كتاب "أبو علي شاهين .. مسيرة شعب"

كتاب "أبو علي شاهين .. مسيرة شعب"
رام الله - دنيا الوطن
تنشر دنيا الوطن كتاب "ابو علي شاهين - مسيرة شعب" للكاتب خالد عز الدين .. حصرياً 

إعداد: خالد عزالدين

أبو علي شاهين

"من المؤمنين رجال ... "

رحل الرجل ...

حضر الرجل ...

الموت مشكلة الأحياء ..

أما هو فقد قال وصيته المقاومة وأودعها الأحياء ..

قال كلَّ ما أراد رصاصاً وتحدياً وصلابة، ..

وكان لا بدّ لكي يكتمل أن يرحل كما رحل الشهداء ..

دون أن يبدلوا تبديلا ..

"إنا لله وإنا إليه راجعون"
شكــر وتقدير

لا تنهزم الأمم عندما تنكسر دباباتها، ولكن عندما تُصاب بالأمنيزيا وتنسى تاريخها، وتقطع معه، ذلك أن الذاكرة هي الجينات الحافظة الناقلة لسمات ومقومات الأمة، وهي الضامن لتبرعمها وقيامتها وهي الحافظة لها من الفناء مهما كان الدمار ومهما كان العناء،والذاكرة هي كل الكيمياء البشرية لشعب ما على مدار حيويته في سياقه، وتشمل فيما تشمل آثاره وأشعاره، أشواقه وقيمه وتمثله وعمرانه، أسماءه وحكايات السهر، ضحكاته ودموعه، موسيقاه وأهازيجه، فرحه وبكاءه، حزنه وإخفاقاته، انتصاراته وانكساراته، لهجاته والكلمات الخارجة عن السياق، نزقه وترفه وفقره، انتشاؤه بالياسمين ورائحة النباتات، مستفزات حيائه، انفعالات روحه وارتدادات جسده وارتعاشات وجدانه على قرارات أمواج الطرب والطقس وانحناءات الجغرافيا، كتاب المذاقات، خفقة الحب، خيوط الغزل، أول اعتقال، وحديثٌ صامتٌ إلى تينةٍ بجانب الجدار، بصمة الصوت واللانهائيّ في العيون، الثابت والمتحوِّل، مزاجها الجمعي، صورة روحها وهي تنسجها على الصدر وتغزلها على القمر وتغنيها في مواسم البذر والحصاد، هو أوسع من اللانهاية التي تحيل إلى النقصان، لأنه اكتمالها الذي يفتح من كل فجٍّ عليها بكامل الاكتمال، والذاكرة ليست مفردات، لكنها التلاقح والتراكب المفتوح والمتحرك في الزمان لكل الذرات، وليس هذا الكتاب الذي بين يدينا إلا اجتهاداً في محاولة الذاكرة، ليس قصة مناضل ثائر بقدر ما هو محاولة قراءة إنسانٍ بوجدان إنسان في فيوض الذاكرة وفتوحاتها الفلسطينية، وهو جهدٌ نتقدم به للأيام العربية الفلسطينية ليضيف إن استطاع سطراً إلى سفر ذاكرتنا، وهو إنجازٌ ما كان ليكون لولا توفيق الله، وجهد كثيرين تشجعوا له وساهموا في إنجازه، وهم بالإضافة إلى من حرروه كثيرون ممن أبدوا النصح والملاحظات وشاركوا في التصحيح والتدقيق اللغوي والتاريخي، ولا أملك إلا أن أخصّ بالذكر الجهود المميزة للدكتور عبدالنور بوخمخم، والدكتور أيمن عبد العزيز شاهين، والدكتور سليم الزعنون، دون أن يقلل هذا من فضل كثيرين غيرهم لا يتسع المجال لذكرهم، لهم جميعاً الشكر والامتنان، ويكفي الجميعَ منا شرفُ ولذةُ التوقيع على جملةٍ غير عابرةٍ في الذاكرة.

خالد عزالدين

في حضرة غياب هذا العظيم..

نمر في ذاكرة البندقية ورائحة أرضنا وصباحات الجبهة الساخنة.

حينما تلمع عصاه في نقطة وعينا..نستجمع حقيقة وجودنا كثورة.. وطفولة.. ورغبة في الاتكاء على عكاز  الختيار  أبو علي شاهين..لنبكي على أنفسنا من بعده..أو نغرغر بضحكات النصر الذي وعدنا به مرارا.

ابو علي شاهين...

 لم يكن ذاته..

كان نحن.

وكان صخبنا.. وطهارة بيارات بلادنا..وقصة اللاجئين الخارجين من قرى النكبة.

انه رجل بلحم ودم..مضي كالمنشار يقص قضبان الزنازين

هو ما نقرأه في الميثولوجيا من الأساطير وحكايات البطولة التي لا تتكرر

هو قطعة من تاريخنا..ونضالنا..وحزننا.. وفرحنا...وبعض أشياء تحفظ لبصيرتنا النور والاقتداء بسنن المرابطين الذين لا يتنازلون أو يتراجعون.

أبو علي شاهين..كان من فلسطين..وعاش من فلسطين..وتشكلت خلايا دمه من فلسطين، واخرج آخر نفس في روحه وهو يحلم بروابي بفلسطين.

أبو علي.. قصة فلسطين ومسيرتها الأبدية نحو طريق العودة

إن كتابة حكايته ..وفاء لفلسطين وجهادها

حكايته.. ترتيل ثورة لا نريد للأجيال أن تنساه

الفصل الأول / ذكريات النكبة ومأساة التهجير

إن سيرة حياة بعض القادة في العالم؛ تظل على مدى السنين لا تتقادم ولا يغطيها النسيان؛ بل تنبض دائمًا بالحرارة والأمل؛ ورغم كل ما كتب وما سيكتب عن أبو علي شاهين، سيظل قاصراً عن التعبيير على مدى حبه لفلسطين، بطلاً سيسجل التاريخ بطولاته وأمجاده.. وسيظل بتاريخه المشرق قدوةً لأبناء كل جيل؛ ما أصعب الكتابة في حضرة هذا الرجل، وما أصعب أن يتحدث المرء عن ذاته وصيرورة حياته، ويروي قصة النشأة والمنطلق؛ واستشهاد والده، ثم رحلة اللجوء إلى غزه الحبيبة.

أولاً: النشأة والمنطلق

يبدأ أبو على شاهين قائلاً: لم تسمح لي الظروف الصاخبة التي أحاطت بمولدي أن أعرف تاريخاً محدداً بيوم لذاك الميلاد، لكنني عرفت فقط بأنني أقبلت على هذه الدنيا في ليلةٍ شديدةِ المطر من أيام العام 1941م ، ولم تسمح لي الظروف المتفجرة في البلاد حينها بسبب القتال المندلع بين  الثوار الفلسطينيين والعرب من جهة وبين العصابات الصهيونية من جهةٍ أخرى من العيشِ عيشة الأولاد العاديين، فرحلنا عن قريتنا بشيت وكان لي من العمر حينها تسع سنين، ولم تسمح لي ظروف اللجوء والتشرد من التمتع بحياة الصبيان الطبيعيين أيضاً، ولم تسمح كل الظروف التالية لكل ذلك، لا لي ولا لجل أبناء جيلي من التمتع بأي شيء يذكر من متع  الحياة الدنيا.

أما في السجن عندما كنت أسمع ما أسمع من الإخوة والرفاق؛ وأحياناً أقرأ ما أقرأ عن الحب وأعراضه، والعشق وأحواله، كنت أظن بأنني متورط في شيءٍ ما يشبه ما يقولون عنه، لكنني تأكدت لاحقاً بأنني مسكون بحالةِ عشقٍ من نوعٍ مختلف، أقول لك هذا بكل صدق، لقد كنت مصاب بحمى عشق الأسرى والمناضلين، لقد إستحوذت معاناتهم منفردين ومجتمعين على كل ما لدي من مشاعر وأحاسيس، وأخذت كل ما لدي من إهتمام وولاء، لقد ألمت بي هذه الحالة وظهرت أعراضها علي منذ أن التقيت بأول فدائي أسير في زنازين المعتقل.

يقول أبو علي عن مكانِ وظروفِ مولده، ولدت في قرية بشيت قضاء الرملة لواء اللد، ولا أعرف في أي يوم على وجه التحديد، فشهادة ميلادي فقدت مع والدي حينما أستشهد أثناء التصدي لهجمات العصابات الصهيونية على القرية، لأنها كانت في جيبه قبل يوم من ذاك الحدث، وهذه واحدة من الأمور التي أثارت الحيرة لدي ردحاً من الزمن، لكن ما إستقر عليه الاعتقاد أخيراً بأنني قد ولدت في ليلةٍ ماطرةٍ من ليالي العام 1941م، أثناء الحرب العالمية الثانية، أما والدي فكان يعمل نجاراً في معسكرات الجيش البريطاني، وأمي فهي إمرأةٌ فلاحةٌ عادية كانت تساعد والدي في حرث  الأرض وزرعها وجني غلالها.

 عمي محمود شاهين تمت تصفيته جسدياً على أيدي عملاء الإنجليز لأنه كان من فصيل الثوار الموجود في القرية، والذي كان يقوده عبد القادر أبو العينين، هناك عم آخر لي أعدمه الإنجليز نتيجة حيازته للسلاح، كان ذلك قبل إغتيال عمي محمود، إضافة إلى والدي الذي كان يرأس نادي الجمعية في القرية، الذي كان يركز نشاطه لمحاربة إستمرار الاستيطان الصهيوني في البلاد، وضد الاحتلال العسكري الإنجليزي، ما أوجد في المنزل حالة وطنية متفجرة.

كان لوالدي أصدقاء كثيرون من خارج القرية، يترددون على بيتنا ويعقدون الاجتماعات، جدي كان متعلقاً بالأرض وحريصاً عليها، ولا زلنا نحتفظ في بيتنا حتى الآن بأوراق الطابو، هناك حادثة يمكن أن تكون غير مستوعبة، فقد قام جدي بشراء قطعة أرض من يهودي، خارج حدود القرية، بعد أن ضايقه كثيراً، واضطر اليهودي لبيعها، لقد استوقفت هذه الحادثة المخابرات الإسرائيلية طويلاً عندما قاموا في أحد الأيام بتفتيش البيت ورأوا أوراق الطابو، وقالوا : هذه مشتراة  من يهودي؟ قلنا: نعم، نحن إشترينا هذه الأرض من شخص يهودي، نعم أخي العزيز في مثل هذا البيت، كانت نشأتي وبدايتي .

ثانياً: استشهاد والدي.

وأنا طفل قيل لي: أبوك مات! سألت وكيف مات ؟

قالوا استشهد، ومن بعدها ظللت كلما سألني أحد عن نفسي أقول له: أنا أبن الشهيد فلان، كنت أشعر أنني يجب أن أقول كلمة الشهيد، وكانوا يقولون حتى هذا الصغير يصر على كلمة شهيد ، وحين كنت أُسأل من الذي قتله كنت أجاب دائماً بأن الصهاينة قتلوه، لم أقل يوماً اليهود، من أين جاءت كلمة الصهاينة ؟ لم أكن أدري، إلا أن صورة اليهودي كبرت في رأسي.

 أذكر صاحباً لأبي جاء إلينا بعد استشهاده، راح يلاطفني ويداعبني، ثم فجأة سألني:

أتعرف من قتل أباك يا عزيز؟

قلت: من

قال: قتله الصهاينة

 سألته: من هم الصهاينة ؟

قال لي: هؤلاء هم اليهود الذين يحاربوننا .

هكذا وضعني صاحب والدي على تفكير جديد، وبقيت تلك الكلمة حتى الآن في أذني.

تسألني كيف سقطت بشيت؟

لقد توالت الهجمات الصهيونية عليها في ثلاث موجات، وتمكنت القرية من دحرهم في الموجة الأولى، وقد تركوا جثث قتلاهم على أرض القرية، وحضر الإنجليز وأخذوها، ثم عاودوا هجومهم بعد أسبوعين وكان أن دُحروا ثانية، وحضر الإنجليز من جديد لأخذ جثث قتلاهم، أما المعركة الثالثة فقد كانت يوم 13/5/1948، حيث بدأوا هجومهم على القرية في الساعة الثانية صباحاً، واجتمع في هذا الهجوم قوات من الأرغون وشتيرن والهجاناه والبالماخ كما عرفت فيما بعد، ومع ذلك فقد دحروا حتى حواكير البلد، وحتى حدود أبو سْويرح، وهي منطقة تبعد عن بشيت بما لا يقل عن 5كم، وفي الصباح حيث كانت القرية تواصل دحرهم بإتجاه الغرب، سقطت قرية بيت دراس وهي إلى الجنوب من بشيت، وفوجئ المناضلون أن قوات دعم يهودية تأتي من بيت دراس في عدة باصات مصفحة، عندما وصلت هذه انقلب ميزان القوى.

لم يدافع عن القرية أهلها فحسب، فقد كان العديد من شهداء هذه المعركة من القرى المجاورة والمحيطة خاصة من يبنا ، من قطرة ، من المغار، من المسمية، من برقة، من القبيبة، وبالرغم من وصول النجدات، حسمت المعركة لغير صالح القرية، ففي هذه المرحلة تم ولأول مرة استعمال أسلحة متطورة، مثل الهاونات ورشاشات هشكوس وهي صفقة السلاح التشيكي بالتمويل المالي اليهودي العالمي عامة والأمريكي خاصة. حين أخذ الميزان في الميلان، كان الجو النفسي المهيمن على القرية سوداوياً، وأن دير ياسين جديدة ستقع، دير ياسين حسمت ضدنا الكثير نفسياً، وكان ذلك بجريمة الأنظمة العربية، وغباء الزعامة الفلسطينية آنذاك، كانت دير ياسين رسالة موجهة، من أجل تحقيق الفكرة الصهيونية القائلة بلاد بلا عباد، فهذه هي النظرية الأساسية في الفكر الصهيوني، إن وعي شعبنا لهذه الأساسية، جعلت قرية مثل قريتنا تتشبث في الأرض، ورأت أن موتها في الأرض حياة، لكن ماذا يمكن أن تفعل قرية وحيدة !.

في هذه المعركة استشهد أبي؛ أخبرني العم محمد الحمامي "أبو عدنان"، إنه كان يقود الثوار، وأن الصهاينة قد استخدموا مدافع الهاون وبكثرة ولأول مرة؛ فاستشهد الكثير من المناضلين، وطلب من الباقين الانسحاب ووقع العديد من الشهداء المدنيين وقصفت القرية، وظل هو وأبو عدنان يقاتلان حتى الطلقة الأخيرة، فأصيبا في مواقع عديدة من جسديهما، أبي مات، وأبو عدنان ظل ينبض وحسبوه ميتا، حين وصلوا إليهما، أفرغوا رصاصات كثيرة في جثة والدي وهكذا بعد الاستشهاد تأتي عملية الانتقام، انتقام حاقد، ظل ما رواه عمي "أبو عدنان" محمد الحمامي في ذهني، إلا أنه حين توفّـر لي فيما بعد أثناء ممارستي العمل الفدائي أن أحقد، رفضت الحقد، وبقيتُ على مخلصاً للتعاليم الثورية الوطنية التي ترفض ممارسة الحقد.

خلسة ذهب عمي يوسف والعم عبد السلام زيدان والعم عبد القادر أبو هاشم وآخرين لإحضار جثمانه من أرض المعركة، واستقبلت بشيت شهيدها، حيث دفن في مقبرة مقام ديني قديم، يعتبره أهل القرية مقدساً، ويعود كما تقول الأسطورة إلى النبي شيت أبن آدم (الثالث)، وإليه يعود أسم القرية     "بيت النبي شيت"، لكنه في العامية بشيت؛ لا زال قبر أبي هناك، في ذلك المقام الديني القديم.

كانت عملية "داني" الإسم الرمزي الموحي بالبراءة للهجوم على مدينتي اللد والرملة الواقعتين في منتصف الطريق بين يافا والقدس؛ في 10 تموز/ يوليو من عام 1948 عيّن بن غوريون يغال ألون قائداً للهجوم على مدينتي اللد والرملة، وإسحق رابين نائباً له وأمر ألون بقصف المدينة من الجو وكانت أول مدينة تهاجم على هذا النحو، وتبع القصف هجوم مباشر على وسط المدينة، تسبب بمغادرة بقايا متطوعي جيش الإنقاذ المرابطين بالقرب من المدينة التي تلقت الأوامر بالانسحاب من قائدها البريطاني غلوب باشا.

إثر تخلي المتطوعين وجنود الفيلق العربي عن سكان اللد احتمى رجال المدينة المتسلحين ببعض البنادق العتيقة، بمسجد دهمش وسط المدينة، وبعد ساعات من القتال نفدت ذخيرتهم واضطروا للإستسلام، لكن القوات الصهيونية المهاجمة أبادتهم داخل المسجد المذكور.

بدأ الهجوم الصهيوني على اللد والرملة يوم 9/7/1948، وسعى الصهاينة إلى عزل المدينتين عن أي مساعدة تأتي من الشرق، فتقدم إلى شرقي اللد والرملة لواءان أحدهما من الجنوب، حيث دخل قرية (عنّابة) في الساعة الواحدة من فجر 10 تموز/ يوليو ثم قرية جمزد، وثانيهما من جهة تل أبيب في الشمال الغربي، وقد احتل هذا اللواء (ولهمينا) ثم مطار اللد، وباحتلاله عزلت سرية الجيش الأردني في (الرملة والعباسية واليهودية)، وهكذا اكتمل تطويق المدينتين وعزلهما ولم يستطع المقاتلون في القرى المذكورة ومطار اللد الصمود أمام الهجمات من قبل الدبابات والمدفعية المنسقة.

تعرضت المدينتان في أثناء ذلك لقصف جوي ثقيل وجه إلى مركز شرطة الرملة خاصة، وإلى قصف مدفعي شمال الأحياء الآهلة بالسكان؛ استمر ضغط الصهاينة على امتداد واجهة القتال وركزوا هجومهم على مدينة اللد أولاً، فشنّوا عند الظهر هجوماً قوياً عليها من الناحية الشرقية عند قرية دانيال، لكن مجاهدي المدينة استطاعوا أن يصدّوا الهجوم بعد معركة دامت ساعة ونصف خسر الصهاينة فيها 60 قتيلاً، وعاد المجاهدون وقد نفد عتادهم؛ ثم شن الصهاينة هجوماً آخر بقوات أكبر تدعمها المدرعات وتمكنوا في الساعة 16 تقريباً من دخول اللد واحتلالها وهم يطلقون النار على الأهالي دون تمييز.

بعد ذلك اخترقت فصيلة تابعة للجيش الأردني مدينة اللد التي كانت قد استسلمت للكتيبة الثالثة التابعة للواء يفتاح في البالماح؛ وفي أعقاب الاختراق ارتفعت معنويات سكان المدينة، ومن أجل إخمادهم ومنعهم من التحرك، صدرت الأوامر للإرهابيين الصهاينة بإطلاق النار الكثيفة على جميع من وجد في الشوارع؛ وخلال بضع ساعات وبموجب تقدير قائد اللواء في المعركة أنه قتل 250 فلسطينياً؛ فكانت أبشع مجزرة وأسرعها وقتاً، غير أن الإعلام العربي لم يركز عليها.

وفي تقريره الذي قدمه مولاي كوهين عن المجازر التي وقعت في مدينة اللد اعترف فيه بوجود فظائع كئيبة، ودوّن ذلك في كتاب البلماح: لا شك في أن قضية اللد والرملة وهرب السكان والتمرد الذي جاء في أعقابها قد وصلت فيها وحشية الحرب إلى ذروتها. ضحايا المجازر من مدينتي اللد والرملة في تقديرات نهائية للمجزرة بلغ عددهم 426 شهيداً منهم 176 قتيلاً في مسجد دهمش في المدينة، وفي رواية أخرى بلغوا 335 شهيداً 80 منهم في مسجد دهمش.

عالم الاجتماع "سليم تماري" نشر في مجلة الدراسات الفلسطينية نقلاً عن شهود مجزرة اللد منهم (إسبر منيّر) الذي كان يعمل ممرضاً مع الدكتور جورج حبش وصف المجزرة في جامع دهمش وحالات الطرد الجماعي لخمسين ألف فلسطيني في مدينتي اللد والرملة وحالات النهب والسرقة والجثث المكوّمة على الطرقات والجرحى الذين كانوا يحضرون ولا مسعف لهم.

"كيث ويلر" من صحيفة شيكاغو صن تايمز كتب: عملياً كل شيء في طريق القوات الإسرائيلية أدركه الموت في مدينة اللد، حيث كانت تقبع على جانبي الطريق جثث مثقوبة بالرصاص. أما "كينيث بيلبي" من صحيفة نيويورك هيرالد تريبيون قال إنه شاهد جثث رجال ونساء وأطفال عرب متناثرة هنا وهناك في أثر هجوم متألق لا رحمة فيه.

         حزنا ورثاء لنكبتنا كتب الشاعر لطفي الياسيني بكائية على قرى قضاء الرملة المدمرة عام 48  :

يا ريح سلم لي .......على ابو الفضل

على ابو شوشة .. البرج بيت سوسين

على ادنبة ..... برفيليا ...... ام كلخة

البرية ..... على بشيت ..... ام معين

على بيت جيز ....... على بيت شنة

على بيت نبالا .... على وادي حنين

سلم ع التينة ......... خربة بيت فار

على جليا ... على جلجوليا سيرين

سلم على خلدة .... سلم على دانيال

على دير ايوب .... زرنوقة ونمرين

على سلبيت ... شلتا ..... على شحمه

على صرفند ...... على دير ياسين

على دير طريف على دير محيسن

صرفند العمار ... سلم على صيدون

عاقر .... عنابة .. القباب.. القبيبة

قزازة ... فطرة اسلام .. وحطين

قولة ( قولية ) - الكنيسة - المخيزن -

على المغار - المنصورة - نعلين

على النعاني .. المزيرعة على جلدة

جمزو .... عجنجول .. ع النبي روبين

على بيت قار .. سجد .. مجدل يابا

على يبنا على الرملة على زرعين

على فلسطين .... شرقها مع غربها

على الشمال .... سلم على سخنين

على عرابة ........ سلم على غربها

على ام العمد .... مسحة ... عبلين

على ابو سنان .... يركا على الرامة

وادي سلامة ..... على فلسطين

ثالثاً: اللجوء إلى غزة .

يواصل أبو علي شاهين سرد قصة لجوئه مع من تبقى من العائلة إلى غزة، بحثا عن مساحة أمان من جرائم العصابات الصهيونية فيقول:

بعد أن تجاوزنا بلدة يبنا سيراً على الأقدام عبرنا وادي سكرير(صقرير)، كنت فرحاً وأنا أخطو على الرمل الناعم، والماء رقراق، لم أكن أعرف أنني أهاجر، ووصلنا إلى أسدود، في أسدود أذكر الجيش المصري هناك، كان الجنود ينادونني وأقراني يعطوننا خبزاً وحلاوة، فيما بعد حدثت معركة أسدود الأخيرة، مازلت أذكرها حتى الآن، أتذكر الرصاص في الليل وهو يضيء الفضاء، أخذنا عمي أحمد واتجهنا نحو الغرب، حيث وصلنا شط البحر، ومن هناك إلى الجوره أو عسقلان، عسقلان البحر، وفي عسقلان كنا نتمنى أن نرى الخبز، فليس غير التمر طعاماً، تمر مليء بالسوس، أذكر في عسقلان أن أطفالاً كثيرين كانوا يموتون، لم أكن أفهم آنذاك لماذا يموتون، إلا أنني الآن أذكر كم كانوا يموتون! حين كبرت عرفت أن أطفالنا كانوا يموتون من الجوع وإنعدام العناية الصحية، فأي مرض يصيب ألاطفال  كانت مضاعفاته تؤدي إلى الموت.

بدأت الجيوش العربية تأخذ السلاح من المناضلين، وتعطيهم إيصالاً بذلك، لقد جردوا الفلسطينيين إذن من الأسلحة، وكانت الطائرات تأتي وتقصف، أذكر أن طائرة وقعت في البحر، والطيار اسمه أبو زيد وهو من الضباط المصريين الأحرار، عرفت ذلك فيما بعد من كتاب ( لطفي واكد)، وعرفت أنه من الطيارين القلائل الذين استطاعوا أن يصلوا إلى تل أبيب ويقصفوها من مطار العريش، بعد ذلك وصلنا غزة مروراً بالمجدل.

وصلت العائلة إلى رفح في بداية عام 1949 بعد عملية تشريد غير عادية، كانت أمي حاملاً ، ولدت أخي الصغير في شبه العراء، تحت ركبة صبره بجوار سكة الحديد/خان يونس، أذكر الخيمة التي عشت فيها، ذات العامود الواحد، هذه الخيمة مرسومة في ذهني، وهي تلعب دوراً في أحاسيسي وفي تحركي حتى الآن، لقد كبرت معي معاناة الخيمة، أخذت أفكر كيف يمكن وضع حد لمعاناة الإنسان الفلسطيني والخيمة، انتبهت إلى أن المخيمات تحمل أسماء القرى التي غادرناها، هذا مخيم بشيت، مخيم يبنا، مخيم المغار، مخيم عاقر ..الخ، وكأن قرانا نزحت معنا أيضا، هكذا ظل إسم القرية موجوداً، ذلك يعني أن الوعي الوطني مقيم في العقل الباطن، أهل الأندلس حملوا مفاتيح البيوت، أما نحن فقد حملنا أسماء القرى، ولعل ذلك أكثر ما يخيف ويصيب الصهيونية بالذعر، يعني أن شعبنا غادر الأرض كواقع، ولكنه بقي يعيش القرية، وفلسطين كمعنى هذا ما استوقفني بعد عملية دلال المغربي، وقلت: كم أن دلال المغربي عظيمة، فبن غوريون الذي لا يفهم من لغات التاريخ ولغة العصر إلا منطق الفاشية وقانون الغاب القوة الداروينية، فإنه قد حلّ القضية الفلسطينية بجملة من أربع كلمات حسب قوانين العنصرية إذ قال: الكبير يموت والصغير ينسى، لكن دلال المغربي التي ولدت خارج فلسطين، أتت، وكانت قد عاشت فلسطين بالمعنى ولم تعشها في الواقع، عاشتها بالحلم ولم تعشها بالجغرافيا والممارسة اليومية، أتت لتصفع بن غوريون، ولتؤكد أن فلسطين التي تعيشها بالمعنى هي فلسطين التي يجب أن نعيشها غداً بالواقع؛ أتت دلال المناضلة تقود دورية قتالية في عمق فلسطين ولتهز الكيان الصهيوني من أعماقه كما لم يهز إلا قليلاً.

