رسالة من غزة...لقيادة غبية في تل أبيب

رسالة من غزة...لقيادة غبية في تل أبيب
·        بقلم:د.جميل جمعة سلامة

رئيس مركز فلسطين للدراسات القانونية والقضائية

اليوم الأول من شوال عيد الفطر المبارك فاتحة شهر هجري جديد يطوي معه صيام شهر رمضان الكريم الأكثر قدسية لدى الفلسطينيين الذين يدين السواد الأعظم منهم بالإسلام دينا , ومعه تدخل الحرب المسعورة التي تشنها القيادة الاسرائيلية على شعبنا الفلسطيني وفي قطاع غزة تحديدا أسبوعها الرابع , حرباً غير مسبوقة وقودها الرئيسي المدنيين العزل من أبناء شعبنا في سابقة غير مألوفة في الحروب السابقة وحجم المجازر المهولة التي ارتكبتها قوات الاحتلال في انحاء متفرقة من قطاع غزة سيما في حي الشجاعية بمدينة غزة وبلدة خزاعة في محافظة خانيونس ومناطق أخرى وما صاحب ذلك من هدم للمساجد ودور العبادة و المستشفيات والمدارس كشفت عن عقلية صهيونية دموية وإجرامية وإرهابية تحكم جيش لا اخلاقي ونظام سياسي يمارس ارهاب دولة بكل معنى الكلمة، عقلية لا تقيم للقانون الدوليالإنساني - وفي المقدمة منه اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب - اعتباراً ، ولا للقيم الانسانية مكانةً ، ولا للضمير البشري مراعاة ، حتى قوانين دولتها التي تشرعها والتي تنص على تفريد الجرم وعقوبته لم تلق لها بالاً وداست عليها بجنازير دباباتها ومدفعيتها وسلاح جوها واستبدلتها بسياسة العقاب الجماعي الواسع ولا زالت الحرب مستمرة ويعلم الله  وحده ما ذا تخبئ الأيام القادمة من مآسي وآلام ودماء وأشلاء ، والسؤال الذي يطرح نفسه الان مـــاذا بعـــــد ؟! ومتى تنتهي هذه الحرب الدامية؟ وماذا يريد أطرافها ؟

مما لا شك فيه أن الحروب في تاريخ البشر هي أداة ووسيلة ولم تكن يوما هدفا وغاية وهي طريق يسلكها الخصوم والفرقاء عند تعذر حل خلافاتهم ونزاعاتهم بمعزل عن الحلول الودية والسلمية وحتى القانونية والقضائية وهذا هو حال هذه الحرب (المعركة) ، ان كلا طرفي هذا النزاع اسرائيل والمقاومة الفلسطينية بفصائلها المختلفة وفي مقدمتها حركتا حماس والجهاد الاسلامي قد جعلت لها هدفا،وهدف المقاومة رفع الحصار نهائيا عن قطاع غزة وفتح معابر القطاع الذي بات سجناً كبيرا لسكانه وبيت عزاء دائم لمواطنيه وتعتبر ذلك الحد الادنى للغزيين للعيش بكرامة انسانية أسوة بسائر شعوب المعمورة فيما اسرائيل تعلن أن هدفها هدم الانفاق التي تحيط بحدودها مع القطاع ووقف اطلاق صواريخ المقاومة التي تهدد أمن وسلامة الاسرائيليين، اذن الأمر صراع ارادات بين الجانبين ولكن ترى هل هذا كل ما يطلبه كل طرف أو بمعنى اخر هل يشكل هذا سقف كل منهما، و الاجابة بالتأكيد لا، اذ لا يمكن فصل مطالب الفريقين بمعزل عن السياق العام لهذا الصراع التاريخي و الشائك و المعقد بينهماولا يمكن أيضا اعتبار هذه الحرب  الجولة الفيصل بينهما، فهذه الحرب ليست الأولى و بالتأكيد لن تكون الاخيرة في صراع مفتوح بين الجانبين حتى ينال شعبنا حريته واستقلاله و قيام دولتنا المستقلة ذات السيادة و العيش بكرامة كاملة للفلسطينيين، هذا هو لب الصراع و جوهره و مربط فرسه و أي قفز عن ذلك لن يجلب سلاما او استقرارا حقيقيا للاسرائيليينوللمنطقة عموما.

