وداعاً غابيتو

وداعاً غابيتو
بقلم : محمود حسونة

وداعاً غبراييل غارسيا ماركيز ، وداعاً يا أكبر كولومبي في التاريخ .
( هناك دوماً يوم الغد ، والحياة تمنحنا الفرصة لنفعل الأفضل ، لكن لو أنني مخطئ وهذا هو يومي الأخير، أحب أن أقول كم أحبكم ، وأنني لن أنساكم أبداً )
حياة كثيفة غنية مشبوبة بحب الإنسان للإنسان إلى حد تثويره ، كثمن شريف لنضال إنساني تاريخي ، ما أجملك غابيتو وأنت تقاوم بالحب حتى آخر لحظة ، وتمضي وأنت توزع الورد والحب ، رغم الدم النازف الناعم من ثقب أحدثه الحب في قلبك الرهيف ، وأنت تقاوم الكره وتغازل القلوب ، إذن فأنت شهيد !! 
تقول يا غبرائيل : ( حافظ بقربك على من تحب ، اهمس في أذنهم أنك بحاجة إليهم ، أحببهم واعتني بهم ، وخذ ما يكفي من الوقت لتقول لهم عبارات مثل : أفهمك ، سامحني ، من فضلك ، شكراً لك ، وكل كلمات الحب التي تعرفها) 
شكرا غبراييل غارسيا ماركيز، لم يكن لك أن تكتب هذا الجميل ، إلا لأنك تحب الإنسان حتى وأنت في رعشة الرحيل الأخيرة .
أما أنا فأقول إياك أن تسأل من تحب إن كان يحبك ، لأن الحب يكون بلا ثمن ، فالحب هبة مدفوعة من الأعماق ، فهذا فعل الحبِّ الحقيقي ، ولا معنى له بغير هذا ، وإلا يصبح الحب قيمة تبادلية ، لا قيمة إنسانية له ، الحب تدفق طوعي بلا خوف وجبن ، ودورنا أن نحب دائما بل مقابل . 
غبراييل : ( يا إلهي… إذا كان مقدراً لي أن أعيش وقتاً أطول، لما تركت يوماً واحد يمر دون أن أقول للناس أنني أحبهم ، أحبهم جميعاً ، لما تركت رجلاً واحداً أو امرأة إلا وأقنعته أنه المفضل عندي ، كنت عشت عاشقاً للحب ) 
لا تجبن في البوح بالحب والتصريح عنه ، فالخشية من البوح بالحب تعذب الروح ، ولا تعتقد أن الحب للأنثى فقط ، فأنت بذلك تحشر الحب في زاوية ضيقة بمنظور شهواني مراهق ، فهو أشمل مما تظن ، فالحياة تجود بسحرها بالحب لكل الناس ، لا تتردد في الحب للجميع ، فالحب حزمة واحدة إذا تفككت بهت وضاع سحرها ، لقد خلقه الله ليظل مشبوبا أبداً ، إن كنت توافقني فدع الكره ، وانطلق في براح الحب بلا حواجز ولا حدود .
غبراييل : ( آه لو منحني الله قطعة أخرى من الحياة لكنت كتبت أحقادي على قطع الثلج وانتظرت طلوع الشمس كي تذيبها ) سلام لك غبراييل ، هنا بالتحديد قيمة الإنسان المتسامح ، كل لحظة هي الفرصة الأخيرة للحب ، ونزع الحقد إذن ، لا ندري أنا و أنت متى يتم الاغتيال المباغت ! ولا أحد يثق بمجيء غده ، لكن الغد آتٍ رغما عنّا بالتأكيد ، فلتكن وصيتك الأخيرة لمن تحب أن يحيا بحبك المتقد حتى بعد الرحيل ، لتمض مطمئنا وأنت تعانقه وتقبّل وجنتيه الخجلى ، وسيشكرك كثيرا على الذخيرة النبيلة التي وهبتها لمواجهة الشرور . 