في رفح وكنت ما أزال طفلاً امتلكت أول كتاب في حياتي وهو كتاب " حقائق عن قضية فلسطين "، وعلقت على جدار البيت صورة لعبد القادر الحسيني، وهو متمنطق بالسلاح، ولأول مرة في حياتي أحسست أنني أمتلك شيئاً عظيماً، في تلك المرحلة كان الشباب الكبار، يدخلون خفية إلى الأرض المحتلة، وكانوا يسمون بالمتسللين، كان هؤلاء يفتنونني، عرفت فيما بعد واحداً منهم ويدعى محيسن، عينته الحكومة حارساً لكراج الحاكم كشرطي لتكتفي شره، كان عمله أن يحمل رشاشاً ويقف، هذا الرجل كان يستوقفني دائماً كلما مررت عنه، كنت أرى فيه أسطورة، بدوي أسمر ومسلح، ولا أحد مثله في رفح، هكذا انجذبت إلى رشاش محيسن، كنت أتمنى أن ألمس رشاشه يوماً، لكن كيف أستطيع أن أقترب من الأسطورة!.

جاء يوم، وكان الوقت عصراً، مررت عليه وقلت له: مساء الخير، رد علي وقال: تفضل، تعال؛ أجفلت لكني تقدمت، قال لي: ماذا تريد؟ قلت: أن ألمس الرشاش هذا؛ ضحك محيسن وربت على ظهري بحنان، وأمسكني الرشاش، ووضعه على كتفي، كان ثقيلاً، وله مقبضان، ثم أمسكته بيدي، وقلت له: من أين هذا؟ قال لي: من الداخل، يعني من فلسطين، وهكذا صار بيننا نوع من الحنان، وصرت كلما أمر عنه أرد عليه السلام.

محيسن هذا أثر بي، أكثر من كل أساتذة المدرسة، كذلك المظاهرات التي كنت أشارك بها في القطاع، والتي توطدت معرفتي من خلالها مع الأستاذ محمد يوسف النجار كأحد الرموز النضالية البارزة في تلك الفترة، أذكر أني سألته مرة، لماذا يدك هكذا ( وكانت كما معروف مقطوعة)، وماذا حصل لها؟ ضحك وطبطب على ظهري وقال: حين تكبر تعرف، وحين كبرت التقينا معاً في قطر، لكن لم أسأله عن يده.

المرة الأولى التي رأيت فيها جندياً يهودياً صهيونياً، كانت أثناء العدوان الثلاثي، كنت وأخي الكبير قد إلتجأنا من القصف باتجاه كثبان الرمل على الشاطئ، بعد إنتهاء القصف عدنا إلى البيت وكنا في سيارة، وفجأة حين وصلنا مخيم بربره، أطلت علينا سيارتان للجنود الصهاينة، أمرونا بالوقوف وقفنا، أنزلونا من السيارة، سيطر على ذهني أن أخي سيقتل، كنت خائفاً عليه، وفتشونا بسرعة، بعد زوال الصدمة الأولى لم أعد أشعر بالموت، نظرت إلى السلاح في أيديهم رأيتهم شباباً، مثلي أو أكبر بقليل، أنا أعزل وهم مسلحون، يد أحدهم كانت مجروحة ومعصوبة، والإصابة حديثة، وأثر الدم واضح عليها، لم يطلقوا على أحد، أخذوا السيارة وصرخوا فينا: أذهبوا بسرعة إلى بيوتكم ولم يعيدوا السيارة إلى أصحابها.

ركض الجميع، وركضنا عائدين إلى البيت، كان علينا أن نقطع شارعاً أمام المركز حيث يتجمع فيه الجنود، أوقفت أخي وقلت: سأحاول فإذا عبرت أشير لك، وإذا لم أعبر وقتلوني إرجع أنت؛ وافق أخي وعبرت، لم أر أحداً، ووصلنا البيت.

بعد أيام  قليلة وفي مكان النقطة التي عبرت منها أنا وأخي، مر شاب فلسطيني في مقتبل العمر، فاستوقفه جندي صهيوني، توقف وكان الشاب يرفع يديه، سأله أين ذاهب، فرد الشاب بالعبرية إلى البيت، وإذا بالجندي يطلق عليه النار، ويقتله، ظل الشاب ملقى على الأرض لثلاثة أيام، كانوا فرضوا علينا منع التجول، وكنا نشاهد جثته من بيتنا، حين إنفك منع التجول، ذهبنا إلى الجثة، سبقت عمي إليها، وسألته: لماذا قتلوا الشاب؟ فرد علي بحنق: هؤلاء لم يقتلوه، الذي قتله هو الذي انسحب، وتركه بلا بندقية، لم يُعرف أهل لهذا الشاب، سألنا كثيراً بلا فائدة، أحضرنا كاره وحملناه، ثم دفناه بسرعة، لا، فك التجول لمدة ساعة فقط، وبيتنا بجوار مركز الحاكم العسكري .

بعد مدة طويلة، جاء أهله وسألوا، وقلت لهم أنا رأيته وعرفنا منهم أنه كان بدوياً من عرب السبع، كان يعيش في يافا قبل عام 1948، وكان واعياً، ويعرف بعض الكلمات بالعبرية، أخذتهم إلى القبر، وقلت: هنا دفناه، وحكيت لهم كيف قتل.

كان ليدي، كبير، سألني من أين أنا وماذا يعمل أبي، أخبرته أن أبي شهيد، وإذا به يقول بجدية كاملة: عاهدني أن تثأر لهما. مددت يدي، وعاهدت ذلك الرجل الذي لا أعرف أسمه حتى الآن، وما زلت على ذلك العهد وتوجه في الصباح شمالاً وتوجهت غرباً إلى بيتنا، لأن دقائق منع التجول بدأت بالنفاذ.

قال عمي ذات ليلة: حين يولد حزب فلسطيني ولا تنتمي إليه تكون جباناً، أثَّر ذلك فيَ، وأخذت انتظر الولادة. إنتهى العدوان الثلاثي، لكن صور القتل ظلت مرسومة في ذهني، صورة رشاش البرن الانجليزي الموضوع على مثلث طرق، وهو يحصد الناس ببساطة بالغة، والناس تسقط وتستشهد، ثم يأتي آخرون ويحملون الجثث إرهاب رسمي فمنهج إرهاب العنف الدموي " إرهاب  الدولة " عرفت معنى القتل بدم بارد، ودون أن يرتعش للقاتل جفناً وكيف يتم قتل الأبرياء وبحماس ومزايدة ومنافسة بين القتلة !، في ذلك الوقت عرفت أن الصهيونية هي سبب كل بلاء في حياتنا، من حزن وقتل وألم، ولا ينفع معها غير النار، لقد قتلوا كثيرين أعرفهم، قتلوا ذلك البدوي الذي رأيته، وقتلوا أصحابي وهم يرفعون أيديهم متجهين نحو المدرسة الأميرية في رفح، ويمكن القول إن العدوان الثلاثي خلف لدى الكثيرين مثلي إرادة التوجه نحو العنف الثوري المسلح ولا شيء غير العنف الثوري المسلح كأسلوب مواجهة مع هذه الحركة، الحركة الصهيونية.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الفصل الثاني / إطلاق المشروع النضالي للحركة الأسيرة

" إن الانتصار في معارك الحركة الاعقتالية ليس انتصاراً عضلياً، إنه انتصار قوة الإرادة فقط أمام إرادة القوة، ولعل أقسى أنواع الانتصارات يجيء حين تكون أعزلاً من كل سلاح، إلا من هذه الإرادة، فلا بد أن تنتصر بها، وعليك أن تنتصر بلحمك العاري، ولم يكن ذلك بالأمر البسيط علينا".

لعل هذا القول الساخر من قوة الحديد، وبطشها الضاري، يرشدنا الى بداية الطريق الامثل للدخول الى عالم عبد العزيز شاهين، والى الامساك بطرف خيط أخر لسبر غور أعماقه، كقائدا ومؤسسا لحركة المقاومة الاعتقالية داخل السجون الإسرائيلية، لنكتشف لاحقا بان تمكن أبو على شاهين من الإبداع في بناء وتأسيس حركة المقاومة الاعتقالية كان محصلة لحالة عشق مختلفة ونادرة بين الفكرة  ومصممها ، فتعامل أبو على مع فكرة بعث الحركة الاعتقالية  المقاومة ، كمولود أنجب على راحتيه ، وغراس خضر أورقت بين يديه أسقاها من فيض فكره المتدفق ، المعزز بعشرات الأفكار والمواقف المساندة والداعمة له من مئات الاسرى والمناضلين داخل قلاع الأسر ، الى أن اصلب عود تلك الغراس واستوت على سوقها ، فكانت غلالها طيبة من نبع ومنبت طيبان أورث الحركة الأسيرة انتصارات تلو أخرى مكللة بالدم والعرق.

على هذا النحو كانت علاقة أبو علي شاهين بالحركة الأسيره، ولعل أبو علي قدم لنا بهذا البوح الإنساني الجياش تفسيراً ما لحالة التدفق الهائل في عطائه التي عاش تفاصيلها منذ اللحظة الأولى لدخوله الأسر إلى اللحظة الأخيرة لوجوده فيه، طوال الخمسة عشر عاماً التي أمضاها في سجون الاحتلال، لقد كان أبو على شاهين وفقاً لوصف معاصريه من  قاده الحركة الأسيرة، قائداً بمواصفات اسطوريه بكل ما في هذا الوصف من دلالات إنسانية ووطنية وتاريخية.

لقد توزع دور هذا الرجل من الاهتمام بالأسرى حديثي الاعتقال وشد أزرهم ورفع معنوياتهم وتثقيفهم إلى غسل ملابسهم بيديه، إلى الانعزال في زاوية الزنزانة ليكتب أجمل وأعمق ما عرفته المقاومة العالمية داخل السجون من أدبيات وإبداعات فكرية ترقى إلى مصافي الرؤى والأفكار والنظريات النضالية العابرة للزمن والمقاومة للفناء والصالحة لكل عصر وجد فيه الظالم والمظلوم، الاستعمار والثورة، الاستبداد والانعتاق .

لقد أسس أبو على شاهين بخبرته العملية التجريبية وإبداعه الفكري الخلاق، طرقاً ونظريات ووسائل وتكتيكات المواجهة خلف القضبان، وأكد للأسرى الفلسطينيون بأن لأجسادهم العارية قوة تضاهي قوة الرصاص في حسم المعارك والانتصار بها، منطلقاً في ذلك من إدراكه النضالي المبكر للحقيقة القائلة  " إن الحركة الصهيونية حركة قوية جداً يجب علينا أن نعترف بذلك، ولا يمكن أن ننتصر عليها ما لم نكن أقوى منها، فالضعيف لا ينتصر وقوة الحركة الصهيونية متمثلة في محصلة قوتها المادية، أما قوتنا فينبغي أن تكون كامنة في قوة إنساننا، هذا هو الفرق بيننا وبينهم، العدو قوته مادية، وأنت قوتك معنوية، يعني أنك تتفوق عليه معنوياً، لكن كيف يمكن أن تشحن هذه القوة المعنوية لتصبح طاقة قادرة ومؤثرة في قوته المادية، كيف تعزل العدو عن قوته المادية، وتفقده هذه السيطرة التي يتمتع بها ".

في مقدمة تلك الوسائل المعنوية سلاح الإضراب عن الطعام، حيث قاد أبو على شاهين الأسرى الفلسطينيين في أول إضراب عن الطعام عرفته السجون الإسرائيلية في العام 1970م، وفي سجن عسقلان أيضا شارك في قيادة أطول إضراب عن الطعام 11/12/1976 والذي استمر لمدة 45 يوماً، فعاقبته إدارة السجون بنقله إلى العديد من السجون الأخرى وعزله في " زنازين الحبس الانفرادي " لفترات طويلة، واستقر مع قيادة الإضراب في سجن شطا، ثم نقل إلى سجن نفحة الصحراوي الرهيب عند افتتاحه في منتصف 1980م، وكان الأسير الفلسطيني الأول الذي تطأ قدماه أرض ذاك السجن، حيث قام ثانية بقيادة إضراب بطولي عن الطعام دام ثلاثة وثلاثين يوماً، استشهد خلاله الأسيران راسم حلاوة وعلي الجعفري، ولاحقاً استشهد الأسير إسحاق المرغي، ونُقل من السجن قبل الإعلان عن الإضراب بيوم، ومع ذلك بقي قائد الإضراب الفعلي والمعنوي.

وقد اتسع نطاق ذاك الإضراب ليشمل كافة المعتقلات الصهيونية، ومدن الضفة والقطاع، مع مشاركة فعّالة ولأول مرة للقيادة الفلسطينية في بيروت، وشهدت قاعات هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن نقاشات صاخبة ومواجهات دبلوماسية حامية قادتها العربية السعودية حينذاك، وكان مطلب  الأسرى في هذا الإضراب تحسين شروط  وظروف الاعتقال رافعين شعار " نعم لألالم للجوع ،لا وألف لا  لألالم الذل والركوع "، ونقل أبو علي من معتقل نفحة إلى معتقل "شطة" حيث تعرض هناك لاعتداءات فظيعة من السجانين اليهود، إقتضت معالجته طبياً .

وفي التقرير الخاص الذي أعده مدير مصلحة السجون الإسرائيلية في العام 1982م، والمُقدم للمستويين الأمني والسياسي الإسرائيليين، وذلك قبيل الإفراج عن أبو على شاهين بفترة وجيزة، وجدت الفقرة التالية: [ في فترة وجوده في السجن، تمكن عبد العزيز شاهين من أن يبلور لنفسه مكاناً ونفوذاً كبيرين، كأحد قادة " فتح" و" الفدائيين " عامة؛ وعلى امتداد فترة سجنه وبالذات في السنوات الست الأخيرة، برز نفوذ وتأثير أبو علي شاهين على السجناء الفلسطينيين، فإيعازاته وتوجيهاته تحتل مكانة هامة في حياة السجناء، الذين يستشيرونه ويقدمون له التقارير عن كل ما يجري، ويكنون له احتراماً كبيراً ].

وفقاً لهذا المنظور يتضمن هذا الجزء العمل النضالي والتنظيمي لأبو علي شاهين خلال مرحلة الاعتقال؛ فيتضمن بداية النشاط التنظيمي، مساهمته في تطوير العمل التنظيمي في السجون، المحاكمة، الإضراب عن الطعام كوسيلة للمواجهة داخل الأسر، الأمراض تغزو المعتقل رحلته في سجن عسقلان.

أولاً: بداية النشاط التنظيمي .

في سجن الرملة بدأنا أول نشاط تنظيمي، لكنا كنا نعاني باستمرار من مسألة غير صحية، وهي اعتناق العديد من الأسرى لوصفة الجهوية والفئوية ذات الأفق الضيق كأساس لإقامة العلاقات بين الأسرى، وهذه الآفة لا تنظر للقضية إلا عبر هذا الشق الصغير الذي هو نتاج تربية حزبية برجوازية واضحة جداً، لم تكن هذه العقلية قادرة على فهم النقلة النوعية ما بين التربية والحزبية البرجوازية، وما بين التربية الوطنية الثورية، فمنصوص التربية الأولى إن كل ما عداك خطأ، كل ما عداك بينك وبينه نسبة معينة من التناقض والتناحر، أما التربية الوطنية الثورية فتقول بمعادلة الكل الوطني، وتعي مرحلة التحرر الوطني وتضع الجميع في المركب الوطني، وقد كنا نتفاهم على هذه الأرضية، لكننا كنا نواجه بالأفق التنظيمي الضيق، أو الفئوي الضيق، كما كان التنظير الفوقي يسيء إلى الكثير من الشباب المقاتلين ممن اعتقلوا، إساءة طالت مسيرة هؤلاء، وكان ذلك واضحاً.

لقد أدعى البعض بأن لديه تجربة سابقة في المعتقلات العربية، ولكن عندما جاء إلى تجربة المعتقلات الإسرائيلية مُني بالفشل، ذلك لأن الظروف الذاتية والموضوعية كانت مختلفة، وبالتالي فتجربة المعتقلات الإسرائيلية تعتبر تجربة جديدة كل الجدة، وكان علينا جميعاً أن نضع قواعدها وأن نتناكب كتفاً بكتف، ونتكافل ونتعاضد لبناء قواد سليمة وقوية من العمل الاعتقالي، خاصة وأن الرؤيا لدى من يعي الحركة الصهيونية والصراع العربي الصهيوني كانت ترى أن رحلة الاعتقال طويلة، بينما كان يرى البعض الآخر أن سقف هذه الرحلة هو العام 1970، وإن تشاءم فعام 1975، وكان من الطبيعي أن نرى رحلة الاعتقال هذه كجزء من الصراع العربي الصهيوني الذي سيطول ليس لسنين فقط ولكن لأجيال أيضاً، وهكذا يتضح أن المقدمات الصحيحة تؤدي إلى النتائج الصحيحة.

لقد بدأنا في نقاشات موسعة تحددت أطروحاتها في أن حركة الاعتقال هي نتاج مادي لتفاعل القضية الفلسطينية، والتي تشكل جزءاً من حركة الصراع العربي الصهيوني، وإن كانت مركزه أو جزئيته المركزية، ذلك أن الفكر الصهيوني ومطامعه المعروفة لا تتوقف عند حدود فلسطين، بقدر ما تشكل فلسطين نقطة مده واتساعه، فالصراع طويل، علاوة على أن المعادلة الدولية تؤكد استحالة إنهاء الصراع العربي الصهيوني بجرة قلم، من هنا كانت رؤيتنا تستمد هذه الضرورة، ضرورة بناء واقع اعتقالي يستطيع الصمود أمام هذه الهجمة الصهيونية، رغم شدة القمع الممارس في السجون، خاصة القمع الجسماني، وآنذاك لم يكن القمع قد دخل مرحلة التنظيم، إضافة إلى أن الحركة الصهيونية بدأت بأجهزتها الاستخبارية والعليا تدرس هذا الواقع الاعتقالي وتفرز آليته.

كان العدو الصهيوني يريد من الواقع الاعتقالي أن يحيلنا إلى أرقام وكنا نرفض ذلك، ومن هنا بدا الصراع، وكان أمامنا تجارب حركات التحرر العالمية التي نجحت في تأطير إنسانها داخل المعتقلات، وكنا نجزم أن هذا التأطير سيتم بالنسبة لنا، وبدأنا ممارسة هذا التأطير، وهو ربط الإنسان المعتقل بالثورة داخل المعتقل، ذلك أن المعتقل الذي لا يمكن زرع الانضباط في أعماقه لا يمكن أن يكون معتقلاً سياسياً، ولعل أكثر ما واجهنا من صعوبة في هذا المضمار، هو كيف يمكن معاقبة من يخرج عن هذه الانضباطية داخل المعتقل، وطبيعي أن يتعذر ذلك، نظراً للواقع والمحيط الذي يشملنا جميعاً، لكن كان لا بد من البداية التي أخذت زمناً طويلاً عبر الحوار المفتوح والطويل والاقتناع هذه، وكنا في نضالنا اليومي نؤكد على المطالب الأساسية التي لا بد من تحقيقها لنا كمعتقلين، ولقد تمت الزيارة الأولى للصليب الأحمر لنا في شهر آذار 1968م وكنت أول من قابل هذه البعثة، ويذكر أن إسرائيل مانعت وما تزال تمانع في اتصال أي بعثة أو لجنة دولية بالمعتقلين، رغم أن الحركة الصهيونية تصر على أنها ديمقراطية.

لقد بدأنا عملية التأطير هذه، أي نقل التنظيم من الخارج إلى الداخل، أعني داخل المعتقلات، وكان على رأس من شارك في هذه العملية الأخ عبد الحميد القدسي، في سجن الرملة باعتباره كادراً تنظيمياً متقدماً، علاوة على تجربته الاعتقالية السابقة، وقد رافق كل ذلك عمل تثقيفي قصد التوعية بالتاريخ الفلسطيني وتجارب الثورات العالمية، فكانت النقاشات التي شملت بعض الأوضاع السياسية، والثورة، وتاريخ تأسيس الحركة، والأحزاب العربية، وبديهي أن حملة التوعية هذه قد بدأت بشكل مبسط ليسهل استيعابه من قبل الفئات العادية من شبابنا والتي لم تحظ بفرصة التعليم، وقد بدأ نوع من التركيز على فئة من الشباب بدت متحمسة ولديها ثابت وطني وثوري، وكان أغلب هؤلاء ممن صمدوا في التحقيق، وسرعان ما أحست إدارة السجن  بدبيب هذا النشاط، فعملت على نقلي إلى سجن الخليل، وهناك واصلت مع الإخوة طرح المطالب الإنسانية التي لا بد من توفرها، وبعد شهور نجحنا في أن يكون في المعتقل مذياع ووعدنا بالجريدة.

في سجن الخليل كنا نستطيع أن نلتقي بالشباب الذين يدخلون السجن، ونتحدث إليهم، وكان ذلك قبل أن يوجد هناك قسم التحقيق والحجز، فكنا نخوض معهم أحاديث كثيرة، حيث نكشف لهم دور المخابرات وعملها وأساليبها التي توقع من خلالها المعتقل، فمن كان يصل قبل الاعتراف، كنا نحصنه على عدم الاعتراف فكان ينجو من الحكم، ومن كان يصل بعد تقديم اعتراف للمخابرات أو الشرطة، كنا نعرف كيف نوقفه عند هذا الحد من الاعتراف وأن لا يتجاوزه، والبعض كنا نطالبهم برفض الاعتراف المقدم وإنكاره باعتباره كان نتيجة لشدة الضرب، كما حصل مع مجموعة من الطلبة كانوا قد اعترفوا وسحبوا اعترافهم، وكان ذلك سبباً في نقلي من سجن الخليل إلى سجن نابلس.

ثانياً: تطور العمل التنظيمي في سجن نابلس .

يعود تاريخ أول إستحداث تنظيمي في تجربة الاعتقال الصهيوني إلى شهر ديسمبر/كانون أول في سجن نابلس، حيث كان يضم في تلك الفترة حوالي الألف سجين بين موقوف وإداري محكوم؛ لقد تم ترتيب الأوضاع وتوزيع المهام والمراتب التنظيمية، وتبدأ من الخلية بموجه الغرفة في الغرفة، لجنة للمردوان، لجنة للسجن، لجنة مركزية للسجن، موجه عام، كل هذه الترتيبات استحدثت في سجن نابلس، كان العمل جديداً، ومثل هذه التجربة كانت تحتاج إلى متابعة متواصلة من أجل بناء وتكريس تربية وطنية للاستمرار في الثورة والحفاظ عليها، للوصول بالثورة إلى هدف مميز وواضح أيضاً، كل ذلك كان يتم داخل السجن، بينما الإدارة لاهية بما كانت تسرقه من السجن سواء من محتوياته أو مما ينتجه السجناء لقد تم التركيز المركزي على شباب الدوريات لإعدادهم ككوادر فاعلة، باعتبار أنها ستوزع على بقية السجون في الأرض المحتلة.

كنا بعد أن يتم السجان إحصاء العدد، نبدأ اجتماعنا التنظيمي، وكان هذا ليلاً في إحدى الغرف، لقد أصبح السجن خلية عمل للتعبئة الحركية والسياسية والوطنية والثورية، كما أوجدنا جهاز رصد، وجهاز تحقيق، وقمنا بالتحقيق مع بعض العملاء، بناء على معلومات الرصد، وكان التحقيق يسلم إلى التنظيم، حيث يشكل لجنة تكون معنية بإصدار القرار الذي يسلم للتنظيم ليصدق عليه حتى يعتبر نافذاً.

طبيعي أننا لم نأخذ الشكل التنظيمي الموجود في الخارج، فكانت الغرفة هي وحدة الشكل التنظيمي، وبالنسبة لأعضاء اللجنة المركزية للتنظيم فكانوا حسب الكفاءة، ولا يهم أن يكونوا في غرفة واحدة، لكن المهم أن يتوزعوا ليتمكنوا من الإشراف على العمل.

ويذكر أنه في تاريخ 1-1-1969 كان أول احتفال بعيد انطلاقة الثورة المعاصرة نحييه في سجن نابلس، وفي كل الغرف تلى البيان التنظيمي، بيان الثورة، وأعطيت الكلمات لمن عنده القدرة على التعبير، وبعد إلقاء الكلمات بدأت الأغاني والدبكة، لقد كان احتفالاً حقيقياً شاركت فيه كل الفصائل الموجودة في سجن نابلس، واستمر إلى ما بعد منتصف الليل، ولقد فوجئت إدارة السجن بما يجري، وإن كانت لم تعرف الحقيقة كاملة.

ويمكن القول أننا نجحنا إلى حد كبير في مسألة خلق الكادر، وقد لمع بعضهم فيما بعد في مجال العمل الاعتقالي تنظيمياً وأصبح له دور كبير؛ كما أحيينا في السجن ذكرى معركة الكرامة والأول من أيار نفس العام، وبعد الانتهاء من هذا الاحتفال أخذت إلى الخليل حيث ستكون الجلسة الثانية للمحكمة.

في القانون الإسرائيلي لا تحق الزيارة للموقوف إدارياً، أم الموقوف في المحكمة، فمن حقه أن يطالب بالزيارة لكنهم رفضوا طلبي في البداية فأعلنت الإضراب عن الطعام والماء وبعد 48 ساعة من هذا الإضراب بدأت أوضاعي الصحية تسوء لكنني بقيت متماسكاً على الرغم من ضعف بنيتي العام، ولم يستجيبوا في اليوم الثالث، ومر يوم وليلة، حيث غدوت مهدداً بالنهاية، فاستدعيت إليهم، وبينت أنني أطالب بالحق الذي يوفره لي القانون أو أن عليكم أن تغيروا قانونكم، وهددوني بالزنزانة فهددت بمواصلة الإضراب حتى الموت، فأخذوا يماطلونني، واخيراً قال لي الطبيب سأتصل بأهلك ليحضروا، فأعطيته رقم الهاتف، واتصل، وكان أن رأيت أهلي، وزوجتي لأول مرة بعد عام ونصف من سجني، وكنت قد فككت إضرابي.

ثالثاً: المحاكمة .

