في غزة : قصة حب "أعجوبة" بين شاب وفتاة تغار عليه من "الحور العين"

في غزة : قصة حب "أعجوبة" بين شاب وفتاة تغار عليه من "الحور العين"
رام الله - دنيا الوطن
رندة ابوعكر - غزة ليست فقط خبراً عاجلاً للموت، هناك أيضا قصة "إسلام الهبيل" و"عاصم النبيه"، الخطيبان اللذان يسرقان الحياة بين كل موت وآخر، حتى يُهّربون كلمة حب لا أقل ولا أكثر.

إلا أن إسلام، فتاة فلسطينية عشرينية من النوع الذي تحب فتاها الفلسطيني حيّا أو شهيداً. قالت في إحدى تغريداتها على تويتر:" خطيبي عاصم إن استشهد.. أطالبه بأن يجلس في الجنة بعيداً عن الحور العين حتى قدومي وتحديد الموقف".

عاصم، صاحب العيون الزرقاء يبلغ من العمر 25 عاما يقوم بتغطية الحرب على غزة لـ 138 ألف متابع له على تويتر، وإسلام المحجبة التي تعمل مهندسة بيئية وقد حفظت القرآن الكريم كاملا، تغطي الحرب أيضا لعشرين ألف من متابعيها، وما بين تغريدة وأخرى هناك "نفق" من رسائل الحب الخاصة تتدفق بين صندوقي بريدهما لم يقرأها أحد، بعد أن أصبحت الخمسون دقيقة، وهي المسافة بين منزلهما، تحتاج إلى ساعات من السير ترتفع فيها احتمالات الشهادة.

عاصم يعرف بنفسه قائلا:" لست ملاكاً منزهاً ولا نبياً معصوماً، أتعلم من أخطائي ولا أنكرها، الاعتذار ليس عيبا ولا الحب أيضا". وهي، أي إسلام، تعرف بنفسها قائلة :"أنا مؤقتا في غزة ، قريبا في الـ (الجورة)قريتي التي سُرقت عام 1948 ".

لكل منهما طريقته في التدوين، حيث يملكان مدونة خاصة، الأولى تحمل إسم عاصم النبيه، والثانية اختارت إسلام اسم "مدونة عبق" لها.

 وفي المدونتين، قررا أن يكتبا نصّاً مشتركا أطلقا عليه اسم "أعجوبة الحب والحرب"، يقول عنه عاصم " النص من شقين، كتبت نصفه، وكتبت خطيبتي إسلام شقه الآخر". فيما يلي نصهما المشترك الذي دُوّن من خلال نصين جعل إسلام وعاصم كُلاً واحداً تحت القصف:

أود أن أكتب الآن، تحديدا في هذه اللحظات التي أسمع فيها أصوات الانفجارات وأزيز الطائرات، وأنا أرى أمي جالسة لا تفعل شيئا سوى التحديق في وجوهنا وأبي صامت يسمع الأخبار عبر مذياعه القديم، وجدتي تصلي صلاة العشاء للمرة الثالثة ربما لأنها ترغب أن تستشهد وهي تصلي، أختي نور التي هدم بيتها تحتضن ابنها في الظلام وتهدهد له كي ينام، أختي سمية بدت ذابلة جدا، تحت القصف تشعل شمعة وتقرأ كتاب “رأيت رام الله”لعلها تهرب للكتب رغبة في أن تعيش معانة أقل من التي نعيشها؟ أود أن أكتب لأنني ببساطة أريد أن أكتب، لأنني منذ خمسين يوما وأنا أشتاق لإنسانة اسمها (إسلام) ولأجلها يجب أن أكتب، أو على الأقل أن أحاول الكتابة..

تعود بي ذاكرتي لتلك الليلة القاتمة جدا، ليلة (مجزرة الشجاعية) مجزرة الشجاعية الأولى، أربع عائلات كانت تسكن بيتنا الصغير، الطائرات والمدفعيات تقصف في كل مكان، القصف لم يتوقف، انفجار كل ثلاث ثواني، البيوت تهدم فوق رؤوس أصحابها، المساجد تُنسف، القذائف تقتل الناس في الشوارع، شظايا الصواريخ تضرب جدران منزلنا، سمعنا صوت الناس يركضون هربا من الموت، بعضهم ترك أحبابه خلفه ملقون على الرصيف مضرجين بدمائهم، جيراننا غادروا بيوتهم، للمرة الثالثة يتلقى أبي اتصالا مسجلا يأمرنا بمغادرة المنزل لأن حي الشجاعية تحول لمنطقة عسكرية مغلقة، اتفق الجميع على أن نبقى في بيتنا، زادت وتيرة الإنفجارات أكثر، سمعنا صوت انفجار عنيف جدا، فجأة "إسلام تتصل بك"!

