صافرة ابو السعدي

صافرة ابو السعدي
بقلم عيسى قراقع
وزير شؤون الاسرى والمحررين

في دوار المنارة برام الله، يقف ابو السعدي والشمس عمودية تصب أشعتها الحامية فوق رأسه، وقد تدلت ثلاث صافرات من رقبته والرابعة في فمه، يداه تتحركان يمينا وشمالا، خلفا واماما، يحرك المركبات المزدحمة وينظم سيرها، يمنع الاكتظاظ والتزاحم، وجميع السائقين يلتزمون بتعليمات صافرة ابو السعدي.

إنه أول شرطي فلسطيني متطوع وغير رسمي، وقف في وسط مدينة رام الله ينظم المركبات بعد إنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية عام 1995، وقبل إنشاء جهاز الشرطة الفلسطيني وبناء الأجهزة والمؤسسات، كأنه أراد أن يقول : أن ارض الصراع دانت أخيرا لنا، ونحن قادرون على بعث روح الحياة في المكان الذي دعسته دبابات الاحتلال.

صافرة ابو السعدي أجابت على أسئلتنا العميقة حول الحضور والغياب، نفخ بأنفاسه في الغياب، ليرى الحضور واضحا واضحا، ويرى نفسه حرا وهو يردد مقولته المشهورة: تبدأ الدول بوجود الشرطي، بصوت صافرتي التي تعلن بأننا هنا، وكنا هنا، وسنبقى هنا.

رأيته يوم الأسير الفلسطيني يرقص في ساحة مدينة البيرة خلال إيقاد شعلة الحرية ، ولكني لم أر صافرة في فمه، ولما سألته قال لي: صوتي ضاع في العتمة، ولم تستطع صافرتي أن يصل صوتها إلى أولادي في الزنازين، كل شيء مغلق، علي أن ارقص حتى لا يعتقد الاحتلال أني شبح تجمد في الصدمات.

صافرة ابو السعدي دوّت فوق حاجز قلنديا العسكري وفوق رؤوس المستوطنات المتربعة فوق أراضينا في كل مكان، ودوت فوق رأس الشهيد في تلك الجنازة ، عندما خرج الشهيد من تحت ركام البيت المدمر علنا مستجيبا لصافرة ابو السعدي وهي تغني للحياة القادمة.

صافرة ابو السعدي تتباطأ وهي تعد أسماء خمسة آلاف أسير فلسطيني يقبعون في السجون، وتتوقف قليلا عند أسرى مرضى مشلولين ومصابين بالسرطان، ينفخ ابو السعدي في أجسادهم لينتظروا أكثر قبل أن تصل الأكفان.

صافرة ابو السعدي تصرخ أمام بوابة سجن عوفر يوم 29/3/2014، لم تفتح تلك البوابة ويفرج عن الدفعة الرابعة، ظلت الصافرة تصرخ وتصرخ إلى أن سقط ابو السعدي مصابا بقنبلة صوت احتلالية، وظل يصفر.

هذا اللاجئ الذي يأتي من قريته ترمسعيا يوميا على قدميه ليشاركنا في كل الفعاليات، يتقدم أمامنا، يلقى علينا أبيات من الشعر، يهز جسده بغضب، ترتجف يداه وهو يحملق في صورة مروان البرغوثي واحمد سعدات وفؤاد الشوبكي وكريم يونس ولينا جربوني، يخرج الصافرة من جيبه ويلطمنا جميعا ونحن صامتين.

صافرة ابو السعدي الآن تحذرنا من جنون الواقع الذي يريده المحتلون قائلا : الكرامة أهم من المال، الحرية أهم من بطاقات أل vip، عزة النفس أهم من موكب صاخب لأي مسؤول ، هل تفهمون، يسألنا ويصفر في وجوهنا منقلبا على الحاضرين المصابين بالدهشة منذ سنين، ويتطلع إلى صورة الرئيس ابو مازن وهو يوقع على الانضمام للمعاهدات والاتفاقيات الدولية بروح عنيدة.

ابو السعدي يبلغ من العمر 70 عاما، أضلاعه الناشفات تشبه أضلاع حجارة قريته ديربان التي احتلت عدم النكبة، وكوفيته المبعثرة على وجهه تدل انه لا زال منكوبا وساخطا، وان صافرته تلقى بكل أحلامه هناك بعيدا خلف السياج.

صافرة ابو السعدي التي استقبلت السلطة الفلسطينية لتكون نواة الدولة الفلسطينية المستقلة تعاتبنا وهي تسألنا: كيف يكون لنا دولة ولا زال هناك المئات من الأخطاء الطبية يموت بسببها المرضى، وكيف يكون لنا دولة ولا يوجد مسلخ شرعي لذبح اللحوم التي قد تكون فاسدة، وكيف يكون لنا دولة ومازال البعض يعشق المظاهر والشكليات، ولا يتطلع تحدت قدميه ليرى كم فقيرا يرتمون على الأرصفة، وكيف يكون لنا دولة وصوت نحيب يعلو في هذه الحارة وتلك، عندما يسقط شهيدا أو يعتقل طفلا أو تجرف شجرة،وكيف يكون لنا دولة وظاهرة قتل النساء تتصاعد كل يوم أمام سيف القبيلة.

صافرة ابو السعدي هي كلام ذاكرة، لسان الناس البسيطين المغلوبين الساكتين المتأملين طلوع الفجر أو مغيب الشمس دون خوف من ليل أو مداهمة.

هي حالنا عندما نفعل ما نقول ، نتألم حين نتألم، ونفرح حين نفرح، ونغضب حين نغضب، دون عكازة من مسؤول أو رضى من خبير في التنمية أو البنك الدولي أو سمسار يقضي وقته سائحا في تل ابيب.

صافرة ابو السعدي اختنقت عندما رأى قوات الاحتلال تلقى بالمياه العادمة ذات الرائحة الكريهة جدا على سكان مخيم عايدة عقابا لهم على استمرار رمي الحجارة على الجنود.

صافرة ابو السعدي ترى المخيم المكتظ يعوم في المياه القذرة، لا أحد جاء لينظف الشوارع، ولا احد أنقذ نهى قطامش من الموت وهي تختنق، وسمعت الصافرة تنادي: أيها اللاجئون، النكبة عادت ولكن بشكل بشع، يا أهل المخيم لم تعودوا لاجئين فقط بل مكبا للقاذورات.

صافرة ابو السعدي قالت لي مواسية:
كلما أتعبني ابن شعبي
أحببته من داخل قلبي

التعليقات