استمرت محاكمتي لأربعة أيام متواصلة، حيث أُعلنت مدة الحكم، وبعد أن أخذت الوقت المخصص لي بالكلام، وقلت ما قلت أذكر حتى الآن كلمات والدتي لي:

8     يا ولدي، ليس كل رجل يدخل السجن، يخرج منه رجلاً، ها أنت تدخله رجلاً، وأريد منك أن تظل رجلاً، وأن تغادره رجلاً، كنت أبتسم لها فقط، مثلما كنت حين دخلت المحكمة، وحين كانوا ينطقون الحكم.

بعد صدور الحكم، أعلمني الصليب الأحمر الذي كان يحضر المحاكمة أنهم سيأخذونني إلى سجن عسقلان، ذي السمعة الإرهابية السيئة، وحيث تتم عملية إذلال عميقة للفلسطيني السجين، إذ يفرض عليه أن يلفظ قبل وبعد الحديث كلمة سيدي لسجانه، حين وصلت السجن رفضت وبإصرار عنيد وكامل أن أقول للسجان هذه الكلمة رغم كل المحاولات والتهديدات والتعذيب؛ أية حياة يعيشها السجين في هذا المكان المجبول على الحقد والمؤسس لقتل روح الإنسان الفلسطيني، ففي كل لحظة يمكن أن يكون هناك ضرب وتعذيب، وعلى مدار ساعات النهار والليل أيضاً، بالعصي، بأسلاك التلفونات والأيدي والأقدام، لا تعرف من يعذبك، إذ ينهالون أحياناً مرة واحدة عليك، كان الضرب وحشياً.

أعرف في هذا السجن يهودياً مصرياً، وآخر اسمه "كليمونت" كان هذان لا يستعملان في تعذيبهما العصي أو الأيدي، كانا فقط يعضان، يعضان لحم الفلسطيني بشكل وحشي ومَـرَضي، وكنت تحس كأن قطعة من لحمك قد انتزعت بين أسنانهما، إن العذاب الذي واجهه معتقلو سجن عسقلان دفع البعض من الإخوة إلى محاولات انتحارية، وقد حدث هذا بالفعل داخل هذا السجن للتخلص من جحيم عسقلان اليومي.

كان سجن عسقلان مقموعاً حتى النخاع، إلى الحد أن المرء لا يكاد يصدق ما يرى، فبعد انتهاء مدة حجزي في الإكس، وعودتي إلى الغرف، كنت أجلس مرة على الأرض مستنداً بظهري إلى الحائط، فإذا بالمعتقلين يُـحذرونني بأن ذلك ممنوع، وإن عقابه لو رأوك أربعة عشر يوماً في الزنزانة، وسبعة أيام في الاكس، ذهلت لذلك، لكنني بقيت جالساً، جاء السجان ورآني، ونظر فيّ، وما لبث أن عاد قافلاً، وأخذ يتحدث في الهاتف، لم أفهم ما قال، لكن الجلوس والاستناد إلى الحائط لم يعد بعد ذلك ممنوعاً، وبذلك كُسر أول حاجز من حواجز الخوف المنتشرة في عسقلان، وكان ذلك مدخلاً للحديث باتجاه ضرورة المواجهة، لكن ذلك لم يكن سهلاً أمام ما يبثه السجن من هول في نفس المعتقل، ورغم ذلك لا يُعدم وجود العنصر الثوري في هذا المكان، فهو المكان الأكثر خطراً وقهراً والذي يستطيع الثائر أن يُـثبت فيه أنه ثوري بحق، فالثوري الحقيقي هو الذي يعطي وينتج في مثل هكذا مكان، فالمكان هو الدليل على حيوية الثوري.

كان لا بد من التفكير للخروج من إسار الخوف المستشري في هذا السجن، كالإضراب مثلاً، فإن تم، حتى وإن لم ينجح، سيكون العامل الأساسي في كسر حاجز الخوف هذا، وسيكون هذا بحد ذاته انجازاً ومنعطفاً تاريخياً في تجربة الحركة الاعتقالية، لكن النفسيات لم تكن جاهزة لمثل هذه الخطوة، ولم يمنع ذلك من عرض الفكرة على بعض الإخوة فوافقوني، لكن كان هناك الكثير ممن لم يكونوا ليستوعبوا معنى أن تثور ضد هذا الوضع القائم، لقد تم الاعتماد على مجموعة من الشباب كانوا معي في سجن نابلس، وقد تحرك هؤلاء، واستثرت الدعوة والإعداد للإضراب عن الطعام عاماً كاملاً، من حزيران 1969 إلى تموز 1970.

قبل الإعلان عن الإضراب شعرت سلطة السجن بتحركاتنا فقامت بعزلي إلى الاكس، وبعد لحظات، تم عزل أحمد أرشيد، وعمر قاسم، وكنا في اكسات متقاربة، ثم بدأ الشباب الإضراب، وبدأناه ثلاثتنا في الاكسات، فيما بعد حصلت تطورات كثيرة في مسيرة هذا الإضراب، الذي هدف أساساً إلى كسر حاجز الخوف في أي تعامل مع إدارة السجن، وقد تم هذا الكسر نهائياً، رغم أن السجن لم يستجب إلى إعطائنا أي من حقوقنا المطلوبة، ولم يكن ذلك مهماً بالنسبة لنا، أن يستجيبوا، فالمهم كانت حركتنا في اجتياز الحاجز.

وفي هذه المعركة، معركة الإضراب، قدم سجن عسقلان أول شهيد في الاضرابات الجماعية في المعتقلات الصهيونية، وقد سبقه أحد مناضلي فتح الذي كان أعلن اضراباً فردياً في سجن غزة واستشهد عام 1969 وهو الأخ/ أبو عوني.

لقد تركزت القيادة النضالية للسجون في سجن عسقلان نتيجة لتواجد فعاليات اعتقالية ورموز اعتقالية فيه، وكانت هذه الفعاليات والرموز على قدر عال من المسئولية، والواضح أن في كل مرحلة من مراحل السجون، كان يبرز هناك سجن معين، ففي المرحلة الأولى، مرحلة الملحمة والضرب برز سجن الخليل، كذلك برز سجن نابلس.

إن أول صحيفة في تاريخ المعتقلات، ظهرت في سجن عسقلان هذا، وهي صحيفة "عسقلان الثورة" التي أصدرتها "فتح" وكانت تكتب على ورق أكياس اللبن، وتوزع في السجن، نسخة لكل مردوان، وقد تطورت المواد الكتابية لهذه الصحيفة، حيث أصبحت قادرة على بلورة موقف موحد داخل السجن، وتصاعدت في هذا المعتقل أيضاً إقامة المحاضرات والعمل التثقيفي الجاد، مما حدا بإدارة السجن العمل على عزل ما يزيد على عشرين معتقلاً من الفعاليات القيادية، بسبب التحريض ضد ما هو سائد من ممارسات لا إنسانية في السجن، هكذا وجدت نفسي من جديد في الاكس. وبدأت مرحلة أخرى من القمع وبدأ التحدي ، والتصعيد في المواجهة التي انجلت عن انجازات كثيرة.

رابعاً: الإضراب عن الطعام أفضل وسيلة للمواجهة داخل الأسر.

كان إضراب سجن عسقلان هو الخطوة الأولى في رحلة الإضرابات المنظمة في سجون العدو الإسرائيلي، والنقلة النوعية في الصراع الدائر رحاه في ساحات المعتقلات كافة، وقد كان سجن عسقلان نموذجاً خاصاً للإرهاب ولقتل الإرادة الفلسطينية، إرادة التصدي والتحدي، ونستطيع أن نلمس حجم المردود المعنوي لهذا الإضراب، حينما نعلم أن بقية السجون غدت تتساءل، بأنه إذا كان عسقلان وهو على ما هو عليه من قمع قد أضرب، فلماذا نحن لا نضرب؟ وهكذا بدأت الشرارة، شرارة الإضراب، التي هي إرادة التحدي لكل أشكال القتل المنظم والممارس ضد المعتقلين.

في مراحل الإعداد الأخيرة لهذا الإضراب لم يتم الاتفاق حول موعد محدد للإعلان عن الإضراب، فقد اختلف حول التاريخ المحدد له، لكن أحد الشباب ومن باب الغرفة رقم 16 حسم هذا الخلاف حينما كان السجانون يهمون بتوزيع طعام الإفطار، فإذا به يطل برأسه من شباك غرفته ويصرخ بصوت عال: إضراب يا شباب، وكان الإضراب، فقد تعامل المعتقلون مع النداء كأمر اعتقالي وبالتالي الالتزام به، والإضراب، وإن لم يأخذ زمناً طويلاً لكنه كان من أكثر الاضرابات أهمية من الناحية النفسية، وإن لم يكن له انجاز يذكر على الصعيد المادي بالنسبة لأوضاع المعتقلين، إن الواقع الصدامي الذي عشناه في سجن عسقلان كان وليد حالات الإجحاف الهائلة بحقوقنا وبنا كبشر أساساً، ولو وفر العدو في هذا المعتقل وضعاً إنسانيا لنزلائه، لما كانت هذه الحدية في المواجهة، ولصعب علينا أن نتغلغل في نفسية هؤلاء ودفعهم باتجاه الصدام الضروري مع العدو.

إنه لأمر فادح أن لا يتمتع الإنسان العربي بحريته على امتداد مساحة الوطن العربي، لكننا في المعتقلات الصهيونية كنا نتمتع بهذه الحرية، الحرية المقترنة بالإرادة المواجهة لمخطط العدو، ألا وهو محاولة إفراغنا من المحتوى الوطني، والمحتوى الثوري، والمحتوى القومي، والإنساني، والحضاري، وقد عجز العدو تماماً، أمام تكامل أدوارنا جميعاً داخل المعتقلات، لقد بنت المعتقلات نفسها بنفسها دونما دعم من قيادة الخارج، هذه حقيقة أقولها للتاريخ، ولم يبدأ الالتفاف الحقيقي لحركة المعتقلات إلا في الآونة الأخيرة.

صعد معتقلو عسقلان من نضالهم اليومي الموجه، في رفضهم الانصياع إلى وضع اليدين وراء الظهر، أو لفظ كلمة سيدي، ولم يكن ليمنعهم أي عقاب أو تهديد، واستمر النضال من أجل ذلك شهوراً إلى أن تم لهم ما أرادوا، وعبر المفاوضات مع إدارة السجن، كانت الحياة في معتقل عسقلان قاسية، ومثل هذا الوضع شئنا أم أبينا يفرض علينا استمرار تصعيد الأزمة، وكان الانصراف إلى العمل التنظيمي يخفف علينا جزءاً ليس يسيراً من هذه الأزمة، لقد نجحنا في أمور، وفشلنا في أمور كثيرة أخرى بالنظر إلى أننا نخوض في عسقلان تجربة جديدة، وكنا نعرف أن طبيعة الظروف الموضوعية هي التي تعيق من رقي الظرف الذاتي، رغم أن البروز التنظيمي غدا واضحاً في كافة غرف المعتقل، وظهرت هناك عناصر نشطة تلتهم المعرفة التهاماً، وبدأت التجربة في فرز قيادات العمل الاعتقالي، إذ عملت إدارة السجون على نقل الكثيرين من سجن عسقلان إلى سجون أخرى، وقد خدمتنا حركة التنقلات هذه كثيراً، إذ اقتصرت على الفعاليات النشيطة، التي حملت بدورها شرارة هذه التجربة، وراحت تبثها في سجون جديدة وبين معتقلين جدد، في كفاريونا- بيت ليد، وبئر السبع، حيث كانت هناك ضمائر جديدة تتكون، وقد وصل في هذه الفترة إلى معتقل عسقلان دفعات جديدة من معتقل الرملة، نقلوا على إثر نشاطهم هناك، مما ساعدنا في الاطلاع على أشكال تجربة جديدة عمقت من تجربتنا في معتقل عسقلان، سواء من حيث تكريس العمل التنظيمي داخل الغرف أو الإرتقاء التثقيفي الذي أخذ أشكالاً أكثر نضجاً من السابق، كما أخذ التوجه التنظيمي يفرض نفسه بشكل واضح بين المعتقلين.

الإنسان المعتقل والمحكوم عليه في معتقلات العدو الصهيوني، ليس له من مفر إلا أن يخفف من أزمة اعتقاله ما أمكن، ولا يستطيع أن يفعل ذلك بدون علاقات اجتماعية جيدة، وإذا كنا نسعى لفرض الشكل التنظيمي نفسه في المعتقل كنوع من الضبط الأولي، فلأن الضبط المركزي هو للمعتقل وليس للتنظيم؛ من هنا سادت العلاقات الإنسانية الحميمة فهذا بين المعتقلين أنفسهم، وإذا حدث أن نشأ إشكال ما بين اثنين، كنا نتحرك لنضع له حداً فورياً، دون أن نسمح لهذا الأشكال أن يتفرع أو يتسع عن حده الثنائي، ثم تعود الأمور إلى حالتها الطبيعية بين المتشاكلين.

ولعل أسوأ ما حدث في هذا المجال في معتقل عسقلان، هو ما نشأ من خلاف وعراك خرج عن كونه خلافاً وعراكاً شخصياً بين مجموعة من الشباب قدمت إلى السجن حديثاً من قطاع غزة تنتمي إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وكان واضحاً أن هذه المجموعة من الشباب تعوزها التجربة الاعتقالية والتنظيمية والسياسية وأنها تفتقر إلى وعي وتحليل الظرف الذي نواجهه في المعتقل، فقامت هذه المجموعة بافتعال صراع حاد مع عدد قليل من شباب فتح، حيث تم الاستفراد بهم وضربهم بأدوات حادة موجعة، ومنذ البدء شرعنا إلى وضع حد لهذا العراك ما دام شخصياً، موضحين أنه إن كان كذلك، فليس لنا أي حق كتنظيم، وينتهي الإشكال بالتفاهم، والمصالحة، أما أن يكون العراك والضرب تنظيمياً، ويصوت عليه داخل مجموعاتهم التنظيمية، فذلك ما لا يُـغتفر ولا تسامح فيه، إذ كيف تضرب إنساناً بسبب انتمائه السياسي فقط، وفي المعتقل أيضاً؟! فذلك معناه الفوضى الكاملة في المعتقلات، ومعنى هذا أن نقدم حركة المعتقلات ونضالها على طبق من ذهب، وليس من فضة للعدو، وليتفضل العدو ويفعل فينا ما يشاء!

كان ذلك مؤلماً، ومع هذا اتجهنا نحو الحل السليم لجذوره، جذور القضية، واستطعنا أن نوقف عملية التدهور وأن نوظف جل جهدنا لوضع حل ايجابي يضمن فقط كرامة المضروبين، لكنهم رفضوا، مصعدين الأمر، في تهيؤ على ما يبدو لجولة ثانية، وحين عرض عليهم الحل مجدداً، إذا بهم يهددون ويلوحون بالأدوات الحادة التي هيئوها، وازداد الأمر تفاقماً، وكان لا بد من وضع حد بالقوة لكل هذه الفوضى في المعتقل، وعرفت كل السجون فيما بعد أن المرء الذي يضرب أمريء آخر لانتمائه السياسي وليس لخطأ شخصي ارتكبه، لا بد أن يوضع له حد، وأن يضرب ويهان، ويموت على أن يكرس عرفاً جديداً في المعتقلات ألا وهو ضرب الإنسان بسبب انتمائه التنظيمي، فهذه قضية تخالف العرف الديمقراطي، كما تخالف أبسط المفاهيم الديمقراطية التي ينبغي أن تسود بيننا، إذ كيف تجيز لنفسك أن تمارس الإرهاب، ألا يكفي إرهاب العدو، لنضيف إرهاباً آخر علينا؟ هكذا كان لا بد من التصدي لهذا الإرهاب، وقلعه من جذوره، وكان موقفنا مستنداً أساساً على هذا الفهم، حاسماً.

وعلى أثر هذه القضية مباشرة حصل أول تمرد في معتقل عسقلان، واستدعيت قوات العدو من كل الجهات، من السجون، من الشرطة، من المخابرات، حيث تم تطويق السجن الهائج، والتحم كل المعتقلين باختلاف فصائلهم مع القوة القادمة لاقتحام السجن، وقد تم اقتحام الغرف، غرفة غرفة، بالغاز والهراوات، ليبدأ وضع جديد من القمع اللا إنساني ضد كل الاحتلال الصهيوني البغيض.

وقف سجانان إثنان بباب الاكس الذي فتحوه عليّ، وقال أحدهم هذه فرصة أن نقتله الليلة ونرتاح، كنت أفهم أن ذلك كتهديد موجه لي، فتصايحت معهما، وفوجئت بضربة قوية من أحدهما على معدتي مما دفعني لأن أقذف كل ما في جوفي مرة واحدة، ثم هجم علي وأخذ في خنقي، وكنت بدوري قد مسكته من عنقه، في حين بدأ الآخر في ضربي، ثم أخذ يعض يدي إلى أن أفلتهما عن عنق صاحبه، لكن هذا واصل خنقي إلى أن ضاعت قوتي وسقطت يداي فكان أن رماني على الأرض، وكان ذلك فرصة أخرى لضربي كيفما يحلو لهم، ثم أغلقوا عليَّ الباب، وعادوا مرة أخرى وثانية وثالثة في وجبات ضرب متقطعة، أذكر أن نائب مدير السجن، وكان إسمه "هايمن" وكنا ندعوه أبو صلعة نحاس، لم يكتف بالضرب، بل حنى نفسه عليّ وراح يعضني في أسفل ظهري بشكل هستيري، عضة رجل مليء بالكراهية والحقد، وقد استمر علاج عضته هذا طيلة شهر كامل، حيث نقلت إلى سجن الرملة للعلاج بإيعاز من طبيب يهودي استنكر ما رآه وما فعله زملاؤه بالمعتقلين، من إصابات وجروح، ونقل هذا الطبيب بعض الأسرى  للعلاج، كما أشرف هو بنفسه على علاجي، ولم يصدق أبداً أنه يمكن لإنسان أن يعض بهذا الشكل، كما لو أنه كلب حقيقي، فقلت له إنه نائب مدير السجن. هذا الطبيب وقف موقفاً جيداً أمام لجنة التحقيق التي حضرت إلى السجن، لقد احتج هذا الطبيب على عمليات التعذيب التي كانت تتم في المستشفيات بحضور رجال المخابرات، وتم منعها، فمستشفى السجن هو عبارة عن سجن عادي إلا أنه يحتوي على أَسِرّة وشراشف ولا يستقبل إلا الحالات الضرورية والخاصة، ومنه عرفت أنني مصاب بالقرحة، وقد نصحني هذا الطبيب بقوله أنني إذا أردت لرأيي السياسي أن يستمر فعلي أن أعتني بصحتي، وللحق إن هذا الطبيب هو الوحيد من بين الأطباء الإسرائيليين في السجون الذي ما ضرب أحداً من الشباب أثناء العلاج، ولا حاول استغلال أوضاعهم المرضية أو طلب تعاونهم معه مقابل علاجهم كما يفعل غيره، لقد احترم هذا الطبيب من قبل جميع المعتقلين بما فيهم السجناء اليهود الذين لا يميلون إلى شرطة السجن، وقد تبين له فيما بعد أن كثيرين غيري في السجن مصابون أيضاً بالقرحة، فعمل على صرف الأدوية لهم، كان هذا الطبيب استثناء غريباً لقاعدة الأطباء الجلادين والقتلة، وما أكثرهم.

خامساً: الأمراض تغزو المعتقل .

يعاني المعتقلون خاصة من ذوي المدد الطويلة، من العديد من الأمراض المنتشرة في أوساط المعتقلين كأمراض الروماتيزم والقرحة والديسك على سبيل المثال، ويندر أن يوجد واحد من المعتقلين القدامى دون أن يكون مصاباً بواحدة او أكثر من تلك الأمراض أو غيرها، وإن ضيق المكان ومحدودية الرؤية وانغلاق كل شيء حول المعتقل أوجد أمراض العيون، مرض ذبابة العين، كما أوجد أمراضاً سمعية في الأذن، عدا عن مرض البواسير الناتج عن البرودة والنوم على الأرض، وأمراض الكلى، التي تسبب آلاماً حادة لا تطاق، والمسالك البولية والجلدية ، والأمراض الخاصة بالنساء، حيث الافتقار إلى أدنى حالات العلاج، ولعل المرض الرهيب في السجن هو مرض تساقط الأسنان، الذي بدأ يتزايد في أوساط المعتقلين، وينجم هذا المرض عن نقصان الغذاء، فالحياة في المعتقل هي شكل من أشكال المجاعة الدائمة، ويتم كل ذلك في غياب كامل للعلاج، سوى الخلع الدائم للأسنان، فالعيادة مفتوحة فقط لا لعلاج هذه الحالات، بل لاستئصال الأسنان فقط، كما يهدف المعتقل بشكل عام إلى استئصال إرادة وحرية السجين.

ولأننا في السجن لا نعرف الماء الساخن والصابون، فقد انتشرت بيننا الأمراض الجلدية الغريبة، ولا نعرف من أين جاءنا القمل، كمرض قمل العانة الذي يدخل تحت الجلد، ويسبب آلاماً مبرحة كما يسبب أمراضاً جنسية أيضاً، مما أشاع الرعب في أوساط المعتقلين، واستنفر الجميع لمواجهة هذا الخطر الداهم، وقد خلف وجود هذا القمل على السجين أن يظل دائم الحك في جلده، فكنت ترى كل من في السجن وفي وقت واحد يحكون جلودهم كأنهم في سباق منظم، وكانت كل الأمراض الأخرى تبدو هينة بالقياس لهذا المرض الأليم، وإذا ما تعرضنا إلى الأمراض النفسية التي تواجه المعتقل في السجن لشاهدنا إلى أي مدى يتجرد العدو الصهيوني من أية نزعة إنسانية، غير نزعة القتل والتدمير الوحشي، لقد أدخلوا علينا ذات يوم رجلاً فاقد الذاكرة، لا يعرف من هو، ولا أين كان، أو أين هو، لا يعرف أو يذكر شيئاً، ومع هذا بقي في المعتقل، وإذا ما خرجت إلى ساحة السجن فسترى ألواناً كثيرة من الانهيارات العصبية بين المساجين، فلا أحد يعنى بهذه الحالات، لا أحد يسأل عن أحد، ألم نقل أنه الموت المنظم، أنه حكم الإعدام الطويل التنفيذ علينا، هل رأيت طبيباً أو ممرضاً يحمل هراوة؟ رأيت ذلك في إضراب سجن نفحة، كان اسمه "فيلمتن" وهو الآن مدير مستشفى الرملة، هذا الطبيب حمل الهراوة وضربني وضرب آخرين، ووضع الكلبشات في أيدي المساجين، وكان يطعم المضربين عن الطعام بالأنبوب، وبدل أن يضع الأنبوب في المعدة كان يضعه في الرئة، هكذا قتل علي الجعفري وراسم حلاوة، وإسحاق المراغي، كما قتلوا في السجن عمر شلبي الذي هددوه بالعمل معهم، فأتلف عدداً كبيراً من المكاوي، وقد مات تحت التعذيب، لقد قتلوه بوحشية، وشارك هذا الطبيب مع زبانيته في القتل، بالعصي والهراوات، وحين نقل إلى معهد التشريح في أبو كبير، صدر تقرير أنه مات في ظروف طبيعية، هذا التقرير مقدم من قاض وطبيب إداري بحيث لا يمكن نقضه، هذا هو القهر الحقيقي، وهذا هو عدونا، كم من الحالات الشبيهة يمكن سردها، هناك قاسم أبو عسكر الذي استشهد تحت هول وقساوة التعذيب، هناك فريز سهيل الذي علقوه بحبل وقالوا إنه انتحر بشنق نفسه.

كان حمزة وطنياً ومثقفاً، أعني حمزة أبو شعيب، بعد اعتقاله شعر بآلام حادة، ولكن أطباء المعتقل ما أفادوه في شيء ، فظل مجهول المرض، لا أحد يعرف علته، وكان حمزة لا يتوجع لكنهم في النهاية أخبروه أن هناك احتمال قرحة في المعدة، لثلاث سنوات وحمزة يتعذب، والنتيجة أن هناك شيئاً غير معروف؛ كان حمزة يجيد العبرية إجادة كاملة، ويخفي ذلك، في أثناء فحصه اقترح أحد الأطباء إعطاءه الدم، لكن طبيباً آخر رد عليه قاءلاً: إن عالجناه سيعود في يوم ما لإطلاق النار علينا، فقال الطبيب الأول: إن علينا أن ننقذ حياته فهذه مهمتنا، فرد ثانية: إنقاذ حياته يعرضنا للخطر، كان حديثهما بالعبرية، وهكذا قرروا عدم إعطائه الدواء أمام مسمعه، هو الذي بدا أنه لا يفهم شيئاً من نقاشهم.

مرة تقابلت مع حمزة في المستشفى، كنت أراجع بسبب آلام المعدة والظهر، وكان هو يسعى لمعرفة مرضه، كان هناك الطبيب "كوهين" وطبيب السجون ذو الهراوة "زيكل بون" حيث أخبراه أن لا شيء جديداً، كان هناك أيضاً طبيب روسي يدعى "شولانسكي" ، كان معنياً بالأمور السياسية والاجتماعية، ومتفهماً، أخذته جانباً وقلت له: هل يصح ما تراه من عنصرية وقتل متعمد للعربي؟ فقال لي بتعاطف إنه كان صهيونياً حتى جاء إلى "إسرائيل" ليكتشف أنهم كذابون ودجالون، لقد حوّل هذا الطبيب حمزة للفحص، وطلب مني أن أراقبه في السجن وإذا ما لاحظت ظهور ورم ما عليه أن أخبره بسرعة، وبينما كنت أساعد حمزة في الحمام وهو يغتسل لاحظت تورماً في بطنه، فسارعت إلى إخبار الدكتور، فأخذه إلى المستشفى، حيث جرت له عملية تفتيش، وأخبرني الطبيب أن حمزة مصاب بسرطان في القولون، وأنه لن يعيش طويلاً، ذلك أن مرضه في مراحله الأخيرة، وكان يمكن أن يعيش لو تم اكتشاف المرض قبل أن يستفحل، قلت للطبيب من المسؤول عن ذلك؟ قال : الأطباء الإسرائيليون وأنا منهم.