غبراييل : ( الغد يأتي دائماً، والحياة تعطينا فرصة لكي نفعل الأشياء بطريقة أفضل )
المثرثرون كثيرون ، ما أكثرهم وأكثر كلامهم ، لكني لا أصمت حين يتكلمون ، لا أصمت إلا لمن كانوا مثلك محبين وعشاقا للإنسان وثوارا ، أما أولئك المثرثرون فيولدون صغاراً وينتهون صغارا ، أما أنت غبراييل فتموت ثائرا لا ممددا ، ألم تقل ؟ : ( لو وهبني الله حياة أطول لكان من المحتمل ألا أقول كل ما أفكر فيه، لكنني بالقطع كنت سأفكر في كل ما أقوله ، كنت سأقيّم الأشياء ليس وفقاً لقيمتها المادية، بل وفقاً لما تنطوي عليه من معان ) أنا أشعر بشعورك أيها الإنسان ، واسمح لي أن أكون مثلك غبراييل غارسيا ماركيز، إنّ الحياة منذ الولادة وحتى الرحيل هي ثورة ، ثورة حب وعمل ، على الكره وطواغيت المال الذين لا يألفون إلا بريق النقد ، ولا يستمتعون بلحن الطبيعة ، بل بسحق الإنسان و تسلق أجساد الفقراء ، علمهم يا غبراييل معنى الحب الدافئ للإنسان ، ما أشجعك وأنت تقاوم وتقول لهم ولنا !! لماذا نفعل ذلك ؟؟ ( لو كنت مخطئاً وكان اليوم هو فرصتي الأخيرة فإنني أقول كم أحبك ، ولن أنساكم أبداً ، ما من أحد، شاباً كان أو مسناً ، واثق من مجيء الغد ، لذلك لا أقلّ من أن تتحرك ، لأنه إذا لم يأت الغد ، فإنك بلا شك سوف تندم كثيراً على اليوم الذي كان لديك فيه متسع كي تقول أحبك ، لن تبتسم لأن تأخذ حضناً أو قبلة أو تحقق رغبة أخيرة لمن تحب ) 
ولأن أحدا لا يعرف لحظة الفراق ، ولا لحظة الوداع المباغتة التي لا تستأذن فلنحب بعضنا طوال الوقت ، فقد يسمح لنا ذلك بحراسة الروح ( عبّر عمّا تشعر به دائماً ، افعل ما تفكر فيه.. لو كنت أعرف أن هذه ستكون المرة الأخيرة التي أراك فيها نائماً ، لكنت احتضنتك بقوة ، ولطلبت من الله أن يجعلني حارساً لروحك )
لا يمكنني إلا أقول مثلك ، لكل الناس أحبكم جميعاً ، لكنني أرفض الاستسلام المهين للطواغيت والمتجبرين الصغار ، الذين لا يسمعون الأنين ، ويصنعون الموت ولا يطيقون الحرية والحياة للناس ، لست أدري ربما أقولها بقوة لأنني لست مثلك في معركة الموت ، ولكنني أعتقد أن ما أ قوله صحيحاً ، لذا يجب أن أقوله : علمهم حين يموت الحب يموت القلب ، ليصبح حضور الإنسان جثمان ، ما أكثر موتى الأحياء ، فالموت الحقيقي في الجشع و الحقد .
