برنامج "البرنامج".. ابداع متجدد وشارع متعطش

برنامج "البرنامج"..  ابداع متجدد وشارع متعطش
رام الله - دنيا الوطن
بقلم : عمار جمهور
يعد برنامج "البرنامج" شكلا إعلامياً عربياً مميزاً،وهو أحد أشكال البرامج التلفزيونية الغربية. وهذا البرنامج يأتي في السياق العالمي لتدفق جملة من أشكال البرامج التلفزيونية الغربية وانتشارها حول العالم، وبالرغم من خصوصية الهوية الوطنية العربية إلا أنه وبفعل توطينه بما يتواءم وهموم وقضايا الشعب المصري استطاع أن يحتل مساحة إعلامية كبيرة في الساحة المصرية والعربية، واستطاع أن يحصد سمعة عالمية واسعة، ذلك لكونه يأتي في بيئة عربية مغايرة تماماً عن البيئة الغربية، فالنسخة الأصلية وجدت في بيئة ديمقراطية، فيما النسخة العربية ولدت ولادة متعسرة في بيئة قمعية، بغض النظر عن طبيعة الأنظمة السياسية المتعاقبة وشكلها، الذي عرض البرنامج خلالها.

"البرنامج" الذي يقدمه باسم يوسف استطاع أن ينجح في أن يكون منبراً إعلامياً فريداً من نوعه، وذلك عبر تشخيص الواقع السياسي والاجتماعي والإعلامي تشخيصاً تهكمياً لاذعاً.  كما أن الرسالة والرؤية المعلنة التي يصبو البرنامج إلى تحقيقها تتلخص بالترفيه والفكاهة، ولكن في حقيقة الأمر فإن الموضوع يتجاوز ذلك بكثير، فهو منبرٌ سياسيٌ بامتياز ساعد، وما زال يساعد، على خلق وعي سياسي واجتماعي تجاه العديد من القضايا المصيرية في الساحة المصرية.

نجاح "البرنامج" في استقطاب المشاهدين باستمرار في ثلاثةأجزاء متتالية يشير بوضوح إلى الإمكانيات الخلاقة والإبداعية التي يتحلى بها مقدم البرنامجوطاقمه، وينم عن وعي وثقافة سياسية عميقة للقائمين عليه، فهو إن كان مستوحىً من قوالب إعلامية عالمية أخرى إلا أنه أصبح يعبر عن  نمط حياة يومية موثقة بقالب كوميدي جدي وهادف، وأصبح حاجة إعلامية من قبل الجماهير المصرية والعربية، وظهرت هذه الحاجة خلال فترة الانقطاع التي فصلت ما بين الجزء الثاني والثالث، والتي تزامنت مع انتقال السلطة من الإخوان إلى الجيش، وما رافقها من ترقب وانتظار من قبل الجماهير العربية العريضة.

وأبرز ما يميز برنامج البرنامج هو قدرته على تسليط الضوء بطريقة تهكمية وساخرة على قضايا قد تكون معروفة واعتيادية، ولكنه يعمل علىإعادة عرضها وإنتاجها بطريقة إعلامية ناقدية أكثر إقناعا وأكثر جرأة، وذلك من خلال دمج عناصر عدة في آن واحد فالتعليق الساخر بلغة الناس، وببلاغة نقدية مدعومة وموثقة بأدلة حقيقية سواء كانت إدعاءات أو تصريحات أو مواقف مدعمة بصور،أو مشاهد،أو رموز كلها عناصر إقناع للمتلقي، الذي يحسن التعامل معه بذكاء ووعي شديد، مع الأخذ بعين الاعتبار اللمسات المميزة التي يضيفها على المواد الإعلامية التي يعرضها، لكي تأتي والسياق العام لعرض المعلومة.