هذه هي اللامبالاة، والقتل المدروس، إذن سيموت حمزة، وستعمل الإدارة على إبعاده إلى أهله، قلت لا بأس فليمت بينهم، كان حمزة ذي إرادة عالية، لقد أخفينا عنه نوع مرضه، قال لي سيخرج ويشفى ولا بد أن يعود ليقاتل من جديد، لم يكن يعرف لماذا يتآكل جسمه، وما الذي يزيده نحولاً، حين دخل المعتقل كان يمتلئ صحة وعافية طويلاً مثل نخلة، ويزيد وزنه على 85 كجم، وإذا بالمرض يهدّه ليغدو مثل شبح، شبح هزيل.

وحين كان يرى نظراتي إليه، كان يقول لي: لا يهمك يا رجل، حتى لو كان مرضي السرطان، سأشفى وأعود للقتال، لقد أخرجوه من السجن يموت؛ رأيته بعد ذلك في المستشفى، كان يشد علي يدي بوهن ظاهر، لكن بكل قوته كأنما يقول كلماته الأخيرة، كأنما يودعني، كان يبدو فرحاً لرؤيتي قبل أن يموت، قال يومها الفلسطيني كالشجرة، يموت وهو واقف، كم كان عنيفاً وملتزماً وجلوداً، ولكن حمزة مات، وهو على السرير، وقتلوه قبل ذلك في المعتقل، حينما تركوه للسرطان ينهش أحشاؤه .

سادساً: في  سجن عسقلان

   يطلق عليه الإسرائيليون سجن (شيكما) بمدينة أشكلون، بينما يطلق عليه الفلسطينيون سجن عسقلان لأنه يقع في مدينة عسقلان القديمة والمسماة بالمجدل، ويقع السجن حاليا وسط المدينة الإسرائيلية السكان، والتي تبعد 20كيلو إلى الشمال من مدينة غزة، وثمانين كيلو إلى الجنوب الغربي من مدينة القدس.

انشأ سجن عسقلان في عهد الانتداب البريطاني على فلسطين كمقر لقيادة الجيش البريطاني في المنطقة، واستعمل كسرايا لاستقبال الوفود البريطانية الرسمية، ويذكر مراسل صحيفة الهيرالد تريبيون أنه تحول لسجن لاعتقال المجموعات التي قامت بمقاومة الانتداب من العرب واليهود على حد سواء.

وفي عام 1968 ناقشت الكنيست الإسرائيلية أوضاع الأسرى الفلسطينيين، واتسم نقاشها بالتطرف خاصة قضية زيادة عدد المعتقلين نتيجة تزايد أعمال المقاومة، وبدأ العمل على تهيئته من مركز شرطة إسرائيل بالمدينة إلى سجن، وبالفعل تم افتتاحه يوم 11/2/1969 بإرسال أول دفعة من المعتقلين إليه وهي خمس وثمانون أسيراً.

اعترفت مصلحة السجون أن هدف إنشاء هذا السجن هو الحد من "الزيادة في الأعمال الإرهابية التي قام بها السكان العرب مما دعا إلى افتتاح منشأ حبس لهؤلاء المخربين"، و قد شددت إدارة السجن معاملتها للمعتقلين مما أدى إلى اعتبار الفلسطينيين إن فتح هذا السجن جاء ليؤدب المعتقلين.

يتكون سجن عسقلان من عدة أبنية كل منها في طابقين ويسمى قسماً، ويتألف السجن من أربعة أقسام في كل قسم خمس غرف، و كل منها يطل على ساحة مربعة الشكل إضافة إلى بناية للخدمات وبناية أخرى لإدارة السجن، في حين تتعامل إدارة السجن على تقسيم السجن لأحد عشر جناح، ويتسع لستمائة وخمسين سجين، وهذا ما يوضح حالة الازدحام الشديد في هذا المعتقل والتي وصلت ذروتها عام 1976.

يعتبر سجن عسقلان حتى مايو 1985 من أكثر السجون التي تضم معتقلين ذوي أحكام عالية فغالبيتهم محكوم عليهم أكثر من خمسة عشر عاماً، وهذا ما يفسر أقوال وزير الشرطة الإسرائيلي شلومو هليل عندما وصف المعتقلين في سجن عسقلان بأنهم " قد اقترفوا جرائم قتل و تخريب ضد إسرائيل عندما كانوا أحراراً وهم اليوم يلقون على إسرائيل القنابل الدعائية ".

استطاعت إدارة سجن عسقلان السيطرة جيداً على المعتقلين في بداية فتح السجن، فقد كانوا منقسمين إلى تجمعات حتى داخل التنظيم الواحد أو حسب الطوابق، ما أدى إلى زيادة الإجراءات ضد المعتقلين، فقد كان يدخل مدير السجن ويدعى (حيوت) إلى الغرف ومعه كلبه، وكان نائبه يمارس ضرب المعتقلين، وكانت ملامح المرحلة الأولى من حياه المعتقلين في السجون تنطبق على معتقلي سجن عسقلان.

خاض المعتقلون الفلسطينيون في سجن عسقلان العديد من الإضرابات عن الطعام وذلك بهدف تحسين ظروف حياتهم، فقد خاضوا إضراباً عام 1970 استمر لمدة واحد وثلاثين يوماً، تكبد خلاله المعتقلون شهيداً واحداً هو الشهيد عبد القادر أبو الفحم والذي قتله الطبيب أثناء إدخال الأنبوب في فمه رغم علم الطبيب أنه مريض حيث اعتقل جريحاً بعد اشتباك مع القوات الإسرائيلية، وكذلك خاض المعتقلون إضرابا عن الطعام عام 1971استمر ما يزيد عن خمسة وعشرين يوما، وتم تعليقه لمدة يومين ثم أعاد المعتقلون الإضراب عشرين يوما أخرى، وكذلك أضرب المعتقلون عام 1976 لمدة خمسة وأربعين يوما، وكان إضراب عام 1977 عن العمل لينهي قضية إلزام المعتقلين بالعمل في المرافق المختلفة.

لقد تعرض سجن عسقلان لكثير من المداهمات والاعتداءات التي كانت تنفذها مصلحة السجون ضد المعتقلين الفلسطينيين، فقد استشهد الأسير عمر السليبى عندما انهال عليه مدير السجن (حيوت) ضرباً حتى الموت عام 1973، وكذلك اقتحام السجن كله ورشه بالغاز المسيل للدموع في 11/12/1981 رداً على قيام المعتقلين الفلسطينيين برفع الإعلام الفلسطينية وترديد هتافات ضد إسرائيل داخل السجن، وتم عقاب كل المعتقلين بحرمانهم من الزيارة أو الشراء من دكان السجن، وتقليص ساعات الفسحة إلى ساعة واحدة، وتقليص عدد عمال النظافة ومنع إدخال الفواكه و الخضروات.

في عام 1985 هاجمت الشرطة الإسرائيلية السجن، مستغلة الإفراج عن قياداته ضمن صفقة تبادل الأسرى مع منظمة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين القيادة العامة، فقامت بإطلاق الغاز المسيل للدموع والاعتداء على المعتقلين بالهراوات مما دفع المعتقلين إلى حرق الغرف، وكرروا إضرام النار في غرفهم مرة أخرى في نهاية عام 1985.

سابعاً: الإضراب الأسطوري عن الطعام في سجن نفحة الصحراوري عام 1980

يرويها الاسير المحرر عبد الرحيم النوباني :

يقع سجن نفحة الصحراوي في صحراء النقب بجنوب فلسطين ويبعد 115 كم إلى الجنوب من مدينة بئر سبع، وحوالي 200 كم جنوب القدس، ويسمي سكان النقب البدو هذه المنطقة بقصر الغزال نسبة لأثار قديمة بهذا الاسم، وتسمي إسرائيل تلك المنطقة (متيسبيه رامون) وبها مطار عسكري بهذا الإسم.

افتتح هذا السجن في الأول من مايو أيار 1980، وكانت فكرة إنشائه تعود إلى عام 1976 سنة الذروة في قضية الازدحام ومطالبة المعتقلين والصليب الأحمر المتكررة للسلطات بحل هذه المشكلة، ولكن افتتاح سجن يتم نقل خمسة وأربعين معتقلاً إليه لن يحل مشكلة ازدحام يعاني منها الآلاف، لكن افتتاحه كان يهدف إلى عزل قادة المعتقلين أو ما تصنفهم إسرائيل بالخطرين، فبعد عدة أعوام من افتتاحه اعترفت إدارة السجون بأن إنشاءه كان لسد الحاجة لحبس السجناء الأمنيين الخطرين وعزلهم عن المراكز السكانية.

أشرف على التخطيط الهندسي لهذا السجن معهد الهندسة التطبيقية (التخنيون)، والذي يخطط للمشاريع الكبرى في إسرائيل، وعليه فليس من المعقول بأن بناءه بمواصفات سيئة بالنسبة للمعتقلين كالاختناق وقلة التهوية أن يكون محض صدفه أو إهمال بل إنه صمم على أيدي علماء الهندسة في إسرائيل؛ حيث وصل الحرص الأمني لحراسة هذا السجن إلى أعلى درجة في التصنيف الأمني الإسرائيلي، و هو غير موجود في أي سجن آخر، وأن هذه الدرجة تشبه تلك التي توضع فيها منشآت البرلمان و مجلس الوزراء والمنشآت الحيوية جدا.

كان السجن يضم قسمين، كل قسم يضم خمس عشرة غرفة، يبلغ مساحة الواحدة منها 650سم×350سم وارتفاعها 260سم، وتحت السقف مباشرة يوجد ست فتحات للتهوية طول كل منها 65سم وعرضها 12سم، أما الباب فهو مقفل تماما وهو من الصاج بدل القضبان، وفى وسطه فتحة طولها 20سم وعرضها 20سم، وتبقى مغلقة طوال الوقت والسجان وحده يفتحها من الخارج، ويقع في الغرفة مرحاض يستعمل لقضاء الحاجة وتنظيف الأواني وكل ما يخص النظافة.

أثار افتتاح هذا السجن بهذه المواصفات حفيظة الرأي العام الإسرائيلي، وهذا ما وجد تعبيراً له من خلال ما نقله مراسلو صحيفتي هأرتس وعل همشمار عما رأوه في ذلك السجن، وتأكيدهم أنه فرض على المعتقلين أن يبقوا في غرفهم ثلاثاً وعشرين ساعة، ولا يسمح لهم بالمشي إلا ساعة في غرفة مقفلة طولها سبعة أمتار وعرضها أربعة أمتار في الوقت الذي كان يعاني غالبيتهم من أمراض القلب، و قد رأتا هاتين الصحيفتين بأعينهم العقارب والأفاعي داخل غرف السجناء.

حرصت مصلحة السجون على تزويد السجن بطاقم يستطيع التعامل مع المعتقلين في هذا السجن الخاص، فقد تم تزويده بطاقم مقداره مائة وثمانون شرطياً يرأسهم العقيد (فاكنين عمرام)، فمصلحة السجون تعرف أن هذا الطاقم الكبير سيتعامل مع قيادات المعتقلين في السجون، بل أن إسرائيل اعتبرتهم الأخطر، حيث كانت تظهر دائما أسماؤهم على رأس القوائم التي يطالب رجال المقاومة بإطلاق سراحهم مقابل أي رهائن إسرائيليين بحوزتهم.

وحرصت إدارة مصلحة السجون على تأكيد هيبتها في تعاملها مع هذا الحشد من المعتقلين، فقد قامت عنوة بتعريضهم لمضخات D.D.T وهي مادة سامة لقتل الحشرات ومن ثم أمرتهم بدخول غرفهم تحت الضرب ونباح الكلاب من حولهم، وكانت هذه الكلاب لا تكف عن النباح بجوار غرف المعتقلين طوال اليوم.

إن إجراءات إدارة السجن تهدف إلى وضع المعتقلين في حالة نفسية صعبة، مما يجعل التفكير بمشاكل السجون الأخرى أمراً صعباً، وكذلك منعهم من محادثة زملائهم في الغرف الأخرى، وكان العقاب لأي سبب فقد دخل زنازين العزل خمسة وعشرون معتقلاً من أصل الخمسة وأربعين في السبعين يوماً الأولى لافتتاح السجن، برغم هذا الوضع الصعب فقد استطاع المعتقلون منذ الأيام الأولى لوصولهم هذا السجن ترتيب أوضاعهم التنظيمية، بحيث اتفقوا على تشكيل لجان لكل تنظيم على حده، وقد تم تشكيل لجنة موحدة وصفها مراسل صحيفة هآرتس بأنها تفرعت إلى لجان نضالية و لجان عمل ولجان تثقيف، ما جعل مراسل صحيفة هأرتس يصف الحالة بـأن " تكون إسرائيل قد أقامت المعهد الفلسطيني العالي لزعماء القومية العربية المتطرفة في المستقبل"، وقد كان عبد العزيز شاهين رئيساً للجنة المعتقلين العامة.

رفض المعتقلون الفلسطينيون أن يظلوا بهذه الأوضاع السيئة، فقد قاموا بالتحضير لإضراب عن الطعام لتحقيق تحسين لأوضاعهم وبدأ هذا الإضراب في الرابع والعشرين من تموز 1980، واستمر مده ثلاثة وثلاثين يوماً، تكبد خلاله المعتقلون شهيدين هما: راسم حلاوة وعلي الجعفري، واستشهاد اثنين آخرين فيما بعد متأثرين بالنتائج الصحية للإضراب وهما: أنيس دوله واسحق مراغه.

1- تحضيرات للاضراب

أدرك الأسرى منذ اللحظة الأولى لتجميعهم في سجن نفحة بأن إدارة السجون تقصد بهذا التصرف تحطيم النواة الصلبة للجبهة الاعتقالية، وأن تحقق لإدارة السجون هذا الأمر فمما لاشك فيه بأن كارثة كبرى ستحل بالحركة الأسيرة وتعيدها إلى سيرتها الأولى من القمع والعذاب، لذا أدرك الجميع بأن الانتصار في المواجهة القادمة هو خيار فردي وجماعي وإجباري ووحيد، فدون ذلك الموت والهلاك البطيء والمذل، وقد استأنفت قيادة الأسرى إطلاق الرسائل إلى المؤسسات والمحافل الدولية والعربية والمحلية معلنة هذه المرة عن موعد الإضراب الشامل عن الطعام وكان يوم 14/7/1980م، وقبل يومين من بدء الإضراب قامت إدارة السجن بنقل الأخ أبو علي شاهين ومعه جبر عمار ومحمد القاق وعبد الله العجرمي ليصبح العدد الإجمالي للأسرى المتواجدين في سجن نفحة والذين سيخوضون الإضراب 71 أسيراً، لكن هذه المجموعة القيادية دخلت مع أسرى سجن نفحة الإضراب عن الطعام في اليوم المحدد له 14/تموز /1980م، من مكانها الجديد في سجن شطه.

وفي مساء يوم 13/7/1980م، حدد الأسرى مطالبهم من خلال رسالة موجهة لإدارة السجن، سلمت في نوبة العدد المسائي لذاك اليوم، قدم فيها الأسرى العديد من المطالب على النحو التالي:

1- بتركيب أسرة للنوم .

2- السماح لهم بإدخال راديو وتلفزيون .

3- بتحسين نوعية وكمية الأكل.

4- السماح لهم بإدخال الكتب والصحف العربية والعبرية

5- بتوسيع نوافذ الغرف بما يسمح لدخول الشمس والهواء الى داخلها

6- التوقف عن سياسة العقاب الجماعي والفردي وعزل الأسرى في الزنازين، وحرمانهم من الأكل إثناء عزلهم، والاكتفاء بتقديم الخبز والماء لهم فقط لا غير .

7- تكون زيارة الأهل مرة كل أسبوعين ولمدة ساعة كاملة .

8- السماح لهم بإدخال الملابس الشتوية والصيفية والأغطية.

9- السماح لهم بشراء أطعمة وأغذية من كانتين السجن غير المسموح بها حتى تاريخه .

10- إطالة وقت ساعة النزهة لتصبح ساعة بدلا من ربع ساعة.

2- وصايا

تم إبلاغ ضابط العدد بأن الأسرى في السجن قد أعلنوا الإضراب عن الطعام اعتباراً من صباح غداً 14/7/1980م، وقد قام بعض الأسرى وأنا منهم بحلق رؤوسهم على الشفرة وذلك لعدة أسباب منها أن الشعر خلال الإضراب يأخذ بالتساقط، وتحسباً لأية محاولة قمعية من جانب إدارة السجن التي تستخدم أسلوب شد الشعر أثناء التعذيب في زنازين العزل والتحقيق، وقسم أخر من الأسرى انصرفوا لكتابة وصاياهم لأنهم كانوا على يقين بأنهم سيستشهدون في هذا الإضراب وكان من بين اؤلئك الأسرى الذين كتبوا مذكراتهم كل من الشهيد " راسم حلاوة " و " علي الجعفري " اللذان استشهدا في اليوم العاشر للإضراب، وتعاهد كافة الأسرى على الصبر والصمود وعدم الرضوخ لمحاولات الإدارة كسر أرادتهم وإضرابهم .

قبل بدء هذا الإضراب تمكن الأسرى من الحصول على جهاز راديو صغير قام بتهريبه لهم أحد السجناء اليهود المدنيين مقابل المال وقد تم إخفاء الراديو في مكان سري وكلف أحد الأسرى بالاستماع للراديو وتدوين ما يسمع لتتم كتابته وتعميمه على الأسرى بما في ذلك أخبار الإضراب الذي يخوضونه، في اليوم الثاني لبدء الإضراب قام رؤساء البلديات الوطنيون بسام الشكعه وإبراهيم الطويل وفهد القواسمي ومحمد ملحم وكريم خلف ووحيد الحمدالله بمحاولة لزيارة الأسرى في السجن، إلا أن إدارة السجن أوقفتهم جميعاً على بعد مئات الأمتار من السجن ولم تسمح لهم بزيارتنا، وبعد يوم واحد على هذه الواقعة سمعنا عن محاولة الاغتيال الجماعية المعروفة لرؤساء البلديات المذكورين، والتي فقد فيها الأخ المناضل بسام الشكعه ساقيه بعد إنفجار إحدى العبوات الناسفة التي زرعتها المخابرات الإسرائيلية في سيارته، وعمت المظاهرات الجماهيرية الحاشدة كافة المدن الفلسطينية، وقدم المندوب السعودي في الأمم المتحدة السيد ( أحمد خليل عبد الجبار ) طلباً لأمين عام هيئة الأمم المتحدة ( كورت فالدهايم ) لدراسة الأوضاع في سجن نفحة وإرسال لجنة أمميه لتقصي الحقائق داخل السجن .

ومن المفيد هنا الإشارة إلى أن مدير السجن كان أحد الضباط السابقين في سجن بئر السبع وإسمه ( عميرام ) وهو يهودي يمني، في سجن بئر السبع تعرض للضرب المبرح من الأسرى، إبان الفترة التي عرفت في سجن بئر السبع ( بتأديب شرطة وضباط إدارة السجن في العام 1976م ) ردًا على تجاوزات واعتداءات إدارة السجن الوحشية بحق الأسرى حينذاك، لهذا السبب كان هذا المدير عدوانياً وشرساً في تعامله مع أسرى سجن نفحة .

ومن الجدير ذكره هنا أيضاً بأن وكالات الأنباء والإذاعات العربية والغربية قد بثت تصريحاً للمتحدث الرسمي بإسم الجبهة الشعبية بسام أبو شريف قبل بدء الإضراب بثلاثة أيام مفادة " بأن إدارة سجن نفحة قتلت 26 أسيراً من الأسرى المضربين عن الطعام "، وكان هذا الخبر منافيا للحقيقة تماماً، وقد أثار لدى الأسرى مزيداً من القلق والخوف من استغلال إسرائيل لهذا التصريح وتنفذ اعتداءً حقيقياً ضد الأسرى طالما أن الخبر قد انتشر .

3- محاولة لكسر الاضراب

في ظهيرة يوم 21/7/1980م وهو اليوم التاسع للإضراب قامت إدارة السجن بإطلاق نداءً جديداً للأسرى عبر السماعات المثبتة داخل الغرف، مفاده بأن عليهم الاستعداد، وبعد ساعة تقريباً حضر إلى غرف السجن أحد ضباط إدارة السجن ومعه ضابط الاستخبارات وقام بتسمية ست وعشرون أسيراً وطلب منهم الاستعداد مع أمتعتهم، وهو نفس عدد الأسرى الذين أعلن بسام أبو شريف عن استشهادهم قبل بدء الإضراب، وقد اخرج الأسرى إلى باحة السجن وكان بانتظارهم سيارة نقل الأسرى ووحدات القمع الخاصة بالسجون وجنود من الجيش الإسرائيلي، وطلب من الأسرى نزع ملابسهم تماماً استعداداً للتفتيش داخل غرفة فارغة، وفي هذه الغرفة التقيت للمرة الأخيرة بالأخ راسم حلاوة، وأثناء انتظارنا لشرطة السجن التي ستجري عملية التفتيش قال لي الأخ راسم " يا أخ أبو النوب اقترب مني لنتحدث قليلاً، الله يعلم هل سأراك بعد هذه المرة أم لا !! " وبعد أن اكتمل عددنا في هذه الغرفة على 26 أسيراً، تم إخراجنا اثنين اثنين إلى ساحة السجن وتم تكبيلنا كل اثنين مع بعضهم البعض، لنبدأ مشواراً جديداً من اللكمات والركلات والشتائم الموجهة لنا من قبل الجنود والشرطة الذين رافقوا سيارة النقل، وتحت وطأة الضرب والسب طلب منا الصعود إلى حافلة النقل الخاصة بالسجون " البوسطة "، ولم يكن لدينا أية فكرة عن وجهة السيارة، وخلال هذه الرحلة واصل الجنود والشرطة المرافقين لنا سبهم وشتمهم لنا وقال لنا أحدهم " بأن إسرائيل استطاعت شراء أسلحة بثمن الأكل الذي امتنعنا عن تناوله "، فرد عليه من بيننا الأسير على الجعفري رداً قوياً ومناسباً.

4- الموت بانتظارنا في سجن الرملة .

بعد مرور أكثر من ثلاث ساعات على إنطلاق هذه السيارة من سجن نفحة توقفت بالتدريج أمام أبواب تفتح وتغلق وأصوات كثيرة تتعالى من حولنا، فوقف أحد الأسرى وألقى نظرة من شباك السيارة المتواجد في أعلى جدارها فعرف إننا في سجن الرملة، وعندما بدأنا بالنزول من السيارة كان بانتظارنا في باحة السجن سربين متقابلين من الجنود والشرطة الذين بدأوا بضربنا بشكل شديد ومخيف، وكان من بينهم مدير السجون العامة حينذاك ( حاييم ليفي )، ولاحقاً عرفنا بأن مدير هذا السجن اسمه " روني نيتسان " وكان أحد المجرمين البارزين الذين عرفتهم الحركة الأسيرة، وفي وقت لاحق لقي مصرعه على يد أحد السجناء اليهود، بسبب ظلمه وبطشه، بعد الإنتهاء من إتمام الإجراءات الصحية الشكلية مثل التوزين وقياس الضغط في عيادة السجن التي ستصبح لاحقاً مسرحاً مفتوحاً للتنكيل والقتل، تم توزيعنا على 26 غرفة في أحد أقسام سجن الرملة، أي بمعدل سجين واحد في كل غرفة، وهي غرفة خالية من أي فراش تماماً باستثناء قطعة رقيقية من الإسفنج تسمى"جومه"  بحجم فرشة البرش، وطلب منا الجلوس على تلك القطعة وعدم الوقوف وعدم الاقتراب من الباب نهائياً.

بعد مرور أقل من ساعة واحدة على دخولي لهذه الغرفة سمعت صوت صراخاً عالياً مدوياً قادماً من بعيد، ولم أعرف من هو صاحب ذاك الصوت لكن أدركت بأنه يخص احد أفراد مجموعتنا القادمة من نفحة، وتكرر هذا الصوت مراراً، ومع تعاليه تزداد حيرتي وقلقي على صاحبه وخوفي من القادم المجهول، لكن هذه المرة سمعت صوت مجموعة من الجنود كأنهم يسحبون جثة أو جسداً محطماً على الأرض، وقد تعالت في هذه الأثناء أنات وأهات العديد من الأسرى الموزعين على الغرفة المجاورة والملاصقة لغرفتي، فتأكدت من أن تعذيباً شديداً يمارس في هذا القسم بحق الأسرى المضربين عن الطعام الذين تم إحضارهم من نفحه، أخيراً فتح الشرطي باب غرفتي وطلب مني الخروج فخرجت وإذ بي أقف في عيادة السجن وأمام مسئول العيادة واسمه " رافي روميه " وسجان أخر اسمه " نواف مصالحة " ومجموعة أخرى من رجال الشرطة مفتولي العضلات، وطلب مني أن أجلس على كرسي فجلست وكان أمامي صحن من الأكل فطلب مني مسئول العيادة أن أكله مرتين فرفضت، فقال لي أنت حر، في هذه الغرفة لمحت ومنذ اللحظة الأولى لدخولي إليها طنجرة كبيرة جداً مثبتة فوق غاز للطبخ، لاحقاً عرفت بأنها مملؤة بالماء والملح المذاب، بعد ذلك قام مسئول العيادة بإحضار جهاز يشبه جهاز تنضير المعدة، وهو عبارة عن علبة في أسفلها بربيش طويل يمكنه وصول المعدة إذا أُدخل من الأنف أو الفم، وهذا الجهاز إسمه " الزوندا " لكن في هذه العيادة لن يتم إدخال الطعام إلى داخل معدة الأسير المضرب لأن العيادة أصلاً لم يكن فيها طعاماً معداً من اأجل هذه الغاية، إنما المعد والمجهز لنا سلفا هو ملح وماء مغلي تماما، وتم تثبيتي وربطي بالحبال على الكرسي الذي أجلسوني عليه وبدأوا بإدخال البربيش من فتحة انفي بقوة وفظاعة بالغتين، وأخذت الدماء تنهمر من أنفي إلى داخل فمي فامتلىء قميصي وصدري بالدماء، وهنا شعرت بأن البربيش اللعين قد وصل إلى قاع معدتي الخاوية، بعد ذلك سكبوا في العلبة من الطنجرة مباشرة الماء والملح المغليان، في هذه اللحظات تذكرت أمراً هاماً وهو أن زميلاً لي ومن الذين نقلوا معي من نفحة الى الرملة واسمه " هاني العيساوي " قال لي يا أبو النوب " أنا سمعت ( لفينات ) وهو ضابط برتبة رائد في سجن نفحة يوصي جنود البوسطة ضدك فكن حذرا "، ومما زاد من يقيني بأن إدارة سجن الرملة عاقدة النية على قتلي فعلا، ما قاله لي أيضا أثنا التعذيب السجان ( نواف مصالحة ) يا نوباني فك إضرابك لإن ( رافي ) يريد قتلك .

