صدام الثقافات والدولة الديمقراطية الواحدة

صدام الثقافات والدولة الديمقراطية الواحدة
بقلم:بكر أبوبكر
اللقاء مع المفكر والمؤرخ اليهودي (أيلان بابيه) صاحب الكتاب الشهير (التطهير العرقي) والذي ينتمي إلى تيار المؤرخين الجدد الذين قاموا بإعادة كتابة التاريخ الإسرائيلي وتاريخ الصهيونية، كان لقاءا هاما أعاد فيه طرح رأيه بضرورة رفض "الاستعمار" الصهيوني لأرض فلسطين، ومشيرا لضرورة عدم التساوق مع الفكر والأهداف الصهيونية التي تصور القضية وكأنها صدام لحركتين قوميتين مشيرا الى أن البداية تقتضي تغيير القواميس وتحريرها من الاحتلال العقلي.

    وكان لي إن ذكرت في الاطار في الندوة الهامة أن المشكلة الحقيقية من زاوية فكرية هي في الثقافة المتصادمة بين (حق) و(باطل)، بين مطلب عدالة ومطلب سحق للآخر، بين اصطفافات لا سبيل لأن تقترب من بعضها البعض فإما أنا أو الآخر.
    فالإسرائيلي اليوم الذي ينهل من "التناخ-التوراة وملحقاتها" والموروث الاستعماري الصهيوني لا يقبل شريكا، لذا فإن الحل المثالي هو بالقضاء على الآخر ماديا بالاحتلال والاستعمار والزحف الجغرافي والتطهير العرقي، والقضاء على ثقافته وعلى روايته بكل السبل.
    استطاع الاستعمار الغربي أن يزرع (اسرائيل) كدولة فاصلة عازلة اقصائية استعمارية في قلب العالم العربي والإسلامي لأهداف باتت معروفة تتلخص بثلاثة رئيسة هي:  الحفاظ على استمرار تجزؤ وتمزق وتفتت الأمة والهيمنة على مقدراتها الاقتصادية والفكرية، وتجنب خطرها، وهي الأمة التي كانت وما زالت تشكل الأرق الأكبر للحضارة الغربية وذلك في نطاق "النظرة الاستعمارية" وما سبقها من "نظرة التوظيف الديني" وما لحقها من نظرة "الهيمنة الاقتصادية والتي تقاطعت مع اهداف الصهيونية الناشئة منذ العام 1881 بما يزيل الازعاج اليهودي عن أوروبا كليا، ويحقق مصالح الطرفين .
     استطاع الاستعمار الغربي أن يرسم قناعات جديدة في العالم جعل فيها من الاحتلال الاستيطاني الاحلالي مقبولا مقارنة بما حصل من نظيره في استراليا وأمريكا وكندا ، ورغم انتهاء عصر الاستعمار وتصالح الشعوب جميعا مع السكان الاصليين إلا ان هذه القاعدة لا تزال  قادرة على الحياة في فلسطين.
    في الموروث وبين الثقافتين المتصادمتين بين الفلسطينيين والإسرائيليين مناهل مختلفة كليا دينيا وتاريخيا وقانونيا وسياسيا، ولنا أن نشير لـ 5 اختلافات رئيسية  فقط :

1.    يقول الاسرائيليون:هذه أرضنا وليست أرضكم ؟ ودون اللجوء لحقيقة منذ متى؟ أو ما هي المساحة المقصودة؟ وأين؟ تصبح فلسطين الانتدابية هي (اسرائيل) التاريخية بطريقة خادعة، فندها الكثيرون وعلى رأسهم (شلوموساند) مؤخرا.

2.    ويقولون: نحن الأقدم وجودا ؟ فلنا ممالك (حقيقة : إن وجدت فهي عربية في مكان آخر وضمن مشيخات صغيرة، ولا علاقة للاسرائيليين اليوم بها)  ، ولنا أنبياء ، وإن كانت هذه الرواية بدأت تتصدع في السنوات الاخيرة مع نشوء مفكرين وعلماء تاريخ وآثار، يسقطون الادعاءات بالقِدَم أو الممالك، من حيث الحجم والامتداد والجغرافيا (المساحة) أو من حيث حقيقة وجودها أصلا في فلسطين، ما تتحراه بكتابات واكتشافات علماء الآثار أمثال (زئيف هرتزوغ) و (اسرائيل فنكلشتاين)، والأبحاث الرصينة للمفكر العربي فاضل الربيعي، وفرج الله صالح ديب، وغيرهم الكثير الذي يدحض مقولات الاسبقية وجغرافيا الممالك المزعومة في أرض فلسطين.


3.    كما يبرز ادعاء أن الاسرائيليين كانوا واستمروا أمة واحدة؟! ومن نسل قديم؟! (أي: انهم امتداد إثني جيني قومي لقوم بني اسرائيل، وهم بالحقيقة-قبيلة اسرائيل- من العرب اليمينيين المنقرضين)، ما دحضه كليا العلم التجريبي والكروموسومات (والجينات).

4.    يفترون أنهم (شعب)؟ فلم يكونوا يوما كذلك ، وما (الشعب) كمصطلح إلا اختراع في القرن الثامن عشر والتاسع عشر(أنظر شلومو ساند في كتابه اختراع الشعب اليهودي) صنيعة المستشرقين وبحّاثة التوراة الغربيين، وكتابات أمثال (أرثر كوستلر) في أصل اليهود الحاليين ترجعهم بوضوح الى منطقة روسيا قرب بحر قزوين.

5.    روايتهم أن وجودهم يقتضي أفناء الآخر (الفلسطيني)؟ ما هو إلا خرافات توراتية تدعو لقتل الآخر وتصفيته، وتدعو لأوهام المهدي المنتظر والمسيح لديهم وقيام الحرب الكبرى. إلا أن السند التوراتي متى ما أطل برأسه تذوب الحقائق وتنتشر الخرافات والأكاذيب حتى في عديد المرويات العربية والإسلامية.

       إن (القِدَم) و(إدّعاء الممالك) وإننا (من نسل بني اسرائيل) أو أننا (شعب) ويجب أن يهلك (الآخر) كمورث ثقافي ما هي إلا عناصر يتربى بها الاسرائيلي على تشرّب العنصرية وممارسة التطهير العرقي بضمير مرتاح، ما يؤسس لحرب طويلة الأمد ، ولتحويل فلسطين الى سجن كبير في غزة وسجون في الضفة كما أطلق عليها (ألان بابيه) إلا إذا ؟ .
    كانت الفكرة الرئيسة في ندوة (إيلان بابيه) هي إقامة الدولة الديمقراطية لليهود والمسلمين والمسيحيين في فلسطين، والتي دون القضاء على الاستعمار الاسرائيلي فيها لن تقوم، فأشرت لصعوبة التغيير في البنى الفوقية (الفكر والوعي والثقافة) التي تحتاج حراكا جادا وتغييرا شاملا وهو بطبيعته كتغيير ثقافي اجتماعي فكري يحتاج زمنا طويلا جدا ، وقد تصبح موازيين القوى على الأرض هي الحكم، فلا نرى تحقق حل الدولتين كما نريد ويصعب علينا الامساك بحل الدولة الديمقراطية على أرض فلسطين.

التعليقات