جامعاتنا ومعضلة التنمية

جامعاتنا ومعضلة التنمية
بقلم: د. فتحي أبومغلي

أولى الجامعات في العالم أُنشئت في الوطن العربي، فهذه جامعة القرويين في فاس التي أُنشئت عام 859 ميلادية، وتلك جامعة الأزهر التي أُنشئت عام 972 ميلادية، بينما جاء إنشاء أول جامعة أوروبية هي جامعة بولونيا في إيطاليا عام 1088 تبعتها جامعة باريس في فرنسا عام 1150 فجامعة اكسفورد عام 1167، ومع ذلك فلا يوجد اي جامعة عربية ضمن قائمة افضل مائة جامعة في العالم.
ولقد لعبت الجامعات بشكل عام دوراً اساسياً في عملية التنمية في بلادها وفي العالم، حيث لم يقتصر دور الجامعات وبشكل رئيسي في أوروبا على إعداد الكوادر الفنية والإدارية اللازمة لعمليات التنمية وإدارة عجلة الاقتصاد بل كان لها دور اكثر أهمية في البحث العلمي وفي تطوير وإنتاج المعرفة، ما ساهم بشكل كبير في تسارع التنمية الصناعية والزراعية وفي التحول الديمقراطي المدني.
فالجامعات تعتبر المنتج الأساسي للمعرفة وتطبيقاتها وهي الركن الأساس في بناء الدولة العصرية التي تعتمد الفكر المستنير، كما ان التعليم الجامعي بما يحققه من فرص لاكتساب المعرفة يلعب دوراً في خلق مناخات التغيير الاجتماعي وفي اكتساب المهارات وامتلاك التكنولوجيا ومتابعة تطورها.
ورغم الدور المميز التي لعبته الجامعات في الوطن العربي منذ بدايات القرن الماضي وبشكل بارز في مصر والعراق ولبنان الا أن هذا الدور قد تقلص وتراجع بشكل ملحوظ في الربع الأخير من القرن الماضي ولا يزال التراجع مستمرا وبتسارع ملحوظ، في نفس الوقت تلعب الجامعات في أميركا وأوروبا واليابان والصين وغيرها من الدول التي سجلت معدلات تنمية متسارعة الدور الرئيس في انتاج المعرفة واستخداماتها في عملية التنمية الاجتماعية والاقتصادية، ولهذا نرى جامعات مثل هارفرد وييل وماساسوشيتس وكامبريدج وأكسفورد وكلية لندن الملكية والمعهد الفيدرالي التقني العالي في زيورخ، ومعهد لوزان وجامعات جنيف وزيورخ وبازل ولوزان وبرن وباقي الجامعات والمعاهد الأوروبية واليابانية والصينية تحتل المراتب المتقدمة في العالم قياساً بما تلعبه من دور في التنمية وما تنتجه من علماء لهم مساهمات في انتاج المعرفة وتطويرها.
ويأتي السؤال المعتاد دائماً وهو لماذا نتخلف عن اللحاق بركب الحضارة الإنسانية وكنا في الماضي من روادها؟ ولماذا تراجع دور جامعاتنا وهي الأقدم والأعرق؟ لماذا توقف دور جامعاتنا في إنتاج المعرفة ونشرها في المجتمع ورفد المجتمع بالكفاءات العلمية والعقول المفكرة والمبدعة؟ الجواب معروف ولكننا دائما نقترب منه باستحياء وأحياناً بخوف، فالجامعات حتى تلعب دورها المنشود تحتاج الى إمكانات وموازنات، فلا يعقل ان تبلغ ميزانية جامعة أميركية واحدة اكثر من مجموع ميزانيات الجامعات العربية مجتمعة كما ذكر العالم المصري احمد زويل الحائز على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1999.
وبالتأكيد، ليس المال هو العائق والمانع الوحيد لتطور جامعاتنا العربية ولعب دورها المنوط بها في دفع عجلة التنمية رغم اهميته، بل ان هناك الاحتلال الإسرائيلي ودوره التخريبي المستمر في خلق وتغذية حالات عدم الاستقرار في الوطن العربي واستعمال وجود هذا الاحتلال من قبل الأنظمة العربية كعامل قمع لشعوبها تحت شعار الأولوية للحشد لصراعنا مع العدو كما كان الشعار في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي.
ولا بد من التأكيد على دور الأنظمة السياسية العربية في قمع الحريات الأكاديمية وفي تسييس الجامعات بل والسيطرة على إداراتها وربط التعيينات والترقيات في الجامعات بالولاء للنظام الحاكم وعدم المحافظة على الكفاءات والعقول المفكرة، بل أدت السياسات الرسمية والتدخل السافر للسياسيين في عمل وإدارة الجامعات وعدم الشفافية في التعامل مع التعيينات والترقيات وانعدام التحفيز المادي والمعنوي الى خلق الإحباطات التي أدت الى هجرة آلاف الكوادر والكفاءات الأكاديمية المبدعة الى خارج الوطن العربي.
ومن الأسباب المهمة ايضاً لتراجع دور الجامعات وتخلفها عن القيام بدورها في عملية التنمية هو إهمال دور الجامعات في الوطن العربي بالعملية الإنتاجية وتطوير الصناعة والزراعة من خلال البحث العلمي ومحدودية الإنفاق عليه او ندرته، كما أدت الزيادة الكبيرة والسريعة في إعدادها الى تدني مستوى التعليم فيها، فلم يكن من المنطقي او الصحي ان يتضاعف عدد الجامعات في الوطن العربي خلال اقل من ربع قرن حوالي ستة مرات ليصل العدد الآن الى ما يقارب من 250 جامعة، بينما كانت لا تزيد في ثمانينيات القرن الماضي على ثلاثين جامعة.
واذا كانت هناك جدية في ان تنهض الشعوب العربية وتجد دورها اللائق في مسيرة التنمية الإنسانية فلا بد من إعادة الاعتبار للجامعات العربية وإطلاق الحريات فيها وتمويلها بشكل لائق، ورفع يد الوصاية والهيمنة عنها وأبعادها عن مصالح السياسة والسياسيين ورفدها بالطلبة الجيدين من خلال رفع سوية التعليم ما قبل الجامعي، وتغيير المناهج الدراسية وأساليب التعليم التلقيني حتى نخلق جيلاً يفكر ويحلل ويناقش ويقرر ويبدع.
إن ربط فلسفة التعليم في كل مراحلة وعلى الأخص في مرحلة التعليم الجامعي بالمفهوم الشامل للتنمية ومنح الجامعات الاستقلالية المالية والإدارية المطلقة هي الطريق الأوحد نحو تمكين الجامعات في الوطن العربي من استعادة الروح التي انطلقت بها، ولعب دورها في دفع عجلة التنمية وتحقيق طموحات الإنسان العربي الذي اصبح عاجزاً وغريباً في وطنه بسبب التخلف الاقتصادي والاجتماعي والفقر والبطالة التي تسحق اكثر من نصف القوى المنتجة من الشباب العربي.

التعليقات