كي لا تذهب دماء الشهداء هدراً

كي لا تذهب دماء الشهداء هدراً
بقلم / كمال أو شاويش

لا يكفي وحده الترحم على شهدائنا الأبرار، الذين سقطوا خلال العدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة، فقد خلّفت هذه المعركة الأخيرة –ضمن ما خلفته- مجموعة من الدروس المستفادة، علينا أن نتلقفها، كي لا تذهب دمائهم هدراً.

      أول هذه الدروس أن نتعلم كيف نقارع الاحتلال في أروقة القضاء الدولي، كما قارعه شعبنا خلال العدوان الأخير وفي كل معارك الصمود السابقة. فقضية شعبنا عادلة، لكنها بحاجة لمن يقدمها بشكل مقبول للمجتمع الدولي؛ باعتبار الاعتداءات الإسرائيلية جرائم حرب بحق الإنسانية، وفقاً للقانون الدولي الإنساني. وينبغي هنا على القيادة الفلسطينية تفعيل مبدأ التدخل الإنساني، لحماية شعبنا من الانتهاكات المستمرة على الأراضي الفلسطينية المحتلة، والعمل على تدويل القضية الفلسطينية، بما يوفر غطاءً دولياً، يعيد طرح المشكلة الفلسطينية أمام الأسرة الدولية، وإيجاد حلول لها وفق قرارات الشرعية الدولية، ويسهم في عزل إسرائيل دولياً.   

فلم يعد مقبولاً أن يواجه شعبا هذه الآلة العسكرية، على مرأى ومسمع من المجتمع الدولي دون أن يحرك ساكناً، لقد آن الأوان لاتخاذ خطوات جريئة وفورية تجاه انضمام دولة فلسطين للمعاهدات والاتفاقيات الدولية، والتخلي عن سياسة التدرج في الانضمام لتلك الاتفاقيات، باعتبارها الرد الطبيعي والمناسب على حكومة نتنياهو العنصرية؛ فلا معنى للاستمرار في التلويح بورقة الانضمام للاتفاقيات والمعاهدات الدولية، التي تتيح لشعبا محاكمة قادة إسرائيل، بينما لا نفعل ذلك، كي لا تتكرر خطيئة تقرير "جولدستون" بعد العدوان الإسرائيلي (2008-2009).  

وهنا، ينبغي أن نمتلك الجرأة للقول بأن إدارة الصراع مع العدو الصهيوني لم تعد صالحة، وفقاً للنتائج المتاحة، فلا عملية التسوية قد أسفرت عن شيء، ولا المقاومة بلا أفق سياسي قد تحقق شيء. إننا بتنا اليوم بأمس الحاجة لاعتماد إستراتيجية شاملة للتحرر الوطني، تكون واقعية وقابلة للتطبيق على الأرض، تتناسب مع الظرف الوطني والإقليمي والدولي الراهن، بعد أن تم نعي عملية السلام. إستراتيجية يتناغم فيها العمل الميداني (الشعبي والمسلح)، مع العمل السياسي والدبلوماسي، ويتفق فيها الجميع على الأهداف والتكتيكات المناسبة، وتتوزع فيها الأدوار وتتكامل، مع استحداث وسائل نضالية فعّالة، تُعيد القضية الفلسطينية إلى صدارة الأحداث في المنطقة والعالم، وأن لا يحتكر قرار الحرب والسلام فصيل سياسي بعينه، وإلا فسنظل ندور في نفس الحلقة المفرغة.   

وكي لا تذهب دماء الشهداء هدراً، يجب أن نستدعي الدرس التاريخي الذي تعلمناه في مراحل الدراسة المبكرة (تأبى العصي إذا اجتمعنا تكسراً .. وإذا تفرقت تكسرت آحادا). فلا معنى لاستمرار حالة الانقسام بعد شلال الدم الذي نزف، مخلفاً مئات الشهداء، وآلاف الجرحى والمصابين، علاوة على هدم المنازل والمؤسسات والمساجد، خلال أيام العدوان، ولا معنى لاقتصار عمل حكومة الوحدة الوطنية على المحافظات الشمالية (الضفة العربية) دوناً عن المحافظات الجنوبية (قطاع غزة). فقد تجاوز طرفي الانقسام مرحلة صعبة من الحوار الوطني، لصالح الاتفاق على حكومة الوحدة الوطنية، إلا أن إجراءاً واحداً لم يتم على الأرض ليترجم تلك المصالحة. ولا شك بأن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة قد جاءت كرد فعل على المصالحة الفلسطينية، لتقويضها وتفريغها من مضمونها، وبالتالي من باب أولى أن يتم تعزيز المصالحة واقعاً على الأرض، والبدء الفوري في تنفيذ بنود اتفاق غزة، وفق المرجعيات السابقة (اتفاقيتي القاهرة والدوحة). ما هو مطلوب إذن، هو حكومة واحدة، ذات سيادة على كل محافظات الوطن، تشرع بإعادة هيكلة وترتيب أوضاع الوزارات المختلفة، وتباشر عملها عاجلاً في قطاع غزة. 

      ولا شك أن سنوات الانقسام قد خلفت ورائها المئات من القضايا الاجتماعية والاقتصادية، التي يعاني منها سكان قطاع غزة، ليس أقلها ارتفاع نسبة البطالة وتردى مستويات التنمية بشكل ملحوظ، مقارنة بمحافظات الضفة الغربية، وما يتسببه ذلك من حالة يأس وإحباط عام، يؤدى لاختلالات وتشوهات واضحة في منظومة القيم الوطنية والاجتماعية للشعب الفلسطيني. وعندما تنتهي المعركة، سيتكشف لنا حجم الدمار والخسائر التي خلفها العدوان الإسرائيلي الأخير على أهلنا في قطاع غزة، ليضاف لجملة الخسائر المتراكمة منذ سنوات. لذلك، فإن أهل القطاع يتطلعون بشغف لتلك اللحظة التي يبدأ فيها دولاب العمل الحكومي بالدوران، لتحسين تلك الظروف المعيشية، وتعويض محافظات القطاع عما فاتها من دعم خلال السنوات السابقة.  

      وهنا يجب على حكومة الوحدة الوطنية أن تضطلع بدورها في رفع الحصار عن قطاع غزة، وفتح المعابر واستلام مسؤولية إدارتها، فلا يعقل أن يظل أكثر من 1,7 مليون فلسطيني تحت الحصار والإغلاق. وكذلك عدم التعامل مع سكان قطاع غزة باعتبارهم فائض بشري، أو حمولة زائدة، كل ما يربطهم بمؤسسات السلطة الفلسطينية هو الراتب الشهري فقط، بحيث أصبح السواد الأعظم من سكان القطاع، مجرد عاطلين عن العمل والإنتاج، سواءً مَن يتقاضى منهم أجر، أو من لا يتقاضى. إن الاستمرار في سياسة إدارة الظهر لقطاع غزة، وهموم سكانه، سوف تفضي إلى حالة قد لا يُحّمد عقباها.

وخلاصة القول، إن الوفاء للشهداء لا يكون بالترحم عليهم فقط، بل يستتبعه متطلبات كثيرة؛ وطنية واجتماعية، كي لا تضيع تضحياتهم سدى، وكي تستمر الحركة الوطنية نحو أهدافها المشروعة. ولم يعد الشعب الفلسطيني أمام ترف الاختيار بين ممكنات عدة، إننا أمام خيارين لا ثالث لها: إما أن نكون أو لا نكون، وقد اخترنا أن نكون. هذا هو قدرنا .. ونحن سعداء بهذا القدر.

التعليقات