بالحقيقة المرّة من جديد، ويدعك تتساءَل ما إذا كان هناك أمل قريب بالخلاص من هذا العذاب والأسر، فعلًا!

 

إنّه لعمل فنّيّ يستحقّ المشاهدة وبجدارة، لأنّه يجمع بين جميع العناصر الضّروريّة لإنجاح أيّ عمل فنّيّ راقٍ، باعتماده، أساسًا، على قصص واقعيّة، حيث يجسّده لنا طاقم مِهْنيّ ومُبدع من تِقنيّين وفنّانين وممثّلين. إنّه إنتاج موفّق لمسرح "الميدان"، وعمل مُبدع لمؤلّف ومخرج استطاع أن يُخرج بعمله قضيّة الأسرى من إطارها وشعارها السّياسيّ المتعارف عليه.

 

أطالب بالمزيد من هذه الأعمال الفنّيّة الهادفة والرّاقية، الّتي تحمل لمسات إبداعيّة، تمسّكَ وتحاكيك عبر رسائل إنسانيّة ووطنيّة وفنّيّة.. وقد أثبت مسرح "الميدان"، مجدّدًا، باختياره إنتاج هذا العمل، أنّه قادر على تقديم الأفضل.

 

تجدر الإشارة إلى أنّ "الزّمن الموازي" من تأليف وإخراج بشّار مرقس؛ إنتاج: مسرح «الميدان»؛ تمثيل: هنري أندراوس، شادي فخر الدّين، أيمن نحّاس، دريد لدّواي، مراد حسن، شادن قنبورة، وخولة إبراهيم؛ ديكور: يعقوب جريس؛ موسيقى: فرج سليمان؛ إضاءة: فراس طرابشة؛ تصميم وتنفيذ عناصر مشهديّة ("سينوچرافيا"): مجدلة خوري؛ تنفيذ ملابس ومساعدة إنتاج: چريس دعبول.

  

التعليقات