ان تجربة أوسلو-التي كانت في تقديري- شركاً سياسيا لقيادة منظمة التحرير الفلسطينية و استدراجها الى نفق سلام مخدوع مع سبق الاصرار والترصدأوهم الفلسطينيين بكينونة سياسية على الارض كنواة لدولة و استقلال موعود لم يكن الا وهما يحمل في احشائه حكما ذاتيا اداريا محدودا على السكان دون الارض لتتحول السلطة الوطنية الوليدة الى أونروا unrwaجديدة فقط، وهو ماتفطن له متاخراًالشهيد ياسرعرفات- رحمه الله- فقلب الطاولة على الجميع و دفع حياته ثمنا لذلك، و جاء أبو مازن ليعيد الطاولة لسيرتها الاولى مع أمل جديد أن ينجح فيما أخفق فيه سلفه من خلال سياسة تفاوضية جديدة وبقفازات حريرية، حينها صرحت أن ما فشل به ياسر عرفات لن ينجح فيه أبدا محمود عباسوهذا ما كان باعتراف أبي مازن نفسه و كبير مفاوضيه صائب عريقات الذي اختزل مسيرة التفاوض بنتيجة واحدةbig zero أي صفر كبير في كتابه "الحياة مفاوضات "، هذا كان نتيجة السلام الاسرائيلي القائم على غير العدل و المجبول بروح الخداع و التسويف فماذا كانت النتيجة والمخرجات؟!صواريخ تصل المجدل و اسدود و تل ابيب و حيفا و ايلات... و غيرها من مدن العمق الاسرائيلي وانقلب السحر على الساحر.

فسلام المستوطنات وتسمينها، وسلام تصنيف الأرض لـ أ - ب - ج ، وسلام الحواجز ،وسلام الجدار العزل ، وسلام السيطرة على المعابر، وسلام مصادرة الاراضي وتدميرها، وسلام السيطرة على مياهنا الاقليمية، وسلام طائرات الاستطلاع الدائمة في سمائنا، وسلام تدنيس مقدساتنا، وسلام الحكم الذاتي الدائم ، وبايجاز سلام الذل والمهانة ..... لن يقبل به الفلسطينيون ولن يكون أبدا.

قبل عدة سنوات و في خضم العدوان الاسرائيلي والاعتداءات المتواصلة على قطاع غزة كنت في زيارة للعاصمة البريطانية لندن شاركت على هامشها في عدة مسيرات كبيرة داعمة للحق الفلسطيني امام مقر الحكومة البريطانية الكائن في شارع 10 داونينق ستريت (dawning street10) رُفعت في أضخمها شعارات عديدة لعل أبرزها والذي لفت انتباهي وتوقفت عنده شعار (no justice no peace in Palestine (أي لا عدل لا سلام في فلسطين،و هو شعار ليس عاديا او عابرا انما شعار عميق و عميق جدا في دلالته يحمل فلسفة النجاح الحقيقي لاي حل للقضية الفلسطينية،فاي سلام غير قائم على العدل لا طريق له للنجاح عاجلا ام اجلا و هو شعار لم يفهم الاسرائيليون و قيادتهم دلالته و مغزاه وهو نوع من الغباء والغباء المطلق في تقدير نواميس الكون ومنطق الحياة وتحولات التاريخ .

نتنياهو يريد لشعبه مكاناً تحت الشمس كما عبر عن ذلك في كتابهunder the sun )place ) أي مكان تحت الشمس و نسي ان الشمس هي ملك للانسانية جمعاء و أن الفلسطينيين هم جزء هذه الانسانية و ان اشعة الشمس هي مشاع للناس جميعا في هذه المعمورة وأن الفلسطينيين المهجرين والمظلومين هم أحق الناس وأجدرهم بها ، في هذه الحرب المجنونة يريد نتنياهو شمسا صافية لمواطنيه و يريدحمما و قذائف و صواريخ  للفلسطينيين ظانا ان تقمص دور الضحية و الدفاع المشروع عن النفس في اطار خداع اعلامي دعائيوالمعروف بـ ((propagandaوتضليل سياسي و دبلوماسي يؤهله لكسب المعركة و انهائها من جانب واحد لهو غباء أخر.

