الدكتور تيسير التميمي: هذا هو الإسلام... ولكنكم تستعجلون

رام الله - دنيا الوطننص البيان: 

قال صلى الله عليه وسلم { والصبر ضياء } رواه مسلم ، فعلاً إن الصبر ضياء قلب المؤمن ، فهو وحده الذي يشعّ للمسلم النور الذي يعصمه من التخبط ، وهو الهداية الربانية التي تقيه من القنوط ، وهو ترجمان الصدق والتصديق ، وهو الفضيلة التي يفتقر إليها المؤمن في دينه ودنياه ، يوطّن نفسه على احتمال المكاره والابتلاءات برضا وتسليم ؛ متوكلاً على الله حق التوكل ، ثابتاً واثقاً بفرج الله ونصره مهما اشتدت الكربات والنائبات ، موقناً أن الابتلاء امتحان الإيمان ، قال تعالى { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ } محمد 31 .


وأساس الصبر نظرة المؤمن إلى الدنيا وإيمانه بأنها ليست دار جزاء أو حساب ، بل هي دار امتحان وعمل ، فهي إذن مليئة بالمظالم والآلام لتمحيص النفوس والقلوب ، وما على المؤمن والحال هذه إلا استقبال ذلك بالصبر والتسليم ، وهذا ما كان منه صلى الله عليه وسلم هو والرسل من قبله ؛ قال تعالى { ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا } الأنعام 34 ، فكلهم تعرضوا للابتلاءات والمحن مع تفاوتهم فيها ، لذاكان منهم أولوا العزم الذين قال تعالى فيهم { فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل } الأحقاف 35 وهم سيدنا نوح وسيدنا إبراهيم وسيدنا موسى وسيدنا عيسى وسيدنا محمد عليهم الصلاة والسلام جميعاً .


وأساس الصبر أيضاً ارتباطه بمستوى ودرجة الإيمان ، فمن يدّعي الإيمان يتعرض للاختبار حتى يُعرف صدقه ودرجة إيمانه ، قال تعالى { أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون } العنكبوت 2 ، فالشدائد هي التي تظهر معادن الناس وتنقّي صفوفهم ؛ قال تعالى { ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين } العنكبوت 3 ، فالله سبحانه يبتلي المؤمنين بناء على قوة إيمانهم ؛ فقد سئل صلى الله عليه وسلم { أيّ الناس أشد بلاء قال الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل فيبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان دينه صلباً اشتد بلاؤه } رواه الترمذي ، وفي رواية ابن حبان إضافة : { وإن الرجل ليصيبه.


ومن المتوقع أن يذهل المؤمن إذا حلت به النوازل والمصائب ، وان يتبرم بسبب الآلام التي يتعرض لها ، وأن تضيق عليه الأرض بما رحبت ، ولكنه سرعان ما يستعيد الأساسين المذكورين ويستحضرهما ، فيحاول الخروج من هذه الحالة بالصبر ، قال صلى الله عليه وسلم { ومن يتصبر يصبره الله وما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر } رواه البخاري
والصبر هو دليل عظمة شخصية المؤمن وقوتها ، وعنوان هيمنته على نفسه وامتلاكه زمامها ، وعنوان الرجولة الناضجة والبطولة الفارعة ورباطة الجأش ، فهؤلاء العمالقة العظماء هم الذين ينهضون برسالة الحياة وبمهمة الاستخلاف ، وهؤلاء هم بحقٍّ قادة الأمة وبناتها ، وهم روادها إلى المجد ، وهم رمز خيريتها وشهادتها على البشرية ، قال صلى الله عليه وسلم { من يرد الله به خيراً يُصِبْ منه } رواه البخاري .