5- استشهاد علي الجعفري وراسم حلاوة واسحاق مراغة

على أية حال ما حصل معي هو نفسه ما حصل مع كافة الأسرى الـ 26، لكن ما حدث مع راسم حلاوة وعلي الجعفري وإسحاق المراغة كان مختلفاً قليلاً حيث استقر بربيش الزوندا في رئة ثلاثتهم بدلاً من المعدة، وقد سكب الماء والملح المغليان داخل الرئة مباشرة فتم حرقها وتدميريها على الفور، في ضحى اليوم التالي 22/7/1980م، نادي منادي من خارج القسم الذي نوجد فيه، واعتقد أنه كان أحد السجناء الجنائيين العرب من العاملين في مرافق إدارة السجن الخارجية، وقال بصوت حزيناً مدوياً " يا سجناء نفحة صباح الخير، أخبركم بأن علي الجعفري قد استشهد " وفي مساء ذات اليوم نادى ذات المنادي المجهول قائلاً " يا سجناء نفحة مساء الخير، أبلغكم بان راسم حلاوة قد استشهد " وهكذا طوي اليوم الأول لوجودنا في سجن الرملة بسقوط شهيدين، وإصابة بالغة في رئة الرفيق إسحاق المراغة الذي تعرض لما تعرض له الشهيدان علي وراسم من تعذيب وتنكيل في عيادة السجن، لكن جسده تحمل تلك الإصابة، واستشهد في وقت لاحق من العام 1983م متأثرا بتلك الإصابة القاتلة .

بعد إصابة الأسرى الثلاثة علي وراسم وإسحاق قامت إدارة السجن بجمعهم في غرفة مجاورة لعيادة السجن تسمى غرفة الانتظار، وفي وصف حالته وحالة الشهيدين قال لي الرفيق إسحاق بعد أن جمعتنا مجدداً إدارة سجن الرملة في ذات القسم بعد سقوط الشهيدين ما يلي : " بعد أن أُدخل ثلاثتنا إلى غرفة الانتظار إستلقينا من فرط تعبنا وإرهاقنا على معقد خشبي كان في تلك الغرفة، وكان الألم يمزق صدورنا وأحشاؤنا تمزيقاً شديداً، لكن التعب كان بادياً أكثر على ( علي الجعفري ) الذي تمسك بقضبان الباب الحديدي وهو يصرخ بصوته المرهق على سجان القسم تارة وطبيب العيادة تارة أخرى، لاستعجالهم في تقديم الإسعاف والعلاج له ولنا، وفجأة، قال لي: " يا أبو جمال إنني أموت، إنني أموت "، وحاولت أن اهدأ من روعه ورفع معنوياته وشد أزره، لأنني لاحظت عليه أمراً مختلفاً لم أشعر أنا به، رغم أن إصابتنا واحدة .

من جديد يصرخ علي الجعفري ويقول " لقد وصل الموت إلى قدمي يا أبو جمال، فلم أعد أشعر بهما فهما باردتان كالثلج يا أبو جمال"، وأنا ليس بيدي شيء أفعله سوى إنني قلت له لا تخف يا على ها هو الطبيب قادم لا تقلق، وفجأه قال علي مرة ثالثة وأخيرة، " لقد وصل الموت إلى يدي يا أبو جمال "، وأنا المرهق مثله يقول أبو جمال اغرورقت عيناي بالدموع وأنا أرى الأنفاس الأخيرة تخرج من رئته المدمره إلى أنفه الذي مزقته برابيش الزوندا وفتحت في داخله أقنية للدم والألم، في الأثناء مال راس على الجعفري على كتفه الأيمن ويداه الباردان ما زالتا تمسكان بقضبان الباب الحديدي اللعين، حيث سالت نفسه الكريمة وفاضت روحه الطاهرة إلى باريها وهو واقفاً كشجرة نخيل عاشت مئة عام واقفة بعد جفافها، أرحنا جسد الشهيد على الأرض واستبد بناء البكاء والعويل،  وللحظة نسينا أنا وراسم أننا شركاء الشهيد بذات المصير.

وعلى الفور دخل الجلادون إلى الغرفة ونقلوا الشهيد ونحن معه إلى العيادة، لم تمضي سوى ساعات قليلة حتى ارتقت نفس راسم حلاوة إلى باريها، واستشهد هو وعلى الجعفري في ذات اليوم 22/7/1980م، سقط علي الجعفري بطل نفحة وبطل عملية جبل القرنطل الأسطورية، وترك خلفة تاريخاً مشرفاً من العطاء والتضحية، ورافقه في رحلة الخلود رفيقه وصديقه الشهيد راسم حلاوة، وعن علي الجعفري أيضاً قال لي أخي وصديقي أبو علي شاهين ذات يوم أمراً في منتهى الأهمية " ما زلت أذكر علي الجعفري الذي كان يرجو في إضرابات سابقة على أن لا يستعمل معه الأنبوب لسبب ما، فقد كان له رأياً بأن شرب الحليب إذا كان مسموحاً فلنشربه مباشرة بدون الأنبوب، وكأنه كان على يقين بأنه سيكون ضحية ذاك الأنبوب اللعين، لقد استعملوا معه الأنبوب هذه المرة كرهاً، وضعوه في رئته وصبوا الماء والملح ما أدى إلى استشهاده في نفس اليوم، أما راسم حلاوة، صاحب البنية القوية، الذي كان يحمل الواحد منا مثلما يحمل عصفوراً في يديه، استشهد هو الآخر في نفس اليوم بسبب الأنبوب، وأيضاً المناضل الكبير اسحق المراغة، الذي أحدث له الأنبوب نزيفاً داخلياً حاداً، استشهد على أثره فيما بعد.

6- تضامن وغضب

انتشر خبر الشهداء في كافة أنحاء فلسطين وخرجت التظاهرات الجماهيرية الغاضبة إلى الشوارع، وتناقلته باهتمام بالغ منظمات وهيئات حقوق الإنسان عبر العالم وداخل إسرائيل نفسها، وأصبح موقف إدارة السجن في منتهى الحرج، وحضر إلى السجن مجموعة من المحامين عرف من بينهم المحامية المعروفة ليئا تسيمل التي قابلت الأسير المصاب ( إسحاق مراغة )، وقدمت هذه المحامية الإسرائيلية التقدمية وصفاً مثيراً لحالة الأسرى في سجن الرمله أمام الرأي العام الإسرائيلي والعالمي، وفضحت أمر حكومة " مناحيم بيغن " و وزير داخليتة " يوسف بورغ " و مدير السجون العامة " حاييم ليفي " لتورطهم المباشر في تنفيذ عملية القتل في سجن الرملة، فارتفعت وتيرة الضغط في العالم تضامناً مع مضربي نفحة .

إن أهم ما كان في قضية نفحة، هو أن قيادة الثورة الفلسطينية تبنت هذا الإضراب تبنياً كاملاً، بالرغم من أنه لم يكن لهذا الإضراب أي هدف سياسي أبداً ، فقد كان الهدف الوحيد هو تحسين مستوى الحياة للمعتقل الذي لم يحظ بأدنى حق من حقوق الإنسان، ونجح إضراب نفحة، وأعطى نتائج ملموسة وغير كثيراً، والأهم من ذلك أنه أسقط مدرسة القمع والإرهاب وأفرغها وكسر الشوكة، وأثبت أن شعار نفحة المرفوع " نعم للجوع، لا للركوع" هو شعار النضال الاعتقالي، كما أثبتت معركة الأمعاء هذه إرادة المعتقل الفلسطيني وصموده في وقفة منيعة واحدة، لم يتخللها ضعف، أو خلاف داخلي.

 

7- استمرار الإضراب

في صباح اليوم التالي لسقوط الشهداء 23/7/1980م، فوجىء الأسرى المضربين بإدخال عربة مطبخ محملة بطنجرة حليب معدة للأسرى المضربين، وقبل ذلك كانت إدارة السجن قد أنهت عزل وتوزيع المضربين عن الطعام على الغرف وقامت بإعادة توزيعهم على الغرف بمعدل كل ستة أسرى في غرفة واحدة، وكان لدينا موقف سابق من تناول الحليب خلال الإضراب، والقاضي بأن تناول كاس الحليب لا يفسد ولا ينهي الإضراب عن الطعام، وقد سبق للمحكمة الإسرائيلية العليا أن أيدت هذا الرأي بناء على التماس قدمه الأخ أبو علي شاهين في العام 1979م، وقد قامت إدارة السجن بهذه الخطوة في محاولة منها لامتصاص نقمة الأسرى وغضب الشارع الفلسطيني .

من المهم ذكره هنا بأن إضراب سجن نفحة قد بدا مع حلول شهر رمضان المبارك من ذاك العام، ومع سماح إدارة السجن لنا بتناول الحليب خلال الإضراب أصر بعض الأسرى على صيامهم أثناء الإضراب عن الطعام أي أنهم كانوا يتناولون كأس الحليب بعد أذان المغرب، بعد ذلك بأربعة عشر يوماً عدنا إلى سجن نفحة، حيث ما زال الإضراب هناك مستمراً، بعد مرور 27 يوماً على بدئه، وواصلنا الإضراب مع بعضنا البعض وقد انتهى شهر رمضان وأمضينا العيد مضربين .

8- تعليق الإضراب .

في ثالث أيام عيد الفطر السعيد، وهو اليوم الثالث والثلاثين لبدء الإضراب وكان الموافق 16/آب /1980م، قامت إدارة السجن باستدعاء لجنة الحوار الاعتقالية وكان على رأس تلك اللجنة الأخ المناضل خليل أبو زياد، وفي مكاتب الإدارة كان بانتظارهم لجنة مكونة من ممثلين عن لجنة المحامين العرب وممثلين عن الصليب الأحمر وممثلين عن مديرية السجون العامة، وبدأ نقاشاً مستفيضاً بين ممثلو الأسرى واللجنة المذكورة استمر حتى نهاية عصر ذاك اليوم، ومن الجدير ذكره هنا بأن قادة الأسرى في نفحة رفضوا سابقاً مقابلة لجنة منفردة من مديرية السجون العامة لوحدها لبحث مطالب الأسرى، وقد كانت استجابة اللجنة الحالية لأكثر من 95 % من مطالب الأسرى كفيلاً بأن تدفع لجنة الحوار الاعتقالية للموافقة على تعليق الإضراب، وقد عادت اللجنة الاعتقالية إلى السجن، ووقف الأخ خليل أبو زياد بين الغرف وقال مخاطباً الأسرى بما يلي :-

" أيها الإخوة أيها الرفاق، مبروك نصركم لقد استجابت مديرية السجون العامة لمطالبنا، وبناء عليه قررت اللجنة النضالية العامة تعليق الإضراب لمنح إدارة السجون فرصة لتنفيذ ما وعدت به" ومن أبرز تلك المطالب أذكر الأتي :-

1- الموافقة على تركيب أسرة نوم في السجن.

2- الموافقة على إدخال أجهزة تلفزيون.

3- الموافقة على إدخال أجهزة راديو .

4- الموافقة على توسيع الفتحة في أبواب الغرفة الحديدية لتصل إلى نصفه تقريبا .

5- الموافقة على إدخال المزيد من الكتب والصحف العربية والعبرية.

6- الموافقة على زيادة وقت النزهة ليصبح ساعة في كل مرة أي بمعدل ساعتين يومياً.

7- الموافقة على تخصيص غرفة للزيارة، وزيادة وقت زيارة الأهل ليصبح 45 دقيقة كل أسبوعين.

8- الموافقة على علاج المرضى من الأسرى بما تتطلبه حالة كل منهم .

9- الموافقة على عمل الأسرى في مطبخ الأسرى، والمردوان .

10- الموافقة على إدخال الملابس الداخلية والأغطية من خلال زيارات الأهل.

11- الموافقة على التنقل بين الغرف وزيارة الأسرى لبعضهم البعض .

9- مثار اعجاب

بعد هذا الإعلان أمر مدير السجن مساعديه بإعادة السكر والشاي والقهوة والدخان إلى أقسام السجن، وفي مطبخ السجن تم إعداد وجبة من الحليب والزبدة، يتم تناولها مساءً من قبل كافة الأسرى، في صباح اليوم التالي أحضرت لنا إدارة السجن وجبة مكونة من حليب مخلوط بالزبدة وخبز محمص وفول، فقام الأسرى بإعادة الفول لأنه لا يلائم حالة الخارجين من الإضراب عن الطعام، كما أن الأخ خليل أبو زياد طلب من إدارة السجن السماح للأسرى جميعاً بالخروج إلى ساحة السجن لتناول وجبة الغداء بشكل جماعي والسلام على بعضهم البعض، فسمحت الإدارة بذلك، ومع اقتراب موعد تناول وجبة الغداء وخروج الأسرى إلى ساحة السجن فوجئوا بوجود أعداد كبيرة من الزوار الإسرائيليين من المدنيين والعسكريين والصحفيين، قسم منهم اعتلى سطح السجن وقسم أخر يتجول بين الغرف والأقسام، وقد جاء هؤلاء إلى سجن نفحة لرؤية الأسرى الذين تمكنوا من الصمود بلا طعام 33 يوما، ولعل بعضهم أو كلهم توقع أن يقوم الأسرى بالهجوم على أواني الطعام لحظة دخولها إلى ساحة السجن كالغيلان الضارية من شدة جوعهم وعطشهم، لكن ما قام به الأسرى أثار عجب واستغراب وتقدير اؤلئك الزوار حيث جلس كافة الأسرى على شكل حلقة مفترشين الأرض، باستثناء ثلاثة منهم، كلفوا بسكب الغذاء في الصحون وتوزيعها بالترتيب على الأسرى الجالسين بانتظام .

وأذكر أن تلك الوجبة كانت مكونة من بطاطا مسلوقة ومهروسة تماماً وخبز محمص وشوربة، ولم يتناول أي أسير لقمة واحدة إلا بعد أن أعطى الأخ خليل أبو زياد الأمر بذلك، فخرج كل من كان في سجن نفحة في ذاك اليوم من الزوار بانطباع في منتهى الأهمية عن الأسرى الفلسطينيين سيعيش معه حتى الموت، وقسم منهم وثق ما رأى في كتب ودراسات قاموا بإعدادها لاحقا، ونحن سمعنا على الفور بأذاننا تعليقاتهم على ما رأوه كمثل " أي جنود هؤلاء الذين يتصرفون بهذه الانضباطية العالية " و " أن هؤلاء الأسرى سيشكلون أعمدة الدولة الفلسطينية " .

10- مقبرة الشهداء

وهكذا إنتهى إضراب سجن نفحة الأسطوري والذي شاركهم فيه كافة الأسرى الفلسطينيين، وخاصة سجن عسقلان الذي استشهد فيه الأسير " أنيس دولة " بعد إنتهاء الإضراب بأيام قليلة وبالتحديد في يوم 26/8/1980م، متأثراً بما ألم به من تعب ومعاناة جراء خوضه للإضراب التضامني مع أسرى سجن نفحة، وقد تلي هذا الإضراب بإضراب جزئي أخر استمر لمدة سبعة عشر يوماً بسبب تلكؤ إدارة السجن في تنفيذ المطالب المذكورة وأخيراً تم إنجازها كلها باستثناء جهاز الراديو الذي تحقق خلال إضراب سجن جنيد 1984م، أما جثامين الشهداء على الجعفري وراسم حلاوة وأنيس دولة وإسحاق المراغة فإنه تم دفنها في مقابر الأرقام وسلمت لذويهم في العام 2011م أي بعد مرور 31 عاماً على استشهادهم.

ثامناً: سجن شطه

    يقع سجن شطه في غور الأردن بجوار بلدة بيسان الفلسطينية الواقعة جنوب بحيرة طبريا التي سماها الإسرائيليون بيت شأن، ويعود إنشاء هذا السجن إلى قلعة خان التي بناها العثمانيون ومن ثم استعملها الجيش البريطاني، إلى أن حولتها إسرائيل عام 1953 إلى سجن أطلقت عليه شطه، وهذا الموقع يجعل من العيش بالظروف الطبيعية أمراً صعباً لارتفاع درجة الحرارة التي تصل إلى أكثر من 40 درجة صيفاً، فضلاً عن جفاف الجو، فهي منطقة منخفضة عن سطح البحر.

وفي عام 1958 حدث تمرد المعتقلين العرب حيث استطاعوا قتل إثنين من السجانين هما الكسندر يغر ويوسف شيفاح، وبعدها قامت مصلحة السجون بتعزيز الإجراءات الأمنية للسجن من جميع النواحي، وزادت من الطاقم العامل به ليصل إلى ثلاثمائة شرطي .

مارس المعتقلون الفلسطينيون في هذا السجن حياه تنظيمية سياسية في وقت مبكر مقارنة مع السجون الأخرى، وكان ينقل إليه قادة السجون الأخرى عند حدوث إضرابات عن الطعام، أو صدامات مع الإدارة في تلك السجون، ويتكون هذا السجن من أربعة أقسام؛ يحيط به سور من الباطون المسلح بارتفاع أربعة أمتار، ويعلوها سور من الأسلاك الشائكة المكهربة، يتخللها ستة أبراج مراقبة، كما يوجد في السجن غرف عزل ضيقة وتقع تحت سطح الأرض وليس بها أي فتحات للتهوية.

إن طبيعة الحياة في تلك المنطقة تعكس حاجات المعتقلين خاصة تلك الناتجة عن البيئة كدرجة الحرارة، وبناءً عليه فقد عانى المعتقلون كثيراً من الأمراض الجلدية المزمنة، وعدم توفر أدوات ووسائل النظافة الكافية وكذلك الأجواء التي يمكث فيها الأهالي عند زيارتهم لذويهم.

وقد ارتفعت قوة البناء التنظيمي للمعتقلين بعد نقل عدد من قيادة المعتقلين من سجن عسقلان إلى سجن شطه في ديسمبر 1978، مما أدى إلى حدوث إضراب جديد في سجن شطه حقق فيه المعتقلون العديد من الإنجازات خاصة إعادة الكتب والملابس الداخلية وإخراج من كانوا في العزل منذ شهر ونصف من قادة المعتقلين، وهم محمود القاضي، محمد مهدي بسيسو وعبد العزيز شاهين وعبد الله العجرمى.

فكر العديد من المعتقلين الفلسطينيين بالهرب من هذا السجن، وعليه فقد اتفق عدد من قادة السجن على خلع باب الغرفة والهروب في وقت تبديل قوة الشرطة، إلا أن أحد السجناء الجنائيين كشف الأمر وتم إحباط المحاولة، وإنزال سكان الغرفة إلى زنازين تحت سطح الأرض لمدة شهر ونصف.

**********************************************

 

 

 

الفصل الثالث/ أبو علي شاهيــــن يتـــحــدث

لقد ترك أبو علي شاهين إرثاً طويلاً من النضالِ والفكرِ والفلسفةِ، لقد صاغ " رؤية قائمة على تجربة الماضي وشروط الواقع، رحل "شاهين" وترك مخزون سياسي وثقافي وإرث للفلسطينين بشكلٍ خاص والأمة العربية بشكلٍ عام؛ كونه أغنى المسيرة السياسية والثورية والتربوية والأكاديمية بالعديد من الأفكار والرؤى جسد من خلالها فكره وشهادته على مسيرة النضال الفلسطيني.

في هذا السياق قدم شاهين رؤية حول حق العودة والتزامات الدولة، وتصور حول حركة فتح وهل تخلت عن المقاومة، وكذلك حول صراع الأجيال في "فتح"، إلى جانب رؤيته حول طرق المفاوضات .. هل من نهاية لها، ومؤخراً وقبيل رحيله قدم تصوره حول الاعتراف الأممي بالدولة الفلسطينية؛ وساهم إلى حدٍ بعيد بتقديم رؤية في الفكري الثوري.

أولاً: حق العودة والتزامات الدولة

عندما كَثُر الجدل عن قيام دولة فلسطينية مقابل التنازل عن حق العودة، وقيل أن الأفق السياسي أصبح ضيقاً جداً ولا يمكن تحقيق ذلك إلا بتبادل قيام الدولة مقابل التنازل عن هذا الحق، رد شاهين قائلاً:

هذه مسألة مهمة، أنا أرى أن الوضع الفلسطيني من ألفه إلى يائه ولكي نستطيع أن نتحدث فيه بحرية وبجرأة وبصراحة، لابد أن يبدأ حديثنا بأم القضايا في المسألة الفلسطينية ألا وهي قضية اللاجئين، إذا حلت قضية اللاجئين فالحل للقضية الفلسطينية يكون مؤكداً ووارداً وإذا لم يكن هناك حل لهذه القضية فلن يكون.

بالمناسبة حتى صيغة مدريد تعالج مرحلة الأرض مقابل السلام، ولكن هذا السلام لكي يكون على الأرض لابد أن يكون هناك سلام نفسي بين الإنسان ونفسه ولابد أن يكون هناك لحق العودة أولوية مركزية رئيسية وأساسية، وأنا أريد أن أعود إلى مرحلة يوليو تموز عام 2000 في مؤتمر القمة الثلاثي في كامب ديفيد الفلسطيني الأمريكي الإسرائيلي، فإن أحد أهم الأسباب ليس سبباً عادياً ولكن هناك سببان أساسيان لا يمكن أن نقبل بهما وقد كان السبب الأول هو قضية اللاجئين والسبب الثاني هو قضية القدس؛ فإذا ما حلت قضية اللاجئين فتصبح قضية القدس في طريقها الآلي إلى الحل، ولكن إذا لم تحل قضية اللاجئين فلا يوجد أي صيغة يمكن أن نصل بها في سياقنا مع بعضنا البعض إلى مسألة لحل القضية الفلسطينية.

مسألة اللاجئين لماذا؟ أولاً: هي حق شخصي، وهذا الحق الشخصي حتى يوم القيامة إن الله يغفر لمن يشاء من عباده في الحق الذي هو حق إلهي، ولكن بالنسبة لحقوق الأفراد فإن هذا لابد من الحساب له بالصيغة التي ينبغي أن تكون، هذا بالنسبة ليوم القيامة بالحق الإلهي حول الحق الشخصي، فما بالك في الدنيا بالحق الشخصي، هذا حق شخصي، لا يستطيع هذا الحق الشخصي ولا بأي صيغة من الصيغ ولا بأي صورة من الصور لا يستطيع بالمطلق أن يقترب منه أي إنسان حتى إذا كان هذا الإنسان يحمل صيغة تمثيلية منبثقة من المجلس الوطني، ومنبثقة من المجلس التشريعي الفلسطيني، فهذه لا يمكن أن يتم تناولها وهذا بالصيغة الفردية، أما بصيغة حق العودة، فهو أيضاً حق عام وهو من الحقوق القليلة في هذا الكون الذي له حق عام، وله حق خاص في آن معاً، ولا يمكن فصل أحدهما عن الآخر وثمة علاقة تربط ما بينهما علاقة جدلية وموضوعية قائمة، ولا يمكن الفصل، والفصل فيما بين الحق العام والحق الخاص هو فصل عدمي ليس له وجود في سياق الحدث.

أما الحق العام فهو حق شعب، وهذا الشعب جزء من الأمة العربية، وبالتالي هذه الحقوق المترتبة على بعضها البعض، الحق الشخصي، والحق الوطني، والحق القومي، والحق الإنساني، فهذه أيضاً صيغة إنسانية، والحق الحضاري لابد من أن نأخذ بها، هذه الحقوق المتتالية لا يمكن ولا يستطيع أحد أن يخرج علينا أستاذاً بالجامعة، مسؤولاً في التنظيم، بصيغة من الصيغ الآتية من هنا أو هناك، أو قالب من هذه القوالب المعدة سلفاً أو الذي يتم إعدادها لا يمكن أن تتم علينا باقتراحات أو بوجهات نظر لكي تقايض ما بين حقنا وحقنا.

البعض الإسرائيلي مثلاً يريد أن يقايض ما بين المستوطنات وحق العودة، بالنسبة للمستوطنات يجب أن يتم إزالتها أو إخراجهم منها، وأن يتم إنهاء الوضع بالمستوطنات، فهذا حق فلسطيني لا يمكن أن نساوم عليه بحق العودة إلى فلسطين وهو حق فلسطيني أيضاً.

إن الحذر مشروع ولابد من الحذر، ولكن أن تخاف لا، عندما ذهب الأخ أبو عمار إلى كامب ديفيد كان هناك حديث طويل وقبلها أيضاً في أوسلو وبعد أوسلو؛ وحتى الآن علينا أن نضع التخوف جانباً وأن نضع المحاذير أمامنا وأن نحذر فهذا حق أما التخوف فليس لنا وليس من شيمنا، تخوف البعض عند ذهابنا إلى كامب ديفيد وأصر البعض وكنت من هذا البعض الذين أصروا وبشدة أن نذهب إلى كامب ديفيد، وأن نقرأ في كامب ديفيد ما يعرض علينا، وإذا ما وجدنا ما يعرض علينا صفقة سياسية مقبولة، فنحن سيد من تعامل معها، ولكن إذا كان هناك من يريد أن يفرض علينا استسلاماً فنحن أيضاً سيد من يرفضها، ولقد قال ياسر عرفات "لا كبيرة وكبيرة جدا" لازلنا نحن كشعب فلسطيني بشكل عام وياسر عرفات كشخص قائد، زعيم، رمز، بشكل خاص مازلنا جميعا ندفع ثمن لا الكبيرة التي قلناها في كامب ديفيد.

ومن هنا لا أرى بأن المسألة تضعنا في خانة التخوف ولكنها تضعنا أمام أساسية يجب أن نتفهمها وهى القراءة الموضوعية للمرحلية، هذه المرحلية التي تبناها المجلس الوطني الفلسطيني في مارس آذار 1976 والتي أكدها في المجلس الوطني الفلسطيني المنعقد في الجزائر عام 1988 هذه الصيغة المرحلية القائمة على أنه لا يمكن أن تأكل الوجبة دفعة واحدة ولكن تأكلها قضمة قضمة، وهذا هو الذي يسير الآن حتى في خارطة الطريق البعض أراد أن يضع مسألة اللاجئين جانباً ولكن أهم مرجعية من مرجعيات خارطة الطريق هو المبادرة العربية، فالمبادرة العربية نحن قبلنا كمجتمع عربي وقبلنا كسلطة وطنية فلسطينية وكمنظمة تحرير فلسطينية بالمبادرة العربية للقمة العربية في بيروت في آذار عام 2002 وهى التي وضعت الصيغة المناسبة في هذه المرحلة، والقابلة للتطبيق، والتي لم تغمض حق العودة ولكنها في نفس الوقت وضعت صيغة ربما تكون مقبولة لدينا جميعاً في سياق أداء حق العودة.