كان الجوال يهتز بيدي وأنا أتساءل ماذا أفعل، للحظة فكرت ألا أرد، بعد ثانيتين فتحت الخط:" السلام عليكم، كيف حالك يا إسلام؟" جاء الصوت من بعيد خائفا جدا بأنفاس متسارعة:" عاصم، يلا اطلعوا من البيت، اطلعوا هلقيت، شو بتستنوا؟ ما ضل حد بالشجاعية، اليهود بقصفوا كل مكان، احنا سامعين الانفجارات اللي عندكم قوية كتير من عنا، كيف عندكم؟ اطلعوا ولا تخوفونا عليكم، تعالوا عنا، أمانة يا عاصم!" صمتُ طويلا قبل أن أرد: "إسلام، ما بنقدر نطلع"!

عمري أربع وعشرون عاما، عشت فيها ثلاث حروب ما رأيت أعنف ولا أقسى من الليلة الرابعة من الهجمة البرية على حي الشجاعية، كنا سبعة وعشرين إنسانا في غرفتين، لا نفعل شيئا سوى انتظار الموت، اتصلتْ بي إسلام ليلتها، لا أذكر ماذا قالت لي أو ما قلتُ لها، لكني أذكر أنها كانت ترى ضوء الصواريخ من بيتها ثم تسمع صوت الانفجار عبر الهاتف يضربنا، في الصباح كانت الانفجارات ما زالت مستمرة، لم نلقي لها بالا فقد شابت قلوبنا، كنا نحدق في عيون بعضنا البعض ونتساءل:" معقول لساتنا عايشين"؟

قريبا كان الموت منا، قريبا لدرجة أننا كنا جالسين ننتظره بهدوء، ننتظره وألسنتنا تقول:" أشهد أن لا إله إلا الله" مع كل انفجار! استمر إرهابهم في الشجاعية أياما، كل الليالي كانت نسخة مكررة من الليلة الرابعة، كلنا كنا متشابهين، وجوهنا الباهتة، قلوبنا المؤمنة، صمودنا الأسطوري، يقيننا بالنصر، أحلامنا بأن نموت معا أو نعيش معا، طريقة حديثنا، ضحكنا المصطنع على نكتة يلقيها أحدنا على أفيخاي أدرعي، ثلاث تمرات كانت سحورنا وعلى ثلاث تمرات كنا نبدأ فطورنا البسيط، نصلي جماعة في البيت، ندعو في كل صلاة، نستبشر كلما سمعنا صوت صواريخ المقاومة، نكبر كلما سمعنا خبرا عن عملية إنزال خلف خطوط العدو ونطير من السعادة عندما نسمع مذيع الراديو يقول: "وعاد مجاهدونا بسلام".

في يوم التهدئة الإنسانية، كنت أنا وإسلام قريبين من الموت هذه المرة، لن أنسى جرأتها عندما زارتنا في ذلك اليوم، ولن أنسى خوفي عليها عندما قام الاحتلال بمجزرة الشجاعية الثانية قبل آذان المغرب فقتل العشرات وأصاب المئات في لحظات، خرجتُ بها من البيت، عيون أمي تودعنا، مشينا مسافات طويلة، خرجنا من الشجاعية والطائرات والانفجارات لم تتوقف، وصلنا إلى بيتها في الطرف الآخر من المدينة، على باب بيتها حدقت بي وقالت: "دير بالك على حالك يا عاصم"!

نص إسلام في "أعجوبة الحب والحرب"
لم نختر الحرب، لكنها اختارتنا.. هي تعلم أنّنا لا نخاف الموت، علمنا أجدادنا ألا نقبل الدنية، ألا نرضى الهوان، وإذا قاتلنا نقاتل حتى آخر بقعة دم، ننتصر أو نموت!

لا تلعنوا الأيام والعنوا الحرب، الفاجعة الأكبر لقلوبنا، كيف علينا أن نصمد في بقعة والحبيب في بقعة أخرى وسط نار الموت ينتظر دوره؟ هل علينا أن نكون أكثر جرأة ونقول لهم حينئذ: اثبتوا بين الموت ولا تخرجوا؟ خمسون ليلة قاسية، أقساها ليلة مجزرة الشجاعية، يوم استيقظنا على صور التدمير والتشريد، كان الصباح باهتا والنساء مهرولات في فزع، يحاولن أن يكن أسرع من القذائف التي تملأ السماء، ولكنهن لم يكن أسرع من غمام الموت الذي كان يظللهم.. أحب هذا الحي وأحب ما فيه وأحب أهله الشجعان الذين يقولون عن حيهم الشجاعية "العاصمة" واليوم بات حبي له أكبر لأن عاصم (خطيبي) من سكانه..