( كنت سأثبت لكل البشر أنهم مخطئون لو ظنوا أنهم يتوقفون عن الحب عندما يتقدمون في السن ، في حين أنهم في الحقيقة لا يتقدمون في السن إلا عندما يتوقفون عن الحب )
كم هو وضيعٍ من يلتهم أكوام الأكل على الموائد ويتضخم حتى يتقيأ آدميته ، هؤلاء لن يخلفوا للإنسانية سوى الحقد و الفقر، لا يليق بي أن أشتم أحداً في حضرة رحيلك الأبدي ، لكن عذرا جبرائيل ، ولأنهم كانوا أحد أسباب رحيلك : استمعوا أيها الصغار : أنتم ستهرمون سريعا ، وستموتون ضعفاء ، لأنكم أوباش ومصاصي دماء ، ترتعشوا أمام لحظة العز ، بل تقايضونها بأوجاع الناس ، غبراييل :( لو أن الله أهداني بعض الوقت لأعيشه ، كنت سأرتدي البسيط من الثياب ، كنت سأتمدد في الشمس تاركاً جسدي مكشوفاً بل وروحي أيضاً )
( كنت سأنام أقل ، وأحلم أكثر في كل دقيقة نغمض فيها عيوننا نفقد ستين ثانية من النور ، كنت سأسير بينما يتوقف الآخرون ، أظل يقظاً بينما يخلد الآخرون للنوم ، كنت سأستمع بينما يتكلم الآخرون ) 
سيد غابرييل غارسيا ماركيز ، أيها الكولومبي العظيم ، سأتذكرك في يقظتي ومنامي ، في منامي حتى لا أهدر ساعات النوم بلا ذكراك ، فأخسر جزء كبيرا من زمني المتاح ، ليتني لا أنام لأبقى مشتعلا ، فأنا أكره وقت الانطفاء ، والزمن المهدور حتى في الأكل !! وكم أسأل موتا عاصفا بين الحنايا ، لا موتا هادئا ممددا على الفرش .، ولو أكسبني الله قطعة أخرى من الزمن ، سأظل أقاوم لتسلق الجبل ، كلما اقتربت من القمة امتد الجبل ، نرتفع معه وعليه إلى اللانهائي والأبدي ، أرتفع فيمتد الجبل ، كم هو شامخ من يتسلق الجبل ، فهذه روح النضال ، لن أسمح للموت بأن يقتصّ مني دون ذلك ، اغفر لي إلهي الجبار .
( كم من الأشياء تعلمتها منك أيها الإنسان ، تعلمت أننا جميعا نريد أن نعيش في قمة الجبل ، دون أن ندرك أن السعادة الحقيقية تكمن في تسلق هذا الجبل ، تعلمت أنه ليس من حق الإنسان أن ينظر إلى الآخر، من أعلى إلى أسفل ، إلا إذا كان يساعده على النهوض ، تعلمت منك هذه الأشياء الكثيرة )
دفء الإنسانية لن ينطفئ بفراقك ، ستبقى للأبد نورا ونارا ، نورا تضيء ، ونارا للدفء من صقيع الظلم المتفشي ، صحيح أنك خرجت من باب الدنيا ، لكن خروجك لتفتح بابا آخر ، فمثلك لا يموت ، ناضلت وأنت تصعد الجبل الممتد ، تمكنت من الصعود واستمتعت ، فيما الآخرون يعمهون في حظائرهم البهيمية ، فالموت الحقيقي في التملق و السكوت . 
( لن يتذكرك أحد من أجل ما تضمر من أفكار ، فاطلب من الله القوة والحكمة للتعبير عنها وبرهن لأصدقائك ولأحبائك كم هم مهمون لديك )
أما نحن فسنبقى مصرّين على رسالتك ننقلها إلى الباقين ، لتساعدهم على تسلق جبلك الذي ذكرت ، كيف ومتى و أين ؟؟ كلما صعدنا خطوة ، لثمنا روحك التي سترافقنا ، بدلا من نظريات الجشعين المتسلقين ، أسياد الموت والقتل الرخيص ، فما أقذرهم وأحطهم . 
( قل دائماً ما تشعر به وافعل ما تفكّر فيه)
( كنت سأمنح الطفل الصغير أجنحة وأتركه يتعلم وحده الطيران )
سلام لك يا سيد غبراييل غارسيا ماركيز .

التعليقات