ثانياً: هل تخلت فتح عن المقاومة ؟

سُئل أبو علي شاهين مرة : "النصر الذي لا يأتي من فوهة البندقية إدعس عليه بالبصطار" بناءً على هذه المقولة التي قلتها قديماً أين أنت الآن قريب منها أو قريب من اتفاقية اوسلو؟ هل سبب تراجع حركة "فتح" عن الريادة في الشارع الفلسطيني هو إحساس الشارع بأن "فتح" خانت نظريتها الثورية وأدبياتها التي انطلقت من أجلها؟ ما هي الآلية التي يمكن أن تنشط حركة "فتح" في الأداء التنظيمي؟

قال مجيباً: هذه الصيغة جميلة في حياتي ولم أتنازل عنها، وبالمناسبة لن أتنازل عنها وهذه مسألة مهمة للغاية ولابد أن نستطيع مع بعضنا أن نتفاهم، ونحن أحوج ما نكون إلى أن نقرأها مرة ومرة ومرة وهذه القراءة الهادئة لمرات متعددة هي كيف نتعامل مع المستجدات من المعطيات، الثوري الحقيقي هو الذي يتعامل مع المستجدات من المعطيات ويعرف كيف يمكنه أن يبحث في ما يسمى بالأركان، ومن خلال هذا البحث أن يجد ليس مناطحة الجدار، جدار القلعة ولكن الحفر في جدار القلعة، نظرية أبو جهاد مبادرة، مثابرة، ديمومة، مراكمة، وإنجاز فعلاً؛ نحن بحاجة إلى مبادرة ومراكمة ونريد ديمومة وصولاً إلى الإنجاز هذا ما نحن دوماً في حركة "فتح".

نحن حركة تحرر وطني نعي من هو، لكي تعرف أنت من أنت إعرف من عدوك، عدونا ليس سهلاً عدونا صيغة غريبة تركيبية تكاملت مع بعضها البعض.

فالاستعمار القديم هو الذي أوجد الصهيونية العالمية لكي تكون في فلسطين وليس العكس كما يتصور البعض فالمؤتمرات الاستعمارية سبقت المؤتمرات الصهيونية من أجل أن يؤتى باستعمار الرجل الأبيض إلى فلسطين وتم اختيار فلسطين من أجل أن تكون الحاجز الجغرافي استعماريا قبل أن يكون ذلك صهيونياً، حتى المؤتمر الصهيوني السابع كان الخيار مطروحاً أوغندا، وفيما بعد موت هرتزل في 4/7/1904، كان في عام 1905 اختيار فلسطين وطناً قومياً وهذه المسألة ترافقت مع طروحات رئيس وزراء بريطانيا الليبرالي آنذاك "كامبل بنرمان" فهناك كانت الصيغ، علينا أن نعود إلى الصيغ، سايكس بيكو صيغة ومن ثم وعد بلفور صيغة، ومن ثم صك الانتداب صيغة، والذي قام على سان ريمو وهذه مسائل استمرت وأيضا التقسيم عام 1927م صيغة.

وأريد أن أعود إلى محطتين صهيونيتين عام 1937 رفض المشروع الصهيوني بالجملة وبالكامل في اللجنة التنفيذية للوكالة اليهودية، رفض بالكامل أن يؤتي على ذكر قبول "مشروع بل" إلى أن كان لقاء بن غوريون وإياهم، وأصبح بن غوريون ووافق على "مشروع بل" وعندما سئل بن غوريون لماذا وافقت على مشروع بل اليوم وقد كنت بالأمس معارضاً لفكرة تقسيم فلسطين، قال جملة لا زالت ترن في أذني إلى الآن منذ أن قرأتها "لن أرفض ما يعطى لي ولن أتنازل عما لنا" هذه الصيغ في التعامل السياسي، ولينين أفرد في يوم من الأيام قصته الشهيرة حول: إذا قاطع طريق وجدناه حاملاً بندقية وأنا لست حاملاً شيئاً وأراد أن يأخذ حافظة نقودي، أنا أسلمه حافظة نقودي ولكن أعود وأحضر له الصيغة التي تؤهلني من استردادي حافظة نقودي.

فإذا كان مدى بندقيته مائة متر فأنا أحضر بندقية مداها مائتين متر فلا يستطيع أن يصلني ولكن أنا أستطيع أن أصله وهذه مسألة مهمة، أيضاً لا يمكن على حد التعبير الصيني الشهير" الوجبة لا تؤكل دفعة واحدة تؤكل قضمة قضمة" ونحن نعي بأن المعادلة السياسية ليس فيها تغيير فقط، فالمعادلة السياسية فيها تغيير كبير وعميق وتغييراً ليس سهلاً.

في يوم من الأيام الأخيرة بعد سقوط بغداد في 9/4/2003م، أتى الجنرال باول إلى دمشق واجتمع مع الرئيس بشار الأسد وقال له أنظر حولك سيادة الرئيس ألا تجد تغييراً؟ فنظر الرئيس حوله، قال له لا أنظر خارج النافذة أن لك جاراً جديداً، هذه الصيغ الآن نحن نعيها ونتفهمها، بالمناسبة البعض يتصور أن الولايات المتحدة انتصرت وليس بعد ذلك نصر، نقول له لا على مهلك، أفغانستان أمريكا لم تستطع حتى تاريخه، لم تستطع أمريكا أن تحكم كامل كابول، أنها تحكم جزء الجزء من كابول، وليس كل كابول، الدول التي تريد أن ترسل أيضاً قوات لحفظ النظام ترسلها إلى كابول ولا ترسلها إلى قندهار على سبيل المثال، أمريكا قوية ولكن أمريكا نجحت في أفغانستان بالقوة ونجحت في العراق بالقوة، ولكنها فشلت على الأرض في مسألة السلام فشلاً ذريعاً جداً.

وما نحن بصدده الآن، إننا نريد أي فكرة تؤهلنا إلى قطعة أرض إلى جغرافيا نستطيع أن نرتكز إليها نرتكز فيها ونرتكز عليها نعيش عليها نتمكن فيها، تحمينا ونحميها، نستطيع الدفاع عنها، تمكننا يوماً أن تكون موقعاً متقدماً لأداء فلسطيني سياسي أفضل بكل الصيغ السياسية الممكنة وهذه المرحلة آتية لا محالة، فالثابت الوحيد في السياسية هو المتغير.

أنا أجزم أنه عبر تجربة حركة التحرر الوطني العالمية في فلسطين وفي أفريقيا وفي أسيا وفي أمريكا اللاتينية؛ وأي نصر لا يأتي على بوز البارودة دوس عليه بالبصطار هذا صحيح، ولكن تذكر أخي إننا هنا نحن في الضفة الغربية وقطاع غزة لم نأت لأن شارون ولا لأن نتنياهو أو لأن رابين ولا لأن بيريز أو باراك قد قبلنا من أجل سواد العيون العربية الكحيلة لا هذا كان نتيجة من نتائج فوهة البندقية فوهة البارودة؛ وبالمناسبة هل تحرك هذا العالم لصالحنا في الآونة الأخيرة هل تحرك بأي صيغة من الصيغ في الآونة الأخيرة من أجل أننا نحن ناس كويسين وناس حلوين ويا محلانا، لا الجانب الإسرائيلي لم يكن بهذا الكرم الحاتمي، حاتم لم يكن عبراني النزعة ولا كان يهودي الدين ولا كان صهيوني العقيدة ولكن الصيغة التي أتت بهم الآن هي الصيغة التي فرضها وانتزعها الدم الفلسطيني والمعاناة الفلسطينية، والمواجهة الفلسطينية والتصدي الفلسطيني.

هذا العجوز القابع في رام الله وهذه الدبابات الإسرائيلية وفوهة سبطانات مدافع الدبابات تحك فروة صلعته، قرعة ياسر عرفات تحكها هذه السبطانات ولا يستكين ولا يركع ولا يستسلم، نحن نعي أخي هذه المسائل المهمة التي تدور في أذهاننا الفلسطينية ولكن الصيغة التي يجب أن نصل إليها يجب أن تكون الصيغة الموضوعية؛ على سبيل المثال كان في خارطة الطريق موجود تفكيك البنية التحتية للإرهاب، ولكننا استبدلناها بكلمة تهدئة بكلمة هدنة بكلمة وقف إطلاق النار بمبادرة  فلسطينية بصيغة راقية بالوحدة الوطنية الفلسطينية على أرضية الحوار البعيد المدى، والأهم قراءة الواقع السياسي قراءة المشهد على أرضية المسرح وليس بعيداً عن صيغ الحقائق بل إمعاناً في فهمها، لا يهم السياسي الصيغ فدوماً نتيجة العمل في الفعل السياسي هذه مسائل نعيها جيداً، نعم نحن هنا لأننا أتينا من رحم البندقية وأتينا من فوهة بندقية أتينا هنا بهذه الصيغة ولنعامل ولنحترم بعض المسائل في حقوقنا وفي ثوابتنا وقضايانا السياسية على هذه الأرضية وليس على أرضية أخرى.

أوسلو بالنسبة لنا شيطان رجيم، وإذا ما قلبت أوسلو على الوجه الأخر تجدها شيء جيد، ربما ومثلما تحدث الأخ أبو عمار ربما إذا ما أودعت أوسلو في أيدي بعض الكتاب فسيكتب ست مجلدات على الأقل ضد أوسلو، وأيضاً إذا ما أودعت لدى كتاب آخرين فسيكتبون ست مجلدات لصالح أوسلو، ولكن أنا أريد أوسلو ليس من القراءة الفلسطينية أريدها من القراءة الإسرائيلية.

يوماً من الأيام شارون الذي لا نشك بوطنيته الصهيونية وأيدلوجيته الصهيونية لا نشك في هذه المسألة في يوم من الأيام؛ قال شارون جملة جميلة: إن أسوء ما في تاريخ إسرائيل هذه المعاهدة المقيتة "أوسلو"؛ أيضاً أنا أريد أن أضع صورة من صور أوسلو التي هي ضفة غربية وقطاع غزة على المدى الأخير، ليست لها مدى أكثر من هذا المدى، هذا المدى أن نكون نحن في صراعنا العربي الصهيوني في هذا المكان أم نكون في تونس واليمن والجزائر وموريتانيا وموزمبيق وأنغولا علينا أن نقرأ بهذه الصيغة، أيضاً الصيغة الموضوعية، أيضاً في نفس الوقت أوسلو من أذنا إلى سبسطيا وهذا ما يطلق عليه العبرانيون أرض التوراة؛ أنت توجد دولتك في أرض التوراة اذاً أنت تضع عملية انفكاك وتفكيك في الصيغة التوراتية ما بين اليهودي والجغرافيا وهنا يكون الصراع على المستوطنات صراعاً لا هوادة فيه ولا رجعة عنه.

المستوطنات ستخرج لأنها أقيمت على غير وجه حق والقانون الدولي والقانون الإنساني والقانوني الثقافي الإنساني لا يمكن أن تقف إلى جانبها؛ وبالتالي أنا أري بأن أوسلو الراهنة هي الصيغة المرفوضة الآن إسرائيلياً من اليمين ومن الوسط ومن اليسار فالصيغة التي تعطينا أوسلو تعطينا أرضاً.

الصيغة الصهيونية عندما تصل إلى كلمة الأرض وهي كلمة سر الصراع فإنها تكاد ألا تعي ما تقول وتفقد كل قدراتها على التجاوب والاستجابة والتحدي لا تفهم عندما تصل إلى كلمة الأرض إلا إلى مقولة استعمال القوة، وبالتالي أنا أرى بأن أوسلو بالصيغة التي كانت أمر، وبالصيغة الراهنة أمر، أوسلو بما كانت عليه أولاً لم يكن هناك مجلس تشريعي، ولم يكن هناك رئيس منتخب، ولم تكن هناك صيغة كانت الصيغة مبهمة ولكن فيما بعد جاءت في 4/5/1999م، لتؤكد بأن هنا يجب أن يكون المنطلق إلى محطة ثانية.

إسرائيل موقع القوة ألغت هذه المسائل ولكن الآن الصيغة الدولية بشكل أو بآخر وعلى حياء لأن الولايات المتحدة الأمريكية الوسيط المنحاز إلى جانب إسرائيل دوماً ونجد بأن الصيغة الدولية تقف إلى جانبنا فلماذا لا نجند هذه الصيغ إلى جانبنا أكثر وبالمناسبة السياسة سلاح والدبلوماسية سلاح والبندقية سلاح والاقتصاد سلاح والصمود سلاح والتصدي سلاح والتشبث بالأرض سلاح والتمترس بالأرض سلاح واستعمال الحجر في موقعه سلاح واستعمال الرشاش في موقعه سلاح واستعمال المظاهرة في موقعها سلاح وبيت الشعر سلاح والإبرة التي تخيط الثوب الفلسطيني أيضاً سلاح ثقافي والممرضة التي تعين الجريح سلاح الأم الفلسطينية الصابرة والزوجة الفلسطينية الصابرة على ابنها سلاح والأخت التي تعتني بشقيقها المقعد سلاح، هذه أٍسلحة لم نتنازل عنها ولا يمكن.

في يوم من الأيام عندما فرغنا صيغتنا النضالية بذراع واحدة كنا كالإخطبوط الذي يقطع الأذرع السبعة ويستعمل ذراع وذراع واحد لا يستطيع الإخطبوط، الإخطبوط يستعمل كامل الأذرع الثمانية عندما يحتاج أكثر، ونرى الحبار يطلق أيضاً الحبر وذلك من أجل أن يملص، وأريد أن أوضح مسألة مهمة هل علينا فقط التوجه إلى الأمام ربما خطوة إلى الوراء تعقبها خطوتين إلى الأمام، ونحن نتقدم إلى الأمام نحن في صراعنا نأخذ أرض وفي صراعنا نؤكد حقنا في هذه الأرض وهذه الأرض غداً سيكون لها هوية سيادية سياسية استقلالية يعترف بها دولياً، وسندخل في معترك الاعتراف الدولي، وهذه مسألة الجانب الإسرائيلي الصهيوني الاستعماري الإمبريالي العالمي حاربنا فيها، ومنعنا من أن نصل إليها.

هل فتح تراجعت أنا أرى بأن فتح بالصيغة العامة تراجعت أنا أرى بأن فتح هذا الجسم الكبير القوي يحتاج إلى قيادة فاعلة نشطة قيادة تستطيع أن تعي الدور التاريخي المطلوب منها وتستطيع أن تعي بأن ثمة تغيرات جذرية حاصلة في السياسة الفلسطينية والإقليمية والدولية، وأن هذه التغيرات لابد وأن نتعامل وإياها فعلاً كجسد فلسطيني واحد، وأن نلج إلى الوحدة الوطنية بقوة .

وفتح أنا أعي جيداً أن فتح ليست حزب السلطة، فتح حزب المرحلة، إذا صلحت فتح صلحت المرحلة، ومن هنا لا بد أن تكون صيغة حركة فتح، أن يكون هناك التعميم الذي يجسر الهوة في الاجتهاد، بينك أخي أنت الموجود في السعودية، والأخ من فلندا وبين الأخوة في غزة أو في جنين.

وفتح لم تخن قضيتها الثورية، فتح تعي بالضبط أين يجب وأين ينبغي وما يتحتم أن تضع قدميها على الأرض الفلسطينية الصلبة القادرة منها على الانطلاق وإلى الخطوة التي تليها وهذه هي فتح قراءة ثورية.

(هوشي منه) البطل الأسطوري الفيتنامي التحرري في جنوب شرق آسيا في لحظة من اللحظات وكانت أليمة على نفسه في 20 يوليو تموز 1954 في مؤتمر جنيف الدولي وافق على قسمة فيتنام شمالية وجنوبية؛ ولكن فيما بعد كان (هوشي منه) وبعد سنوات قليلة هو من قام بالإعداد وقام بالإستعداد والتحضير؛ ومن ثم قام بالانطلاق وبدل "الفيتنمه" كانت (الفيت كونج) التي حررت سايجون؛ وهو الذي قال على فراش الموت بجملته المشهورة لن يهدئ لي بال ولن يهدئ خاطري وأنا في ملكوت السماوات العلا إلا بعد أن يتوحد التراب الفيتنامي وبالفعل توحد التراب الفيتنامي ورفع شبل من أشبال (الفيت كونغ) من أشبال (هوشي منه) رفع العلم على سارية السفارة الأمريكية في سايجون بعد أن غادرها الجنرال تايلر آخر سفير أمريكي في فيتنام الجنوبية وأصبحت سايجون عاصمة فيتنام الجنوبية هي (هوشي منه) عاصمة فيتنام الموحدة كما كانت تاريخيا.

ونحن نأمل بهذه المسألة أن تعود الآلية ويجب أن يكون لدينا محتوى ديمقراطي دائم وألا يكون هناك هذه "الدقماتية" الذي يصبح عضو لجنة مركزية لا يتلحلح عن هذا الموقع لأن الانتخابات تطول، وعلينا أن نلجأ إلى أي وسيلة من الوسائل لكي نصل إلى الانتخابات الديمقراطية والانتخابات الديمقراطية يجب أن تعود سيدة الشرعية في حركة فتح.

ثالثاً: صراع الأجيال في "فتح"

سُئل أبوعلي شاهين عن صراع الأجيال داخل القيادة الفلسطينية، لماذا لا تترك المجال للدماء الجديدة الشابة لماذا لا تترك القيادة الفلسطينية الساحة السياسية، خصوصاً بعد أن أخذت فرصتها وقادتنا إلى هذا الطريق؟ أم أنه لا يوجد بديل لهذه القيادة؟

جاء رده: أخي العزيز لدينا مثل، أنه مثل عربي موجود في كل أصقاع الوطن العربي شرقاً وغرباً وهو " أنت حكيت لي على جرب.." ولكن أنا أجبت على شق من هذا السؤال في السياق قبل قليل، عندما قلت إن الشرعية تأتي من الديمقراطية، نعم إن أي قيادة لا يمكن أن تكون قد مرت بسنوات طويلة حتى بسنوات قليلة دون أن يكون هناك أخطاء لها، والقيادة الفلسطينية ليست معفاة من ذلك.

وأريد أن أتحدث معك بكل صراحة، القيادة الشابة تنجح لأن حسبتها قليلة وليست كبيرة، في عام "82" عندما أعدنا تأسيس "على سبيل المثال" لجان الشبيبة للعمل الاجتماعي كانت الفئة العمرية لا تزيد بين هؤلاء عن "21" سنة فقط صبايا وشباب وتحملوا مسؤولية تاريخية غير عادية وكان الأداء بهذا السياق الشبابي أداء يفوق أي قدرة على الوصف وهذا الأداء هو الذي أهلهم في الانتفاضة بعد ترتيب أنفسهم بسنوات قليلة لا تتعدى أصابع اليد الواحدة خمس سنوات من نهاية الـ "82" إلى نهاية "87" أهلهم هذا الأعداد الكبير في المواجهة والتصدي والصمود والمثابرة، وهذا أهلهم إلى تواجد قيادة ميدانية فعلاً قيادة فذة.

فعندما جاءت الانتفاضة الأولى في ديسمبر/كانون أول سنة 1987 هذه القيادة الشابة هي التي إحتضنت القيادة الوطنية الموحدة هي التي صاغت أفكار القيادة الوطنية الموحدة التي كانت متقدمة على قراءات وعلى صياغات قيادات فلسطينية في ذلك التاريخ، وكانت تقودنا منذ ربع قرن، هذه مسألة مهمة أيضاً، عندما جاء تعريض الذات للتضحية كان تعريضاً قوياً وأخاذاً وملفتاً للنظر، وكان فداءً ملهماً لا يستطيع أحد أن يتجاوزه ولا يستطيع أحد إلا أن يشيد به، حتى الأعداء أشادوا بهذا ليس في موقع أو عشرات المواقع ومئات المواقع ولكن بآلاف المواقع.

هؤلاء هم الذين أخرجوا ثورة النخبة في الخلايا المسلحة السرية التي كانت في أداء بطولي منقطع النظير هم هؤلاء الذين أخرجوا هذه الصيغة إلى صيغة الفعل الجماهيري ومن ثم أوجدوا المعركة المركزية الأولى في تاريخ فلسطين بعد سنة 1948 في عمق الاحتلال الإسرائيلي، حيث أوجعوه.

وحيث نتذكر جميعاً قرارات رابين بتكسير العظام ونتذكر كلمة رابين عندما أصبح رئيساً للوزراء وهو يتمنى أن يستيقظ غداً صباحاً ليجد أن قطاع غزة وقد ابتلعه أو التهمه البحر، هذه الصيغة أنا أوافقك أنها صيغة موجودة، وفى نفس الوقت ليس هناك أي خطأ ولا أي غبار من أجل أن نوجد صيغة من الصيغ التي نتحدث عنها بالدماء الشابة لنبقى.

نحن لا نريد أن نقذف بهؤلاء إلى قارعة الطريق بالعكس نحن ليس لدينا إلا أن نتعامل مع العنصر الشاب، هذا الذي لم تستهويه البندقية استهواءً اغوائياً وليس استهواءً جاء على جانب من جوانب الزمن، لكنها جعلت من هذه البندقية صيغة من صيغ المفاوضة الجدية مع الجانب الإسرائيلي وهذه الصيغة لم تكن صيغة المجموعات التي كبرت وشاخت في السن ولا أريد أن أقول عفا عليها الزمن.

هذه العناصر الشابة يجب أن تأخذ دورها ولكن نحن نجد من هؤلاء ممن ليس لهم من مكان في الحياة إلا أن يشغلوا مواقع قيادية ولا يستطيعوا أن يؤدوا دورهم كما ينبغي، وأقول هذا بشكل كبير جداً، في كل الفصائل لدينا أمناء عامين من عمر أربعين سنة وهو أمين عام، ولدينا أعضاء مكتب سياسي أو لجنة مركزية على قلبك يا تاجر، لدرجة أننا نرى بأن صيغة التجديد أصبحت هي الصيغة المستهجنة في الساحة الفلسطينية، نحن نقول يجب أن نعود إلى الديمقراطية والديمقراطية هي الشرعية، ويجب أن نعود إلى صناديق الاقتراع سواء على صعيد الفصائل أو على صعيد النقابات أو على صعيد المجلس التشريعي أو على صعيد البلديات، وأن يكون الحكم هو المواطن وأن يكون هذا المواطن إن كان في التنظيم هو الحكم في انتخاباته.

وفى كل الفصائل يجب أن تكون لدينا ثورة ديمقراطية لكي نستطيع أن نجد عملية التنوير الكامل لمجتمعنا الفلسطيني من ألفه إلى ياءه، وحتى نستطيع أن نلمس صوتك وأن نلمس مشاركتك وأن نلمس مبادرتك ولا أن نلمس فقط مباركتك وأنت في الكويت وغيرك في نيوزلندا والآخر في الفلبين..الخ.

هذه مسائل نحن نأمل أنه في مراحل قادمة ولا أريد أن أقول أن أعلق الأخطاء والخطايا على مشجب الاحتلال، وأن الاحتلال يمنع، لا الاحتلال لم يكن يمنع قبل الانتفاضة أن تعقد "فتح" مؤتمراً لها على سبيل المثال وأن تنتخب فيه لجنة مركزية ومجلس ثوري وصولاً إلى مكتب سياسي لحركة "فتح" وهذه مسألة مهمة.

لقد رأينا أن الدكتور جورج حبش قد أدار ظهره بعد ما الأمور تعبت معه على الآخر، وبالنسبة للأخ أبو عمار، نأمل أن نستثني هذه الحالة، المتيقظة الذهن، الدينامكية الأداء، الوقادة، ولكن يجب أن يتغير كل ما حولنا في هذا السياق وبالمناسبة إذا لم نستطع التغيير الكامل والسريع فلماذا لا تكون لدينا مؤسسة إعلامية قوية فلسطينية.

ياسر عرفات زعيم كبير (قد الدنيا) ملأ البصائر والأبصار فلماذا لا يكون لياسر عرفات هيئة إعلامية قوية وصيغة إعلامية قوية على غرار ما كان لجمال عبد الناصر على سبيل المثال لماذا لا تكون له هيئة رأسية قوية تستطيع هذه الهيئة الرأسية القوية فعلاً أن تقوم بدورها الذي يجب أن يكون إلى جانب الأخ أبو عمار؛ هذه الصيغ نحن نأمل في المدى القريب أن نستطيع وأن لا نتذرع بالاحتلال، ويمكننا تمرير الانتخابات، لماذا لا يكون مؤتمر إقليم لحركة "فتح" في رفح؟ لماذا لا يكون انتخابات للعمال في قطاع غزة؟ ما الذي يمنع حدوث ذلك ..!.

وأينما تسمح لنا الفرصة أن تكون لدينا انتخابات في الزبابدة لماذا لا تكون لدينا انتخابات في الزبابدة، وعندما تسنح لنا الفرصة أن يكون لدينا في السموع في أقصى الجنوب، لماذا لا تكون لدينا انتخابات؛ أنا أرى أن البعض استراح على الكراسي وأنا أرى بأنه فعلا قبل أن يقال لي: (جيل أبوعلي شاهين وأمثالي من الرعيل الأول انصرف، خلي المؤتمر هو الذي يقول "باي باي" ويا شباب أتفضلوا احملوا الأمانة ومبروكة عليكم.

ماذا نقدر سنقدم، ولكن لا أريد أن نبقى على صدور هذه المؤسسة الوطنية الفلسطينية إلى الأبد، أؤيدك أخي فيما ذهبت إليه وأمل ألا يكون هذا الصوت صوتك وصوتي وأن يمتد هذا الصوت كي يغطي الساحة الفلسطينية شرقاً وغرباً لكي يغطيها في الوطن وفى الشتات، ولكي تكون هذه الصيغة الشرعية من الديمقراطية، والديمقراطية هي التي تعطي الشرعية، أن يكون هذا هو شعار المرحلة القادمة لكي نستطيع أن نقف في وجه الغطرسة والعمى الإسرائيلي الصهيوني الإمبريالي العالمي.