لا أسكن الشجاعية، لكن الصور كانت كافية لتظهر بشاعة المجزرة، كنا نسمع أصوات الانفجارات ونحن في الطرف الآخر من المدينة، اتصلت بعاصم وبمجرد أن فتح الخط قلت له: "عاصم يلا اطلعوا، اطلعوا وتعالوا عنا، القصف قوي كتير وما ضل حد في الشجاعية، أمانة اطلعوا" رد بهدوء:" ما بنقدر نطلع يا إسلام" ثم جعل يهدأ من روعي ويخبرني أن الأمر ليس بالسوء الذي أعتقده، كل شيء كان يقول بأن هناك مجزرة، بل مجازر، وعاصم يصر على البقاء، اتصلت مباشرة بصديقاتي في الحي، إحداهن حدثتني عن عدد الجثث الملقاة على الرصيف والتي اضطرت للقفز من فوقها وهي تهرب، أخرى أرسلت لي رسالة بكلمة "نكبة" واكتفت، ثالثة لم ترد، اكتشفت لاحقا أن هاتفها وقع منها وهي هاربة من الموت، الشيء الوحيد المشترك بينهن هو الهروب من الموت والصمود الذي كتبه أهل الشجاعية بدمائهم..

أذكر جيداً حينما ذهبت للشجاعية في احدى التهدئات القصيرة، تلك المرأة التي جلست بجواري في السيارة وأنا لا أعرفها وبدأت تحدثني عن فرحتها لعودتها لمنزلها، عن شوقها لغرفتها الصغيرة وخزانة ملابس أطفالها، كنت أفكر:"هل حقا بقيت غرفتها الصغيرة؟ وهل حقا نجت ملابس أطفالها؟"، كانت الشجاعية تحاول أن تظهر قوية كما كانت، تمسح دموعها وتبتسم، لكن الله وحده يعلم ما في قلوب المكلومين.. فجأة قام الاحتلال بخرق التهدئة وارتكب مجزرة بشعة ضد المدنيين على بعد 500 متر من منزل عاصم الذي كنت فيه، بدأت الصور تأتي سريعة جدا، أصوات الإسعافات حولنا عالية جدا، خرجت برفقة عاصم بسرعة من البيت، خرجنا نلتمس طريقا آمنا وليس في غزة مكان آمن، كنا نشتم رائحة الموت تخرج من بين أزقة الحي وتنتشر أكثر بين المباني المقصوفة، كنت أنظر لمن حولي بارتباك وكلما رأيتهم يهرولون أسرع شعرت بالموت أسرع وأسرع.. بعد دقائق صارت الشوارع فارغة، لا أحد سوانا يمشي بحثا عن سيارة أو أي شيء يحملنا بعيدا، مشينا طويلا، وصلنا بيتي بعد تعب، وقف عاصم على باب البيت ثم رحل سريعا بعد أن قال: "سلام!" مرت الدقائق بطيئة جدا، أسمع القصف من حولي ولا أعرف ماذا أفعل، بعد 56دقيقة بالضبط وصلتني رسالة: "أنا بخير، وصلت البيت الحمد لله" حينها بكيت كثيرا ونمت..

خمسون يوما، ولازلنا في كل صباح نستيقظ نحلم بمستقبلنا دون ملل أو يأس، لازالت فرح، أختي الصغرى، تلح علينا أن نذهب لنأكل المثلجات، وأختي هديل تريد تعويض (الفسح) التي حرمت منها في إجازتها الصيفية، بينما رِهام تشتاق للجامعة وللدراسة رغم تذمرها منهم دائماً، والدي ووالدتي المعلمان النشيطان ينتظران العودة للمدارس بشوقٍ لم نعهده عليهما من قبل! لازلت وصديقاتي ننتظر العودة للحياة ونقسم ألا نتذمر مرة أخرى من روتينها، كل الحياة ستعود مرة أخرى بكل الحب، ستعود ربما أجمل مما كانت!

صحيح أن شرطي المرور الذي كان يقف على مفترق السرايا لن يعود، وذلك الصحفي الذي اعتدنا متابعة تقاريره لن يعود، وابن عمتي لن يعود، وشقيق صديقتي لن يعود، والسائق الذي كنا نركب معه لن يعود! صحيح أنهم لن يعودوا، لكننا سنعود نحبهم أكثر، سنمر عن أماكنهم التي اعتدنا رؤيتهم فيها ونبتسم في كل مرة، كأنهم ما زالوا هناك.. سنعود لنحب أكثر كما قال لي عاصم، سنرمم أحلامنا التي ضعفت، نبني أيامنا التي قُصفت ونعشق ذكرياتنا التي رحلت! سنعود ويعود الحب أبقى وأكبر، وإني أحبكَ أكثر..