الصراعات الكبيرة لا تحسب بالحروب ولا باعداد القتلى " الشهداء" و الجرحى و الخسائر المادية و تدمير المنازل على رؤوس ساكنيها و تدمير الممتلكات و قصف المساجد و المشافي و حتى مدارس الاونروا لكنها تحسم بكسر الارادات ، و محطات الصراع الفلسطيني الاسرائيلي المتتالية تظهر بشكل لا يقبل المواربة أن ارادة الفلسطينيين لم تنكسر بل ازدادت صلابة و ازدادت اصراراً على قطف ثمار حركة تحررهم الوطني و تجسيد دولتهم و استقلالهم الكامل و بسيادة كاملة و بمفهومهم و ليس بمفهوم اسرائيل القائم على سياسة تفاوضية عقيمة جوهرها الخداع والقفز على الحقائق وتفتيت المفتت و تجزئة المجزأ واذلال الفلسطينيين وتقزيم طموحاتهم الوطنية، ان عدم ادراك اسرائيل لهذه الارادة المهولة غير القابلة للانكسار وبالعكس تجذرها هو نوع أخر من الغباء أيضاً.

ان هذه الجولة من الصراع كشفت عن مدى احتضان الشعب الفلسطيني لمقاومته التي تشكل رأس الحربة لطموحه الوطني، و ان جود الشعب الفلسطيني في سبيل ذلك بأبنائه و امواله و ممتلكاته و منازله و تشرده و تهجره و غيرها من اشكال الضنك و العذاب و الالام في سبيل نيل حريته بشكل تام لهو أكبر برهان ودليلعلى ذلك، والقيادة الاسرائيلية لا تدرك ذلك بل لا تريد ادراك ذلك وتوهم نفسها بأن حربها النفسية والاعلامية الحالية تضع جدارا بين الشعب وحركة تحرره الوطني في مشهد غبي لا يستوعب أن الحياة بلا حرية وكرامة رخيصة ولا تعني شيئا لشعبنا.

حماس ليس نبتة شيطانية وليس هنوداً حمراً في فلسطين ،حماس جزء عريض واصيل من شعبنا لها رصيدها في المقاومة والسياسة ولها شرعيتها الثورية والديمقراطية ،والحال ذاته لحركة الجهاد الاسلامي ، القضية اليوم وبالأمس وفي الغد ليس حماسا او جهادا ، انما القضية قضية الشعب الفلسطيني كل الشعب الفلسطيني ، وان تصنيف الفلسطينيين الى ارهابيين ومواطنين سخافة سمجة ولي عنق للحقيقة لا تنطلي على أحد فلسطينيا ودوليا ، وانما هي فذلكة صهيونية مكشوفة ومستهلكة و ممجوجة بل وبالعكس ستأتي بنتائج عكسية تجعل الفلسطينيين ينظرون لحماس والجهاد وفصائل المقاومة الأخرى بنوع من القداسة و التبجيل باعتبارها الأمينة على تحقيق طموحاتهم وآمالهم بعد أن أتخموا احباطا من مسار تسوية ومفاوضات لسنين طويلة لم يجلب لهم الا الوهم والمهانة والاذلال ، ولعل صدق ذلك ما عبر عنه أحد قادتهم الجنرال أيهود باراك الذي صرح ذات مرة أنه لو كان شابا فلسطينيا يعيش واقع شعبه وقضيته لأنضم مبكرا لأحد فصائل المقاومة الفلسطينية .

في القانون الجنائي الوطني والدولي على حد سواء هنالك علم الاجرام والعقاب الذي يشرح بواعث الفعل وعقابه الفردي ، اسرائيل اليوم –في صورة معكوسة لذلك- تتجاوز بواعث المقاومة الفلسطينية الوطنية وتعمم العقاب الجماعي بمجازر العوائل الفلسطينية متذرعة برسائل تحذيرية نصية وهاتفية أقرب الى تحايلات صبيانية على العدالة الجنائية التي يسعى لها الشعب الفلسطيني و مجلس حقوق الانسان في جنيف الذي شرع في التحقيق في جرائمها كدولة مارقة و متمردة على القانون والقضاء الدوليين .