نحن أبناء التجربة الديمقراطية الفلسطينية، الواحة الديمقراطية في الوطن العربي، ديمقراطية غابة البنادق، هذه مسألة مهمة نحن نرى بأن المسألة الأساسية التي نحن بصددها إذا ما كان هناك صراعاً من ممارسة ديمقراطية ما، فهذا يعني بأن الجرأة الديمقراطية لم تكن كافية يجب أن نزيد الجرعة الديمقراطية جرعات وجرعات، ويجب أن نعطي لشعبنا الحق الكامل في ممارسة الديمقراطية ممارسة حقيقية وممارسة قوية وممارسة ناجحة، ولا يمكن بصيغة غير صيغة الديمقراطية أن نقول للمشروع الصهيوني قف وفكر عليك أن تراجع حساباتك ما لم تكن لدينا جرعات كبيرة وكبيرة جداً من الديمقراطية.

وأنا لا أعفي نفسي من موقعي في هذه القيادة من هذه المسؤولية وهذه مسألة أراها أنا جيداً، ونحن متفوقون على أنفسنا؛ وبالمناسبة أوروبا لم تأت لنا بالديمقراطية لقد أتت الديمقراطية بأوروبا، التي نراها الآن أوروبا الحضارة والتقدم العلمي؛ ومن هنا أنا مع كل الصيغ الديمقراطية إسرائيل ديمقراطية لليهود، يهودية للعرب، هذه مسألة نعرفها جيداً ولكن الصيغة الدينية في المشروع الصهيوني فنقف عندها طويلاً.

الصيغة الصهيونية هي التي أوجدت إسرائيل لقد أعطت لنفسها أن تقف على أرضية الدين اليهودي؛ ولكن هؤلاء إذا ما أردنا أن ننظر إلى الأوائل إذا كان في المؤتمرات الصهيونية إذا كان هرتزل أو يسرائيل أو كل المجموعات كل بما يمثل من التيارات أو وايزمن الذي جاء فيما بعد، أو بن غوريون أو كل هذه المجموعات من ألفها إلى يائها.

هذه مجموعات علمانية وهذه مجموعات لم تكن على وفاق مع بيت العبادة اليهودي ولكنها حاولت أن تجند هذه لها، وبالمناسبة يجب أن نعود من كل هذه المجموعات ومؤتمر برلين أدرزئيلي 1840 ومؤتمر برلين ومؤتمر بنرمان 1906.

أن نعي جميعاً أن الذي دفع في إتجاه وجود الوطن القومي اليهودي في فلسطين ليس (بروموسلاند) استغلال (بروموسلاند) استغلال أرض الميعاد لشعب الله المختار هذا الاستغلال الاستعماري الذي استجابت له الصهيونية والصهيونية ليست يهودية، الصهيونية يهودية ومسيحية والصهيونية صيغة وقراءة سياسية وليست قراءة دينية هذه مسألة مهمة.

لقد أتوا باليهود إلى فلسطين وظفوا اليهود إلى الهدف الصهيوني جندوا هذه اليهودية إلى الصيغة الصهيونية؛ ولكن أيضاً نجد ما بين اليهودية أناس يرفضون نعم قلة لكنهم يرفضون صيغة دولة إسرائيل قبل وصول المسيح المخلص، وعلينا أن ننتبه لقد أعطت الصهيونية (بن غوريون – روبين بركات – موشي شاريت) كل هذه المجموعات أعطت قانون العودة 1950 يحق لكل يهودي أن يعود إلى فلسطين وهو لم يعرف فلسطين لا بالواقع ولا بالحلم يوماً من الأيام.

ولكن أنا أرى بأن إسقاطنا إلى أي معادلة أو عامل مساعد إلى عامل دائم أو مؤيد إسقاطنا خطأ؛ نحن يجب أن نبقى على صيغتنا الفلسطينية ولكن يجب أن نلتف حول وحدتنا الفلسطينية ونوجد نحن من بيننا الصيغة التي تستطيع أن تتعامل مع القراءة القومية العربية، وكذلك الأمر يجب أن نوجد الصيغة التي تتعامل مع الصيغة الإسلامية ومع الصيغة المسيحية وأن نأخذ التأييد من الفاتيكان وأن نأخذ التأييد من طهران في آن معاً وأن نأخذ التأييد من دلهي وأن نأخذ التأييد من بكين؛ هذه صيغ نحن نرى بأنها صيغ صوابية من أجل أن نجعل للصراع ضد هذا المشروع الاستعماري الصهيوني.

هذا الصراع العربي ضد المشروع الاستعماري الصهيوني هذا الصراع الذي هو صراع المشروع الوطني العربي فلسطينياً وقومياً وعربياً وأيضاً يصب فيه ثوار وأحرار وشرفاء العالم بغض النظر عن الدين، فهذه مسألة يجب أن نتفهمها مع بعضنا البعض وأن نعي بأن الصهاينة يحاولون أن يجرونا إلى أن الصراع ديني.

لا الصراع ليس دينياً والحل على الأرض، لأنه إذا كان الصراع ديني إذاً أريد دولة يهودية أما الصراع بصيغته السياسية وأن الصهيونية مشروع سياسي استعماري نجح في أن يوظف نفسه في خدمة الاستعمار ونجح بأن يجعل نفسه عضواً في حالة الاستعمار هذه صيغة أخرى نحن مع هذه الصيغة صيغة أن الصراع هو صراع عربي صهيوني هذا الصراع يمتد من أجيال ويمتد إلى أجيال، النهاية ستكون بصيغة الدولة المواطنة في مثل ما حصل في نوع من القراءة الحضارية في جنوب أفريقيا وغيرها هذه مسألة مهمة والذي يريد أن يبقى في فلسطين يبقى.

أما بالنسبة للعصبية فيوجد فرق بين العصبية والجدية وأيضاً موضوعنا حساس وخطير ولا نأخذه بنوع من الابتسامات الصفراء الكذابة مع بعضنا البعض؛ نريد أن نكون جدين وعندما نعرض قضيتنا نعرضها أيضاً بجدية نعرضها بمعلوماتية جيدة على أرضية ثقافية متميزة ونعرضها بقيم حضارية قادرة على التعاطي وعلى التعامل مع هذه المستجدات من المعطيات وعلى تفهم الواقع التاريخي للمرحلة بقراءة متأنية وهادئة ولكن بجدية، هناك فرق كبير ما بين الصراع وما بين الحسم في القضايا المصيرية هذه مسألة لا يمكن أن نأخذ فيها، أما بالنسبة للاحتلال لا يوجد ما يخسره إلا الاحتلال توجد مقولة قالها كارل ماركس للعبيد: " ثوروا أيها العبيد لن تخسروا سوى سلاسلكم" وأنا على غرار ذلك أقول للشعب الفلسطيني ثوروا ولن تخسروا إلا هذا الاحتلال البغيض ما الذي سنخسره من ثورتنا سنخسر هذا الاحتلال إلى الجحيم من الذي سيبكي على بقاء الاحتلال في أرضه.

رابعاً: المفاوضات .. هل من نهاية للطريق

سُئل أبو علي شاهين: التفاوض مع الإسرائيليين مر بمراحل عديدة إبتداءً من أوسلو، وواي ريفر، وشرم الشيخ، ونهايةً بخطة الطريق، وهناك أوساط في السلطة الوطنية تراهن على الموقف الأمريكي كيف ترى ذلك؟ وهل ترى وأنت ممثل حركة "فتح" أن الهدنة ستستمر وأنها ستكون أبدية؟ وهل ترى أن الفصائل الفلسطينية في تطور؟

أجاب: أخي العزيز.. مراحل التفاوض هذه كانت نتيجة، لقد إنطلقنا في 1/1/1965 بالثورة الفلسطينية وبالمناسبة لم نضع أمامنا مسألة مهمة لغاية ألا وهى الدولة الفلسطينية التي نريدها، وضعنا حق العودة، وكان هذا هو الموجود إلى أن كان عام 68 عندما طرحت دولة فلسطينية ديمقراطية، البعض أطلق علمانية، والبعض لم يطلق عليها علمانية، ولكنها وضعت للذين يعيشون فيها، من اليهود والمسيحيين والمسلمين بدون أدنى فروق، وهذه مرت بتجارب، إلى أن كانت حرب أكتوبر؛ وأثر حرب أكتوبر بفترة زمنية ولا أريد الحديث تاريخياً فأنا مش غاوي تاريخ أنا أحكي سياسة انعقد المجلس الوطني الفلسطيني بالقاهرة في شهر مارس سنة 1976 حيث وافق على فكرة السلطة الوطنية وبدأ التفاوض، وهناك المرحلة الأولى من التفاوض حيث وافق المجلس الوطني الفلسطيني بكل ألوان طيفه، وفيما بعد انسحبت الشعبية، وعادت الشعبية عام 1988 إلى الذي رفضته عام 1976؛ وفي هذا اللقاء في المجلس الوطني الفلسطيني كانت الموافقة من الجميع على قيام السلطة الوطنية الفلسطينية على أي قطعة أرض على أية بقعة يتم تحريرها أو الانسحاب الإسرائيلي عنها، هنا بدأ التفاوض استمر هذا التفاوض بين مد وجذر يتسرب من هنا إنه اجتمع فلان مع فلان ويتسرب من هنا كان فلان؛ وبالمناسبة لقد سبق ذلك لقاءات فلسطينية إسرائيلية بصيغ أمنية بعد حرب أكتوبر سنة 1973 هذه مسألة مهمة أيضا علينا أن نذكرها جميعاً.

لم يكن من مثل الجانب الفلسطيني مرتبة تنظيمية قليلة، بل بالعكس مرتبة متقدمة لأنه بدأ التفكير في تلك المرحة بعد حرب أكتوبر، وبأنها ليست حرب تحرير ولكنها حرب تحريك، كما أكد الأخ أبو إياد أكثر من مرة في كلماته وخطبه؛ وهذه مسألة كانت مهمة في حين استمر بين مد وجذر، كما قلت 81/82 كان هناك اتفاق وقف إطلاق النار بين الجانب الفلسطيني والجانب الإسرائيلي في يوليو تموز 1981 وفى الـ 1982 كانت مفاوضات أمريكية إسرائيلية فلسطينية تكاد أن تصل إلى أن تكون مباشرة، والجانب الإسرائيلي المحيط ببيروت ويقصف بيروت والفلسطيني صامد، وكان معنا الجيش السوري الذي خرج من بين الحواجز الإسرائيلية وهو يحمل صور الرئيس حافظ الأسد والأعلام السورية وخرج على سياراته العسكرية من بيروت إلى البقاع إلى دمشق.

وجاءت الانتفاضة الأولى وتمخض عنها نتائج فرضت على الأرض واقعاً صراعياً جديداً ليس واقعاً كما سبق وكان، واقعاً لابد من إيجاد حل له، وما تمخضت عنه الانتفاضة وما صاحب حرب الخليج الثانية ومسألة العراق والكويت ثم الحرب العدوانية الإمبريالية بقيادة أمريكية على العراق، وما صاحبها وإنه يجب ألا نكيل بمكيالين، وهنا جاء مؤتمر مدريد، ومؤتمر مدريد قام على جملة سبق أن وضحتها وهي الأرض مقابل السلام.

واستمرت هذه المسألة وهنا يوجد محطة مهمة محطة إقامة الدولة الفلسطينية عام "88" هذه المحطة لابد من الوقوف عندها؛ هذه المحطة هي إعلان الاستقلال الذي أنا رأيت وأنت رأيت وجميعنا رأينا الأخ أبو عمار وهو يصفق ويهتف وبجانبه الدكتور جورج حبش ونايف حواتمة وكل القيادة الفلسطينية من ألفها إلى يائها وهى تصفق فرحة من إعلان الاستقلال، الآن الاستقلال آمل أن نقرأه جيداً هو أيضاً يقوم على المرحلية أي أن المرحلية لم تعد فقط إلى من أعلنوا قبوله سابقاً فلقد أصبحت المرحلية هي السياسة الفلسطينية المتخذة رسمياً وشعبياً فالمجلس الوطني الفلسطيني ليس هو الإطار الممثل للشعب الفلسطيني هذه كانت مهمة للغاية أن نطرحها، كانت فيما بعد كما أسلفت أوسلو بعد مدريد.

استمرت أوسلو وكان من المقرر أن يكون هناك مجلس إداري من أربع وعشرين يرأسه مدير انقلبت إلى رئيس للسلطة الوطنية الفلسطينية منتخب من الشعب يجب أن نقف عندها جميعاً يجب أن نقف عندها، ويجب أن نحاول وأن نطور أنفسنا مع هذه الفكرة.

 والآن جاءت هذه المسألة بصيغتها الأخيرة الآن نأتي ونقول مرحلة التفاوض ونراهن ولا نراهن أخي خذ مني الصافي لا يوجد بلد توجهنا إليه من هذا العالم قبل أوسلو إلا وقالت لنا ليس أمامكم إلا المسيرة السلمية والآن لا يوجد بلد حتى الاتحاد الأوروبي عندما نتوجه إليه ونطلب منه موقفا مؤيداً لنا، فإنه يؤكد لنا وباستمرار مسألة مهمة نحن نؤيدكم ولكن توجهوا أو تحركوا باتجاه واستمعوا إلى الرأي الأمريكي، هذه مسألة مهمة أمريكا ليست قدر العالم؛ نعى ذلك ولكن أمريكا هي قدر هذه الأنظمة التي لا تستطيع أن تنظر يميناً أو شمالاً إلا وترى الغول الأمريكي الذي تخاف من أنيابه.

نحن ماذا سنخسر ما الذي سنخسره على حد تعبير المثل الفلسطيني "ضربوا الأعور على عينه العورة قال امنيح إلي أجت في العورة "؛ ما الذي سنخسره نحن، على حد التعبير الشهير ثوروا أيها العبيد فلن تخسروا إلا سلاسلكم؛ ونحن لن نخسر إلا هذا الاحتلال ولنتذكر دائماً مقولة شهيرة لهنري كيسنجر " إسرائيل مصلحة وطنية أمريكية " ولا يوجد بالمناسبة في التحالف الاستراتيجي ما بين الحلف الأطلسي وأمريكا لا يوجد ما بين أمريكا وإسرائيل، فأمريكا منعت أسلحة عن الحلف الأطلسي أثناء الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية ولكنها لم تمنع هذه الأسلحة عن إسرائيل، إسرائيل أعطت أمريكا مخازن في النقب تخزن فيها أي أسلحة تريدها وبالتالي هذه صيغ ليست سراً، أمريكا تتحمل من الموازنة الإسرائيلية منذ عام 1952 إلى عام 2002 على مدار 50 سنة تحملت من الموازنة الإسرائيلية أكثر من 21% وهذا ليس مبلغاً بسيطاً هذا ما تحملته الخزينة الأمريكية من إسرائيل، وفي نفس الوقت تريدني أن ألغي عقلي وأقول أن الولايات المتحدة الأمريكية موقفها لم يتحسن فحسب ولكن تغير وتبدل وأصبح إلى جانبنا، لا.

 نحن نريد من الموقف الأمريكي موضوعية محددة موضوعية لا نريد موضوعية مائة بالمائة نحن نريد موضوعية 10-20% نريد من بوش أن يقول إن هذا الحائط حائط برلين بالضفة نريد أن يقول عنه "ثعبان" وهذا ما نريده ونريد أن يضغط بصيغة أو بأخرى في مسألة الأسرى، في هذه المسألة صحيح لم نقنع بوش بها كما ينبغي ولكننا نجحنا في أن نضع في خانة بوش صيغة، عندما ذهب شارون وقال لقد أزلت 10 حواجز قال له بوش ولقد بقى 150 حاجزاً هذا بوش ليس مستعداً أن يسمع إلا أول ربع ساعة هؤلاء لا يسمعون 10 ساعات ولا يحكي مثلنا وبالتالي هذه مسألة مهمة جداً.

ففي السياسة ممتاز جداً أن أحافظ على حليفي، أولاً أحافظ على شريكي في السياسة ومن ثم أحافظ على حليفي ربما يصبح شريكي، ثم أحافظ على العنصر المتذبذب ليصبح حليفي ومن ثم إذا أنا أتيت إلى خانة العنصر المتذبذب العنصر المتشكك بي، وأنا جيد إذا أتيت بالعنصر المتشكك إلى خانة المتذبذب ولكن إذا أتيت بالخصم إلى خانة المتشكك شيء جيد لصالحي، إذا أتيت أنا بالعدو أيضا إلى خانة متقدمة في اتجاهي وأفرغته من عدائيته أيضاً هذه في السياسة الاستراتيجية شيء جيد وممتاز ومقبول وهذا أمر استراتيجي فإذا أنا نجحت في أن أجعل في الولايات المتحدة الأمريكية في مجلس الشيوخ أو مجلس النواب أم في الخارجية أم...الخ أم حتى في البيت الأبيض وتصبح الصيغة الأمريكية تتفهمني بصيغة أفضل من السابق، وألا يستمر شارون معربداً على الفكرة الأمريكية ويصادر الوجود الفلسطيني ما الذي يمنع؟ أنا لا أرى في ذلك ضرراً.

السياسة الإسرائيلية لن تتغير ولا يوجد في الجانب الإسرائيلي زعيم سياسي واحد قادر على توقيع معاهدة سلام مع الجانب الفلسطيني، جميعهم جاهزون لتوقيع معاهدات سلام مع كل الدول العربية والإسلامية إلا مع الجانب الفلسطيني فالجانب الفلسطيني يريد أن يأخذ أرضك وأما الآخرين أرضهم غداً ترجع لهم وإن لم يكن غداً بعد غد وإذا لم ترجع هذا العام فالعام الذي يليه وإذا لم يكن في هذا العقد ففي العقد الذي يليه وإذا لم يكن هذا الجيل فالجيل الذي يليه ولن تستطع إسرائيل أن تستمر ممسكة بما تم الاستيلاء عليه واحتلاله من أراضي الدول العربية، المشكلة معك أنت تريد أن تأخذ أرض كلمة السر في الصراع بينك وبين المشروع الاستعماري الصهيوني بين الايدولوجيا الصهيونية وبين المشروع الوطني الفلسطيني كلمة الصراع كلمة واحدة هي الأرض من يأخذ أرض يكسب بالنقاط من يأخذ أرض يراكم الانتصارات؛ وبالتالي هنا بيت القصيد أن تأخذ أرضاً أم لا تأخذ أرضاً، من هنا هذه الحكومة اليمينية هذه الحكومة اليسارية هذه الحكومة التي هبطت علينا ببرشوت هذه الحكومة التي طلعت لنا من الأرض التي نبتت من الأرض في إسرائيل لا يعنينا نحن يعنينا أن نبقى محافظين على أننا نريد أن نأخذ أرضاً لأن أخذنا الأرض هو الشيء الوحيد الذي يحسن من مواقعنا ومن أدائنا المستقبلي في المرحلة القادمة.

وبالنسبة للهدنة أنا أريد أن أوضح الهدنة مصلحة إسرائيلية ولكنها مصلحة فلسطينية وما الذي يمنع عندما تتقاطع لا تتماثل المصلحتان أن نوظف هذه المصلحة إلى صالحنا والى جانبنا ولماذا لا أدفع في إتجاه أن أفرض على إسرائيل تجنيد الرأي العام العالمي وأوروبا ليست محايدة إسرائيل لا تتعامل مع أوروبا محايدة لقد ذهب شارون قبل عشرة أيام وطاف في أوروبا ولم يجد صوتاً واحداً يؤيده في أوروبا.

حتى بالنسبة للأخ أبو عمار حتى بالنسبة إلى مقاطعة ياسر عرفات لم يجد صوتاً يؤيده بل وبالعكس جاء مسؤولون أوروبيون إلى فلسطين وفي ذات الصيغة "وهو الذي وضع نفسه فوق الشجرة وقيل له أنت ارتقيت شجرة ونحن لا نستطيع أن ننزلك عنها عليك أن تنزل عنها، برلوسكوني" إذا قبل أن لا يقابل ياسر عرفات ولكنه أكد مع الأخ الدكتور نبيل شعت في لقائه الأخير معه في روما بأنه في زيارته القادمة سيذهب لزيارة الأخ أبو عمار وانأ اعتبر هذا نوع من الاعتذار المهذب نقبله ونحن أيضاً لسنا في موقع القوة لكي نفرض على الجميع ما نريد نحن في موقع أن نتعامل مع الجميع لتغيير أفكارهم تجاهنا إلى صيغ أكثر ايجابية.

بالمناسبة وأنا أقرأ قبل يومين في نيويورك تايمز بأنها مقتنعة فعلاً أن ما ذهب إليه الأخ أبو مازن في موضوع الهدنة أو التهدئة أو وقف إطلاق النار أو تعليق إطلاق النار كان سلمياً لأن أي أمر آخر يذهب إليه الأخ أبو مازن وحكومته سيؤدي إلى اشتعال المنطقة وسيؤدي إلى وإلى وإلى، ونحن عندما نستمع إلى صوت آخر من أمريكا يقول ما حاجة إسرائيل إلى هذا الثعبان إلى هذا الجدار الذي هو على غرار جدار برلين اللاأخلاقي، وأن صيغة السلام هي التي جعلت نسبة العمليات أقل مما كان سابقاً وليس الجدار هو الذي منع هذه المسألة، عندما تستمع إلى مثل هذه الأصوات فأنت تصر على أنه عليك أن تستمر في نهج لمحاصرة حكومة إسرائيل اليمينية وهذه المحاصرة لا يوجد في هذا العالم من يستطيع أن يضغط على إسرائيل بضغط مباشر إلا أمريكا وبوش بشكل خاص.

وأنت أيضا بنفس الوقت الصيغة التي مرت معك وأنت تتعامل مع الهدنة هذه صيغة الوحدة الوطنية ذات الارتقاء النوعي الذي تعمد بالدم على مسار أكثر من 30 شهراً من العطاء وتقديم فعلي للقرابين من أجل الحرية والاستقلال وليس عشرات وليس مئات بل آلاف المعتقلين، الذين فعلاً يسومونهم سوء العذاب هؤلاء جميعاً شهداء وأسرى ومعاقين وجرحى ومناضلين ومقاتلين وشعب يعاني هؤلاء جميعاً علينا أن ندفع باتجاه عزل الحكومة الإسرائيلية ما أمكن فهذا يصب في خانتنا الوطنية ويصب أيضا في وعينا السياسي، وأنا أرى بأنه كل الناس التي تفهم سياسة عندما سمعوا بمسألة الهدنة قالوا لقد خرج الفلسطينيون من عنق الزجاجة التي كانوا يدفعون إليها بالاقتتال إذا ما ذهبت السلطة الوطنية الفلسطينية والحكومة الفلسطينية إلى ما طلبته خارطة الطريق ألا وهو تفكيك البنية التحتية للإرهاب؛ وأنا أريد أن أقول جملة أخيرة قبلنا خارطة الطريق بدون شروط ولكننا عدلنا خارطة الطريق بكل ما نريد.. وشكراً.

الوضع الحالي مأساوي صحيح، والوضع الفلسطيني من 1948 مأساوي صحيح، ولكن هل نركن إلى المأساة تفعل بنا ما تشاء؟ أم علينا أن نتفاعل مع هذه المأساة من أجل تغييرها؟ لو ركنا إلى المأساة كنا لم ننطلق ولما كان هناك تحضير للانطلاقة المسلحة الفلسطينية في 1/1/1965 الوضع الحالي دوماً سيكون غداً، الأيام الجميلة لم تأت بعد، الأطفال الأجمل لم يولدوا بعد، الأزهار الأجمل لم تقطف بعد، هذه مسائل صحيحة، ولكن علينا التعامل مع الوضع الحالي من أجل تحسين مواقع الأداء وطرق الأداء وأساليب الأداء ووسائل الأداء والخروج بهذا الوضع الحالي المأساوي إلى صيغة نستطيع أن نوظفها وأن نتحرك في إتجاه المعترك السياسي القادم لنا.

بالنسبة إلى كل القرارات الدولية نعم نحن نتسلح بكل قرارات الشرعية الدولية وهذه مسألة وبالمناسبة الذي لا يريد قرارات الشرعية الدولية ليس نحن الذي لا يريد قرارات الشرعية الدولية هو فقط الجانب الإسرائيلي، الجانب الإسرائيلي هو الذي يرفض حق العودة الذي أكدته الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة في قراراها رقم 194 في 11-12-1948؛ إسرائيل هي التي ترفضه مع العلم بأن أحد شروط قبول إسرائيل عضواً في هيئة الأمم المتحدة كان أن يعترف "موسى شاريت" برسالة موجهة إلى الأمين العام لهيئة الأمم المتحدة ويؤكد له قبوله قرار 194 وقبوله بما جاء حول القدس بتدويلها وقبوله بقرار "181"حول التقسيم وبالمناسبة قرار التقسيم "بن جوريون" قال لقد رفضناه جميعه إلا كلمة قيام الدولة اليهودية وهي التي أسميناها إسرائيل وأعلناها في 14 مايو أيار 1948 يوم الجمعة لإنهم لم يعلنوها يوم 15/أيار لأنه كان يوم سبت فأعلنها يوم الجمعة.

وأما بالنسبة إلى العهدة العمرية فإنها صيغة من أنزه الصيغ في تاريخ المواثيق الدولية وهذه الصيغة احترمت على مدار ليس سنين وليس عقود ولكن قرون من الزمان ولا زالت تحترم ولا زلنا نزين بها بيوتنا ونزين بها أيضاً عقولنا وقلوبنا ونزين بها حاضرنا كما زينا بها ماضينا وسنزين بها مستقبلنا، ولذلك فان إعادة قراءة العهدة العمرية تؤكد تؤكد أن هذه البلد فلسطين هي جزء لا يتجزأ مما يقوله دوماً كل إنسان فينا عربي من الخليج إلى المحيط من كل أبناء الأمة من كل أبناء القومية العربية وهم يؤكدون "الأرض بتكلم عربي الأرض بتتكلم عربي.. الخ" وستظل الأرض تتكلم عربي وكل منحنيات التاريخ ستصب في خانة أن الأرض بتتكلم عربي. شكراً.

 

 

 

خامساً: من اسهامات أبو علي شاهين في الفكر الثوري.

نعم.. من ليس مع تبني التطور في الحياة..فليغادر الحياة – وهذا أفضل لهؤلاء رافضي التطور..ولكن التطور لا يعني القولبة، بل يعني التقدم.. ويرفض التقهقر..، إنه يعني السعي للأفضل وليس العكس.. حقاً..( إن الثابت الوحيد في الحياة هو المتغير..).

لقد احْتَرَمَنا العالم بأسره وقَـدّرَنا حق قدرنا ونحن نقاتل ونناضل دون حقنا،،، يوم تَـحَـلّـقَ الثوار من حملة البنادق والكادر والقيادة والقائد العام من حول حقنا بِـ (التحرير والعودة ) وتَـبَـنّـينا وسيلة حرب التحرير الشعبية، لانتزاع ذلك الحق المقدس وانجازه.