أما عن أجر الصبر عند الله فقد قال صلى الله عليه وسلم { يود أهل العافية يوم القيامة حين يُعْطى اهل البلاء الثواب لو ان جلودهم كانت قُرِضَتْ بالمقاريض } رواه الترمذي ، ومع ذلك فليس للمؤمن تمني وقوع البلاء والأذى ، بل أن يسأل الله العافية ، فإذا أصابه ما أصابه يصبر ويثبت ويسأل الله أن يقوي ظهره ليحمل الأعباء والآلام والأسقام ، وليس للمؤمن أيضاً أن يسخط ويلعن البلاء والضرر ، فهي مكفّرات ذنوبه ورافعات درجاته ، وكذلك ليس له الظن بأن الله نسيه فتلاحقت الشدائد عليه ، لا بل إن الله قد أحبه وقربه إليه منازل ربما ما كان ليبلغها بالتفرغ للعبادة ، قال صلى الله عليه وسلم { إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة لم يبلغها بعمله ابتلاه الله في جسده أو في ماله أو في ولده ؛ ثم صبَّره على ذلك حتى يبلغه المنزلة التي سبقت له من الله تعالى } رواه ابو داود .

ولنا في قصص الأنبياء عبرة بصبرهم وثباتهم ، أولوا العزم وغيرهم ، فهذا يوسف عليه السلام قضى معظم مراحل حياته وهو يخرج من ظلم إلى ظلم ، ومن بلاء إلى بلاء ، فمن مرارة اليُتم إلى حسد الأخوة وتآمرهم ؛ إلى ظلمة البئر وذل الاستعباد وكيد النساء وقهر السجن والسجان حتى رفعه الله في الدنيا لمنصب عزيز مصر ، والخاصة من الناس أيضاً لا ينبغي لهم أن يستكينوا في أنفسهم إذا حلت بهم نكبة أو نكسة ، أو حتى إن تكالبت ضدهم الدنيا بمن فيها من المتآمرين والمتخاذلين فهذه الاستكانة تنعكس على وجوههم ومواقفهم ، فقد أراد لهم الكرامة والتكريم ، ورب ضارة نافعة ، ومحنتهم مع صبرهم تحمل فيها المنحة والرحمة والعطية من ربهم سبحانه ، فليس الصبر احتمال الجسم ثقل الأعباء ، بل مغالبة أهواء النفس . والصبر أنواع ، فالصبر على الطاعة ومشقتها ، والصبر على المعصية ومتعتها ، والصبر على النوازل وشدتها :

1- الصبر على التزام أمر الله تعالى واجتناب نهيه ، فبذلك تَخْلُصُ الطاعة ويصح الدين ويستحق المؤمن الثواب وحسن الجزاء , قال تعالى { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } الزمر 10 ، فمن قل صبره على الطاعة لا حظ له من البر ولا نصيب له من الصلاح . ودافع هذا النوع تقوى الله وخشيته ، فمن خاف الله تعالى صبر على طاعته .
2- الصبر على ما تقتضيه أوقاته من مصائب قد أجهده الحزن عليها , أو حادثة قد أضناه الهمُّ بها ، فإن الصبر عليها يثمر الراحة منها , ويكسبه المثوبة عنها . فإن صبر طائعاً وإلاَّ احتَمَلَ همَّاً لازماً وصَبَرَ كارهاً آثماً ، فإن قدر الله واقع ولا مرد له ، قال تعالى " وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا " الأحزاب 38 ، فإن صبر المرء ورضي جرى عليه القضاء مأجوراً , وإن جزع وسخط جرى عليه القضاء مأزوراً . 


3- الصبر على ما فات إدراكه من الرغبات والمسرات التي يرجوها ، قال صلى الله عليه وسلم " وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلتُ كان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان " رواه مسلم . 


4- الصبر فيما يخشى حدوثه من أزمات ونكبات يحذرها ويخشاها , فالأفضل ألاَّ يتعجل همَّاً لم يأت , فإن أكثر الهموم أوهام كاذبة وأغلبها مخاوف ذاهبة ، وخير للمرء ألاَّ يزيد على همِّ يومه همَّ غده , فحسب كل يوم همُّه .