وأريد أن اسال قيادة الاحتلال ماذا ستجنون من وراء هذه المحرقة وهذه المجازر اليومية ؟! ثقوا انكم لن تجنون سوى خلق جيل جديد حاقد وموتور عليكم ،جيل متشبع حتى الثمالة بباعث حمم الثأر ولا يرى فيكم الا شيطانا رجيما ينبغي رجمه يوميا لا موسميا في رحلة الحج الى الجهاد المقدس ولسان حال هذا الجيل لسان حال الامام الجزائري عبد الحميد بن باديس في رده على غزاة بلاده من الفرنسيين " والله لو قالت لي فرنسا قل لا اله الا الله ما قلتها" .

ان مراهنة الاحتلال على الحاق هزيمة ماديةبالشعب الفلسطيني قد تكون واردة أما الرهان على اتباعها بهزيمة معنوية و كسر ارادته فهو رهان خاسر و نوع اخر من الغباء و هو ما ادركه الامين العام للأمم المتحدة بان كي مون في تصريحه اليوم بان ما يحدث في غزة مرده رغبة الشعب الفلسطيني في الانعتاق من الاحتلال والحصار،ان هذه الحرب المجنونة خلقت تلاحما بين كافة فئات شعبنا و فصائله السياسية و بين مسلميه و مسيحييه حيث فتحت الكنائس لصلوات المهجرين المسلمين و تقاسم الفلسطينيون لقمة العيش و شربة الماء في مشهد فريد عنوانه : اما العيش بكرامة وحرية أو الموت بشرف وشهادة .

          كشفت امكانيات المقاومة الفلسطينية العسكرية تطلع الفلسطينيين لامتلاك ناصية القوة لحمل عدوهم على الاستجابة لطموحاتهم و مطالبهم بعد ان خذلهم العالم الحر و الشرعية الدولية و اظهرت بشكل واضح ان قوة الحق غير كافية لانجاز الحقوق ما لم تكن مدعومة بالحق في القوة و امتلاكها في مجتمع دولي لا يحترم الا الاقوياء الذين يدوسون باحذيتهم جهارا نهارا الشرعية الدولية و ميثاق الامم المتحدة و احكام القانون الدولي فصواريخ المقاومة الفلسطينية و صلابة رجالها رصاصات في وعي و عقل القيادة الاسرائيلية السياسية و العسكرية و الامنية على حد سواء وان الزمن الاسرائيلي السيد قد انتهى و تم التمرد عليه و ان الفلسطينيين لا يمكن الالتفاف سياسيا و عسكريا على آمالهم وأهدافهم و ان التهرب منها و ممارسة الخداع بانواعه تجاهها هو طريق الدماء و الاشلاء و الدمار  للجميع و ان اقصر الطرق للسلام و الامن و الاستقرار هو رد الحقوق لاصحابها و التسليم بحقوق شعبنا في الحرية والاستقلال وتقرير المصير و احترام الشرعية الدولية و ارادة المجتمع الدولي التواقة لانهاء اخر احتلال في التاريخ وسوى ذلك اضغاث أحلام.

ان هذا الطريق الغبي و المتعالي الممزوج بالعجرفة و التسامي على الغير الذي سلكه الاستعمار الأمريكي في فيتنام و اليابان و الانجليزي في الهند و العديد من الدول الأخرى و النازي في اوروبا والفرنسي في الجزائر و الروسي في افغانستان ... وغيرها من البلاد الاخرى قد أثبت فشلا و فشلا ذريعا و انتصرت ارادة هذه الشعوب على قهر و جبروت و قوة جلاديها بعد ان بددت عقودا طويلا و دماء كثيرة و امكانيات هائلة و خاضت حروبا مدمرة ، فهل سيكون الاحتلال الاسرائيلي استثناء عن ذلك؟! هذا ما ينبغي ان تجيب عنه القيادة الغبية في اسرائيل .

يقول القائد الألماني الشهير بسمارك " الاغبياء هم من يتعلمون من اخطائهم أما أنا فأتعلم من اخطاءالاخرين"والاحتلاللا يريد ان يتعلم من تجارب وأخطاء من سبقوه وأخرهم تجربة الاستعمار الأبيض في جنوب أفريقيا  السوداء.

نقول لهذه القيادة الغبية: هنالك أكثر من مانديلا في فلسطين ، لكن لا يوجد دي كليرك اسرائيلي واحد حتى الآن.

التعليقات