البرنامج الذي يقسم إلى في كل حلقة إلى ثلاثةأقسام، يتضمن في جزئه الأخير إما تقديما لشكلٍ فنيٍأو ثقافي أو سياسيمميز، وفيما يتعلق بالأشكال الفنية الذي يقدمها البرنامج فإنها تمتاز بأنها تجمع ما بين الأصالة والتجديد، وذلك لخلق قالب فني مهجن، خاصة فيما يتعلق بالعروض الفنية الموسيقية التي تعيد صياغة الأصالة الفنية في قوالب حداثية مبدعة.فهذه المحاولة الإعلامية المميزة  في الجزء الثالث لا تقل أهمية عن الأجزاء الأخرى من البرنامج، وذلك لأنها تحمل رسالة مهمة تتمثل في تعزيز الثقافة والهوية الفنية الوطنية وإعادة إنتاجها بطريقة عصريةأو على الأقل إعطاءها الفرصة للظهور والبقاء وإظهار جمالياتها.

 كما أن البرنامج، وبشكل عام، استطاع أن يحقق الدور الإعلامي المطلوب منه، والذي يتمثل في أن يكون سلطة رابعة، وليس موجها فقط لنقد الحكومة أو النظام السياسي وإنما على دور الإعلام المصرية ككل، وتعزيز مبدأ الصحافة البحثية القائمة على طرح التساؤلات والإجابة عليها بموضوعية، من خلال توفير الأدلة الدامغة وعرضها للمتابعين. وطرح القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية أمام الجمهور لخلق نقاشات حولها،بما يساهم في خلق وتشكيل وعي عام بشأن القضايا التي كانت حكراً على السياسيين أو الإعلاميين. واستطاع أن يوظف كافة الأشكال الإعلامية التقليدية منها والمبتكرة، لإيصال الفكرة الأم وخلق حوارات من خلال توظيفه لوسائل الإعلام المجتمعي لخلق تفاعل حي بينه وبين المشاهدين، وذلك من خلال إعادة بث البرنامح على اليوتويب أو الفيس بوك، بالإضافة إلى إعادةنشر الأخبار عنه في الصحافة المكتوبة والمرئية على حد سواء.

وللحفاظ على سمعة البرنامج فقد استطاع باسم يوسف أن يتجاوز الأزمة الأخلاقية الذي وقع بها، والتي تتمثل في ما يعرف بالسرقة الادبية لمقال من لغة اجنبية وترجمته الى اللغة العربية، حيث أعتذر أمام الجمهور بشكل واضح وصريح، وعاقب ذاته من خلال امتناعه عن الكتابة، والتي لا تعد ضرورة في هذه المرحلة بالذات، وكان هذا الاعتذار وهذا العقاب افضل استراتيجية تواصل مع الجمهور للحفاظ على سمعة وشعبية البرنامج. كما أنه من المهم الاعتراف بأن الشوارع العربية كلها متعطشة لمثل هذه البرنامج بالرغم من المشاحنات، والاستقطابات والتجييش الذي قد يخلقها هذا البرنامج او اي برامج شبيه. 

يأتي البرنامج في ظل تراجع صناعة الكوميديا الهادفة، وانتشار كوميديا الإيفاهات، سواء أكان على صعيد المسرح أم السينما أم التلفزيون، ليعلن عن ذاته كمنبر  مبتكر  للكوميديا الهادفة في الساحة المصرية والعربية على حد سواء. وعلى ما يبدو فإن الساحة العربية بحاجة إلى مثل هذه البرامج ليصبح منه عدة نسخ قطرية لأخذ خصوصية كل دولة على حدة، مع الإدراك الكامل لسمات الوطنية المشتركة، وذلك لإعادة خلق الوعي السياسي بطريقة قائمة على المعرفة، بعيداً عن العاطفة والاستقطاب السياسي المضلل، وكشق حقيقة الإعلام المزيف القائم على الادّعاء المطلق للمعرفة. والسؤوال المهم الى متى سيستطيع البرنامج ان يحافظ على عناصر الابداع والتميز الفنية والاعلامية في طرح القضايا الاسبوعية

التعليقات