5- الصبر فيما يتوقعه من رغبة يرجوها , وفيما ينتظر من نعمة يأملها ، فإنه إذا بالغ في توقعها والتطلع إليها غلب على ظنه حصولها , فإذا تأخرت عنه أو فاتته دهش وذهل وانقطع أمله وخاب رجاؤه ، وهذا تعلق بالدنيا وضعف في الإيمان . أما إذا كان مع تلك الرغبة وَقُوراً وعند طلبها صَبُوراً انجلت عنه العماية ورُزِقَ نور الهداية ، ومن صبر ظفر . 


6- الصبر على ما نزل به من مصائب ومكروهات ، فهو يفتح آفاقاً من الحلول والآراء , ويسهم في دفع مكائد الأعداء , أما من قل صبره في هذه الظروف العصيبة فيضعف رأيه ويشتد خوفه , ويصبح فريسة همومه وغمومه . قال تعالى على لسان لقمان الحكيم موصياً ابنه { وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ } لقمان 17 . وقال صلى الله عليه وسلم { اعلم أن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً وأن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسراً } رواه أحمد . وعلى من أحب غير الجزاء أن يعد للمصائب قلباً صبوراً ، فأفضل العدة الصبر على الشدة .


أما درجات فأفضلها ما كان عند الصدمة الأولى لعظم المشقَّة حينها ، أما بعد ذلك فيهون الأمر وتخف حدته ، فإن لمفاجأة المصيبة وبغتتها رعب يزعج القلب ويزلزله .
والمؤمن ـ ومن ورائه الأمة ـ لا يخاف المحنة ؛ بل يستبشر بها لأن ثباته قوة يصغُرُ عندها ما يلاقيه من قمع وكيد ، وقد هيأ رسول الله أصحابه لهذه التعبئة النفسية ؛ قال خبّاب بن الأرتّ رضي الله عنه { شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا فقال قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه فما يصده ذلك عن دينه والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون } رواه البخاري .


وفي هذه مثل الظروف والأحوال يكون الصبر عدة المؤمنين ومكمن قوتهم ووحدتهم ، قال تعالى { وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } العصر1- 3 .

إن أهلنا في غزة الأبطال قد ضربوا أروع الأمثلة بالصبر والصمود والثبات أمام أعتى آلة عسكرية في العالم ، صبروا على استشهاد الأطفال والنساء والشيوخ ، وعلى هدم المساجد والمشافي والمدارس والبيوت على من فيها واثقين بنصر الله عز وجلَّ ، غير مبالين بالمتخاذلين والمتآمرين من الأقارب والأباعد والأصدقاء والأعداء والأخوة ، نال شهداؤهم ما تمنوا على ربهم ؛ فهم مشفعون في أهليهم ، وهم أحياء عند ربهم يرزقون ، فرحين بما آتاهم الله من فضله ، مستبشرين بالذين لم يلحقوا بهم من بعدهم ، قال تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ * وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ } البقرة 153-157 . 

لقد تجلى صبرهم الأسطوري في عدم فزعهم أو جزعهم رغم ضراوة الضربات ، وبموقفهم المتقدم على الجميع والذي أبهر العالم فهم الحاضن للمقاومة ومواجهة العدوان الغاشم ، والمؤيد لشروطها والداعم للوفد الفلسطيني الموحد في القاهرة الذي استطاع الثبات على موقفه والتمسك بشروطه في وحدة وطنية فلسطينية كنا نتمناها منذ زمن بعيد ، لتحقيق حقوق شعبنا الفلسطيني بنيل الحرية والاستقلال وإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على ترابه الوطني وان تكون القدس المباركة عاصمتها الدائمة ، قال تعالى { فاصبر صبراً جميلا * إنهم يرونه بعيداً * ونراه قريباً } المعارج 4-6 .

التعليقات