حقاً عند اغتصاب الأوطان فإنها لا تسترد بالكلام، بل اللي بجيب الرطل ،،، رطل وأوقية، المشروع الصهيوني بكل عنجهيته وصلفه وقوته وغروره وعجرفته، لن يُردع ويُهزم بمعسول الحكي وبالمزيد من التنازلات المجانية لصالح العدو المركزي، إن مثل هذه الممارسات القيادية السلبية تعمق وتجذر الوجود الصهيوني.

فليس أمام شعبنا من خيار ،،، إلا خيار التحرر الوطني، أسوة بشعوب حركات التحرر العالمية لأن الظاهرة النضالية الفلسطينية ليست ظاهرة شاذة بين مثيلاتها من حركات التحرر، فقط تنقصها القيادة الوطنية المتمرسة.

لقد قدمنا الكثير من المعانات والآلام والتضحيات وما برح شلال دماء الثورة المعاصرة منذ الدوريات الأولى يتدفق ويتدفق ويتدفق من أوردة وشرايين الشبيبة والشيب والصبايا والنساء والأطفال، فلماذا نفرض التراجع الثوري على شعبنا ؟ ولصالح من هذا التراجع؟ (من مقابلة نشرت بتاريخ 6/2/2013)

لم يكن للثورة الفلسطينية لون ديني معين‏,‏ أو طبقي أو حزبي‏,‏ لقد كانت ظاهرة وطنية عربية‏,‏ أما الأهم فهو أن المتطوعين العرب في جيش الإنقاذ بقيادة فوزي القاوقجي كانوا من كل الأقطار العربية‏,‏ خاصة المشرقية منها‏,‏ وهنا لابد من القول بأننا لم نستمع حتي تاريخه إلي أن هناك أحداً قد جاء إلينا من أبناء العالم الإسلامي علي الإطلاق‏،‏ فمثلا كان هناك سعيد العاص‏,‏ ذلك المواطن العربي السوري الذي قاد جيش الجهاد المقدس الفلسطيني إبن جبل النصيرية‏,‏ وقد أتي واستشهد في معركة الخضر‏, ‏ودفن هناك ولا يزال قبره قبلة يتوجه إليه الجميع في المناسبات للزيارة‏.‏

إن المشروع الفلسطيني كان ولا يزال مشروعاً وطنيا‏ً..‏ ديمقراطيا‏ً..‏ عربياً في فلسطين‏,‏ يقاتل ضد المشروع الاستعماري الصهيوني‏,‏ والصراع سيظل مفتوحاً علي رحاه‏,‏ مكاناً وزماناً وعتاداً وقوة‏ً, ‏إنه أولاً وأخيراً صراع إرادات‏,‏ قوة الإرادة ضد إرادة القوة الاستعمارية الصهيونية‏,‏ ونحن نجزم بأن حركة التاريخ ستقرر نتيجة هذا الأمر أخيراً‏،‏ فالغزاة مروا جميعاً ولكنهم لم يستقروا قط‏,‏ فدوماً ينتصر الدم علي السيف‏.‏ (نشرت في مجلة الأهرام العربي بتاريخ 12/1/2008)

السياسة سلاح والدبلوماسية سلاح والبندقية سلاح والاقتصاد سلاح والصمود سلاح والتصدي سلاح والتشبث بالأرض سلاح والتمترس بالأرض سلاح واستعمال الحجر في موقعه سلاح واستعمال الرشاش في موقعه سلاح واستعمال المظاهرة في موقعها سلاح وبيت الشعر سلاح والإبرة التي تخيط الثوب الفلسطيني أيضاً سلاح ثقافي والممرضة التي تعين الجريح سلاح والأم الفلسطينية الصابرة والزوجة الفلسطينية الصابرة على إبنها سلاح والأخت التي تعتني بشقيقها المقعد سلاح، هذه أسلحة لم نتنازل عنها ولا يمكن.

يجب أن نعود إلى الديمقراطية والديمقراطية هي الشرعية، ويجب أن نعود إلى صناديق الاقتراع سواء على صعيد الفصائل أو على صعيد النقابات أو على صعيد المجلس التشريعي أو على صعيد البلديات، وأن يكون الحكم هو المواطن وأن يكون هذا المواطن سواء كان في التنظيم هو الحكم في انتخاباته، وفى كل الفصائل يجب أن تكون لدينا ثورة ديمقراطية لكي نستطيع أن نجد عملية التنوير الكامل لمجتمعنا الفلسطيني من ألفه إلى ياءه.

حق العودة، فهو أيضاً حق عام وهو من الحقوق القليلة في هذا الكون الذي يعتبر حق عام، وحق خاص في آن معاً، ولا يمكن فصل أحدهما عن الآخر وثمة علاقة تربط ما بينهما علاقة جدلية وموضوعية قائمة، أما الحق العام فهو حق شعب، وهذا الشعب جزء من الأمة العربية، وبالتالي هذه الحقوق المترتبة على بعضها البعض، الحق الشخصي، والحق الوطني، والحق القومي، والحق الإنساني، فهذه أيضاً صيغة إنسانية، والحق الحضاري لابد من أن نأخذ بها، هذه الحقوق المتتالية لا يمكن ولا يستطيع أحد أن يخرج علينا أستاذ بالجامعة، مسؤول في التنظيم، بصيغة من الصيغ الآتية من هنا أو هناك، أو قالب من هذه القوالب المعدة سلفاً أو الذي يتم إعدادها لا يمكن أن تتم علينا باقتراحات أو بوجهات نظر لكي تقايض ما بين حقنا وحقنا. قضية اللاجئين من الحقائق الكبيرة، وحق العودة هو حق لنا شرعته لنا الشرعية الدولية، ونحن لا نقايض حقنا هذا بحق آخر هو لنا أيضاً.

إن إزالة المستوطنات هي مسألة حتمية وإن لم يكن اليوم فغداً، وإن لم تكن غداً فبعد غد والتاريخ لا يتوقف عند لحظة زمنية بعينها، إن الاحتلالات العسكرية للجغرافيا للأرض ليس لها أساس قائم على الديمومة التاريخية؛ أما إذا كان الاحتلال للإرادة فلن تقوم للأمة قائمة، ونحن إرادتنا لم تحتل أبداً ولم تحتل في يوم من الأيام وهذه تنطبق على حضارات سادت ثم بادت.(مقابلة نشرت بتاريخ 8/9/2003)

إن منظمة التحرير التي ناضلت من أجل انتزاع الاعتراف بها ممثلاً شرعياً وحيداً لتستحق هذا الاعتراف الآن رغم أنف حركة حماس وأقول وأكرر رغم أنف حركة حماس، ومن لا يعترف بمنظمة التحرير ممثلاً شرعياً وحيداً كما اعترف القاصى والداني بشرق العالم وغربه وشماله وجنوبه لا يمكن أن يكون جزءاً من الحالة القيادية الأولى للشعب العربي الفلسطيني فهذه مسألة لا نقاش فيها. (من مقابلة نشرت بتاريخ 19/3/2006)

إن المواجهة والمنازلة والتصدي العنيف للمشروع الإجلائي الإحلالي الأجنبي الغريب الصهيوني.. ليس أمراً مستحيلاً، وإن كان صعباً. وتزداد الصعوبة أكثر وأكثر في ظل التشرذم الوطني الفلسطيني الراهن، ولا ولن يجد المراقب السياسي أي مبرر لضرب "الشرعية الوطنية الثورية".. اللهم إلا إذا كان الهدف يصب في خانة ولصالح المشروع الأجنبي الإحلالي  الغريب الصهيوني!!!.

إن أعتى عدو صهيوني فاشي، يميني عنصري، إحلالي إجلائي متخصص في كراهية شعبنا العربي الفلسطيني، يرى أن " العربي الجيد هو العربي الميت"..، ويسعى لإنجاز الهدف الصهيوني القاضي باستئصال شعبنا من الوجود..، لم يكن يحلم يوماً أن يرى هدفه هذا قد أُنجز دون أن يطلق طلقة واحدة من سلاحه أو سلاح غيره من الصهاينة.. أو يريق قطرة دم صهيونية واحدة، فلقد رَزَقَه الرب ومـَنٌ عليه بمن يُـؤْتي له وللصهاينة عموماً، بما لم يحلم به صهيوني من قبل، ولهذا نجد الحرص الصهيوني للإبقاء على الوضع القائم في قطاع غزة، وليس هناك من سبب سياسي آخر أهم من هذا السبب الصهيوني العقائدي. (من مقابلة نشرت في 19/5/2012)

أعود للعدو الصهيوني .. الذي جِئَ به إلى المنطقة جزءاً لا  يتجزأ من الاستعمار القديم, ينتزع وجوده على الخريطة السياسية بديلاً إحلالياً لشعب بأسره ... وهذا الشعب جزء لا يتجزأ من الأمة العربية ... وأرضه هي الرابط الجغرافي, صلة الوصل والاتصال الوحيدة ما بين مشرق الوطن العربي ومغربة .

هذه هي حقيقة المشروع الصهيوني فهو مشروع إحلالي السمة والنزعة والأداء .. بكل الوسائل العسكرية والسياسية .. وهذا الثنائي لا يتعامل مع العيب والممنوع والحرام بأية دلالة، وتغيب مفردة الأخلاق من قاموس علاقاته مع إنجاز أهدافه ..، الكذب من أهم فصول سيرته الذاتية .(من مقابلة نشرت بتاريخ 6/2/2013)

الاستعمار القديم هو الذي أوجد الصهيونية العالمية لكي تكون في فلسطين وليس العكس كما يتصور البعض فالمؤتمرات الاستعمارية سبقت المؤتمرات الصهيونية من أجل أن يؤتى باستعمار الرجل الأبيض إلى فلسطين وتم إختيار فلسطين من أجل أن تكون الحاجز الجغرافي استعماريا قبل أن يكون ذلك صهيونياً حتى المؤتمر الصهيوني السابع كان الخيار مطروحاً أوغندا، وفيما بعد موت هرتزل في 4/7/1904، كان في عام 1905 اختيار فلسطين وطناً قومياً وهذه المسألة ترافقت مع طروحات رئيس وزراء بريطانيا الليبرالي آنذاك "كامبل بنرمان" فهناك كانت الصيغ، علينا أن نعود إلى الصيغ، سايكس بيكو صيغة ومن ثم وعد بلفور صيغة، ومن ثم صك الانتداب صيغة، والذي قام على سان ريمو وهذه مسائل استمرت وأيضا التقسيم عام 1927م صيغة.

الصيغة الصهيونية هي التي أوجدت إسرائيل لقد أعطت لنفسها أن تقف على أرضية الدين اليهودي ولكن هؤلاء إذا ما أردنا أن ننظر إلى الأوائل إذا كان في المؤتمرات الصهيونية إذا كان هرتزل أو يسرائيل أو كل المجموعات كل بما يمثل من التيارات أو وايزمن الذي جاء فيما بعد، أو بن غوريون أو كل هذه المجموعات من ألفها إلى يائها. (مقابلة نشرت بتاريخ 8/9/2003)

*********************************************************

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الفصل الرابع/ الشبيبة الفتحاوية .. غرس المؤسس

تُعتبر "حركة الشبيبة الفتحاوية" من أهم الظواهر "المنجزة" و"المكتملة" في التاريخ السياسي لحركة فتح؛ فقصتها ليست عابرة في تاريخ هذه الحركة؛ إذ تُشكل جزءاً من كينونتها واستمرارها، إلى الدرجة التي يمكن القول فيها أن أي تدوين لتاريخ حركة فتح بمعزل عن حركة الشبيبه؛ ناقص للغاية، ويكتنفه العديد من الثغرات؛ لقد وضع أبو علي شاهين ورفاقه اللبنات الأولي في بنيان هذه الحركة لتصبح ذراعاً شبابياً وطلابياً لحركة فتح. فشكلت حركة الشبيبة فضاءً تنظيمياً ونضالياً آخر أعطاه أبو شاهين من جهده وتضحاياته الكثير.

جاءت منظمة الشبيبة الفتحاوية مطلع ثمانينات القرن الماضي، لتصبح ذراعاً طليعياً لحركة فتح يتضمن الشباب والطلاب، لتبدأ مشواراً جديداً في تحديث العمل الشبابي الفلسطيني، وقد مثل  أبو علي شاهين والشهيد محمود أبو مذكور وطليعة من الإطار الطلابي في حينه أمثال محمد حسن المزين, وإسحق مخيمر ومحمد عبد الرازق ومحمد غنام وتوفيق أبو خوصة وزياد قرمان وإيهاب الأشقر ومعين مسلم ومحمد دحلان والعديد من الكوادر أبرز رموزها.

أبو علي شاهين ... واللبنات الأولى للشبيبه.

في عام 1982عندما أعدنا تأسيس "على سبيل المثال" لجان الشبيبة للعمل الاجتماعي كانت الفئة العمرية لا تزيد بين هؤلاء عن "21" سنة فقط صبايا وشباب وتحملوا مسؤولية تاريخية غير عادية وكان الأداء بهذا السياق الشبابي أداء يفوق أي قدرة على الوصف وهذا الأداء هو الذي أهلهم في الانتفاضة بعد ترتيب أنفسهم بسنوات قليلة لا تتعدى أصابع اليد الواحدة خمس سنوات من نهاية الـ "82" إلى نهاية "87" أهلهم هذا الأعداد الكبير في المواجهة والتصدي والصمود والمثابرة، وهذا أهلهم إلى تواجد قيادة ميدانية فعلاً قيادة فذة.

فعندما جاءت الانتفاضة الأولى في ديسمبر/كانون أول سنة 1987 هذه القيادة الشابة هي التي احتضنت القيادة الوطنية الموحدة هي التي صاغت أفكار القيادة الوطنية الموحدة التي كانت متقدمة على قراءات وعلى صياغات قيادات فلسطينية في ذلك التاريخ، وكانت تقودنا منذ ربع قرن، هذه مسألة مهمة أيضاً، عندما جاء تعريض الذات للتضحية كان تعريضاً قوياً وأخاذاً وملفتاً للنظر، وكان فداءً ملهماً لا يستطيع أحد أن يتجاوزه ولا يستطيع أحد إلا أن يشيد به، حتى الأعداء أشادوا بهذا ليس في موقع أو عشرات المواقع ومئات المواقع ولكن بآلاف المواقع.

هؤلاء هم الذين أخرجوا ثورة النخبة في الخلايا المسلحة السرية التي كانت في أداء بطولي منقطع النظير هم هؤلاء الذين أخرجوا هذه الصيغة إلى صيغة الفعل الجماهيري ومن ثم أوجدوا المعركة المركزية الأولى في تاريخ فلسطين بعد سنة 1948 في عمق الاحتلال الإسرائيلي، حيث أوجعوه"

بعد حرب حزيران عام 67 تغير الحال واستمر النضال والمقاومة الفلسطينة....ومحاولة القضاء عليها في معارك بيروت..... ومعها قيادة حركة فتح .. قام الشهيد القائد خليل الوزير "ابو جهاد" بمهمه نقل معركة التحرير والاستقلال إلى داخل الأراضي الفلسطينية فتشكل اطاراُ فتحاوياً بإسم "لجان الشبيبة للعمل الاجتماعي " تحمل مسؤولية تأسيسها وقيامها ومتابعتها ثله من الكوادر والمناضلين من قيادات الحركة الأسيرة والطلابية والجماهيرية.

إذن تاريخ تأسيس الشبيبة يعود إلى ما بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان وتحدي الثورة الفلسطينية للجندي الذي لا يقهر، حيث كانت فتح تركز فقط على العمل العسكري الثوري، وبعد الخروج من بيروت وتشتت قوات الثورة في البلاد العربية وابتعادها عن خط التماس المباشر مع حدود العدو الإسرائيلي، بدأت مباشرة تتبلور فكرة في نقل المقاومة الفلسطينية من الخارج إلى داخل الأرض الفلسطينية المحتلة، وكان الشهيد أبو جهاد قائماً على الفكرة وبدأت الاتصالات مع قادة فتح في المعتقلات الإسرائيلية حيث تم الاتفاق لبناء هذه الفكرة.

في عام 1982م تم عقد أول مؤتمر للشبيبة في " بيرزيت" بين قادة حركة فتح في غزة والضفة الغربية، ومن ثم امتدت الشبيبة إلى قطاع غزة؛ وبدأت الشبيبة في الانطلاق معتمدة البرنامج الاجتماعي في سيرها ومقاومتها للاحتلال من الشكل الظاهر، أما الشكل الخفي للحركة كان في تنظيم الشباب الفلسطيني وتوعيتهم لمقاومة الاحتلال، والفترة المحصورة بين عام 1982 -1987م كانت برامج الشبيبة تعتمد على الأعمال التطوعية من تنظيف للشوارع وقطف الحمضيات والزيتون ومساعدة الأهالي في المخيمات ومشاركتهم الأفراح والأحزان.

انتشرت الشبيبة بشكل ملحوظ حيث دخلت الانتخابات لمجالس اتحاد الطلبة في ( بيرزيت - النجاح - البولتيكنيك - الخليل ومعهد رام الله ،....) حيث فازت فوزاً ساحقاً بها وسيطرت على معظم المجالس الطلابية والمؤسسات الوطنية، ومن هنا بدأت الشبيبة بتأثيرها على الشارع الفلسطيني حيث بدأت تطرح بشكل واضح وجهة نظر م.ت.ف وحركة فتح .

وكان الحضور الرسمي للشبيبة عام 82 واضحاُ وذلك في الجامعات والكليات والنوادي والمدن والمخيمات والقرى الفلسطينية ركزت خلالها الشبيبة على فكرة العمل التطوعي والاندماج في المجتمع المحلي وسيلة لبناء نموذج التكافل واستقطاب الجماهير وبفضل ذلك فقد فتحت الجماهير الأبواب للشبيبة في المكان والزمان الذي احتاجته فسيطرت على معظم الأطر الطلابية والنقابية وغيرها في الانتخابات الديمقراطية.

ومع بداية الانتفاضة الشعبية تحولت الشبيبة إلى حركة ثورية تقاوم بشكل علني، حيث اندمج عناصر وأعضاء الشبيبة في اللجان الشعبية، فكان للشبيبة شرف ريادة الانتفاضة الشعبية؛ كما كان للطلبة دور هام في تصعيد الانتفاضة.

ما أن إندلعت الانتفاضة المباركة حتى أقرت الحكومة الإسرائيلية بعد أقل من شهر اعتقال كل عضو في الشبيبة بداعي أنه "تنظيم تخريبي محظور " .... إعترافاً منها بدور الشبيبة في الانتفاضة وقد تحمل الشباب شرف قيادة العمل الميداني النضالي في الانتفاضة وقد شكلت ديناميكية حركة المقاومة بالحجر المقدس وطورت من أليات عملها حتى تشكلت مجموعات العمل المسلح مثل مجموعات الفهد الأسود؛ صقور فتح؛ الاسد المقنع؛ قوات الشبيبة الضاربة؛ وكان معظم منتسبيها من أبناء الشبيبة.

وعلى هذا الدرب الطويل سقط آلاف الشهداء والجرحى واعتقل الآلاف من أبنائها .....فداء للوطن وضريبة يقدمها الشعب الفلسطيني..... حتى تحقيق أهدافه في العودة والحرية والاستقلال

وجاءت مرحلة المفاوضات وتم توقيع اتفاق إعلان المبادئ مدخلاً لاتفاق سلام عانت معه الحركة الوطنية الفلسطينية كثيراً فقد كادت تضل الطريق والشبيبة جزءاً اصيلاً من ذلك من خلال علاقتها العضوية مع "حركة فتح" ولذلك تحمل ثله من كادر الشبيبة المسؤولية لتحقيق ما يلي:

1. المحافظة على القيمة الوطنية العليا لدى الشبيبة بمنع وجود حالة" فراغ قيمي" يدمر المستقبل وتوجيه حالة التمرد لدى الشباب ايجابيا.

2. استنباط أليات نضالية جديدة توائم بين المعطيات والمتطلبات الوطنية. وبحوار داخلي طويل مع قيادة حركة فتح وكادر الشبيبة وقياداتها الأوائل أقر إعادة هيكلة الشبيبة تحت إسم "منظمة الشبيبة الفتحاوية" واعتمد التأريخ الرسمي لذلك 1-1-95.

واعتبرت منظمة الشبيبة الفتحاوية بذلك أول إطار يفتح بوابة العمل الشبابي على الأرض الفلسطينية وحيث ذلك فقد قدمت حركة فتح بكافة هيئاتها وعلى كافة المستويات ....الدعم التنظيمي معنوياُ ومادياُ واعتمدت الإطار الشبابي الممثل لشباب حركة فتح رسمياً. وقد منح القائد الرئيس أبو عمار جل إهتمامه للشبيبة بوصفه راعياً أول لمسيرة الشبيبة والشباب.

كان التأسيس وبداية التفعيل للشبيبة الطلابية والشبيبة الاجتماعية في جامعة بيرزيت ومنها تبعت بقية المناطق بما فيها قطاع غزة الذي أُكمل المشوار فيه، بل كانت عملية تداول الأفكار وكتابة النص الأساس لدستور الشبيبة ونظامها الأساس هناك في غزة، وهذه الأسماء عندك والذي أستغرب له وذكرته في أكثر من مقال لماذا صمت هؤلاء جميعاً وهم يعلمون الحقيقة مثلما أعلمها ؟؟

بدء التفكير في تشكيل الشبيبة الفتحاوية منذ سنوات طويلة ولعل بداياته بحضور مؤتمرات الشبيبة الشيوعية التي كانت تقام في موسكو في بدايات السبعينات والتي كان يقود وفد منظمة التحرير وحركة فتح آنذاك الرئيس محمود عباس الذي نقل الفكره إلى اللجنة المركزية لحركة فتح ولكن بقي الأمر دون تنفيذ حتى بدء النقاش في البدء فيها داخل سجون الاحتلال الصهيوني .

لعل الفكرة انطلقت في البدايات الأولى في جامعات الوطن المحتل وبالتحديد في جامعة النجاح الوطنية حين خاضت حركة فتح انتخابات مجلس اتحاد الطلبة الفلسطيني بإسم كتلة الزيتونة وبعدها انتقلت الفكرة إلى جامعة بيرزيت عبر عدد من الأسرى المحررين الذين بدؤوا بتجميع أنفسهم والتسجيل بالجامعة لتكوين النواة الأولى للحركة وفازت حركة فتح وفاز مفيد عبد ربه برئاسة أول مجلس تقوده حركة فتح .

وبدأت حمى انتشار الشبيبة بعد إتخاذ قرار واضح في سجون الوطن الصهيونية وإتخاذ قرار بتنشيط هذه الفكرة التي كانت في ذلك الوقت في جو انتخاب رؤساء بلديات الضفة الغربية وتشكيل اللجنة الوطنية العليا التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية والتي يقودها من الخارج الشهيد القائد خليل الوزير أبو جهاد .

أدى الإفراج عن عدد كبير من كوادر حركة فتح من السجون بعد قضائهم سنوات طويلة في السجون والذين تم تكليفهم بالبدء بانطلاقة الشبيبة في كل الوطن المحتل والذي دعم الفكرة وكان يقودها فكرياً وثقافياً وأمدها بالعديد من الدراسات الثقافية الأخ أبوعلي شاهين السجين المفرج عنه من سجون الاحتلال والذي فرضت عليه الإقامة الجبرية في رفح؛ ورغم ذلك فقد زار أغلب مدن الضفة الغربية ومخيماتها داعياً إلى تصعيد العمل في فكرة الشبيبة .

الشبيبة مع بداية ثمانينات القرن الماضي ومع تأسيسها انقسمت إلى عدة أقسام الأول حركة الشبيبة الطلابية في الجامعات والمدارس الثانوية ولجان الشبيبة للعمل الاجتماعي في القرى والمخيمات والمدن الفلسطينية ولجان المرأة للعمل الاجتماعي وهو إطار نسوي مساند للشبيبة في كل المواقع وشبيبة النقابات والمؤسسات الوطنية كل في موقع وتسترت حركة فتح تحت إسم الشبيبة لكي تميز بين العمل التنظيمي العسكري والعمل النقابي حتى لا تقع في المحظور .

وعلى الرغم من أن الإطار التنظيمي تكون في كل القرى والمخيمات والمدن والجامعات والمدارس وكل فعالياتهم كانت تطوعيه واجتماعيه ونقابيه إلا أن قوات الاحتلال إعتبرتها خارج القانون وأصبحت تحاكم العضو فيها وتفرض عليه الاعتقال الإداري وكذلك يحاكم أبنائها بتهمة العضوية بالشبيبة أمام المحاكم العسكرية الصهيونية للحد من هذه الظاهرة المتزايدة والمتنامية والتي أصبحت تضرب الاحتلال وتثير عليه الجماهير في مواجهات يوميه .

مثلت الشبيبة جانب مهم في تغلغل حركة فتح وسيطرتها على الشارع الفلسطيني وتمرير الموقف السياسي المساند لها ولشرعيتها وخاصة في حرب بيروت الخالدة وامتداد وتفاعل الجماهير مع الثورة الفلسطينية في لبنان؛ وكذلك وقفت إلى جانب الشرعية الفلسطينية في ظل انشقاق أبوموسى المراغي وتشكيله لتنظيم فتح الانتفاضة وحرب المخيمات والخلاف السياسي الذي كان يسيطر على الساحة الفلسطينية وأشياء سياسيه كثيرة وأعطت زخماً سياسياً للحركة في الخارج .

فمثلا في قطاع غزه كان هناك قيادة الجامعة الإسلاميه الوحيده آنذاك في القطاع مشكله من لجنة مركزيه لإدارة العمل التنظيمي يتم انتخابها من قبل مجلس ثوري مكون من 21 عضو وهناك لجان مختلفه بالمجالات المختلفه الثقافيه والاجتماعيه مرتبطه بقيادة الشبيبه الطلابيه التي تضم كل الجامعات والمعاهد والكليات الفلسطينيه وكان هناك إطارين اللجنة اللوائيه الشماليه وهي تضم شمال القطاع ومدينة غزه حتى واد غزه واللجنه اللوائيه الجنوبيه كانت تضم مخيمات وسط القطاع ومحافظة خانيونس بشرقها وغربها ومخيمها وكذلك رفح وتتكون من عضو من كل لجنة شبيبه يتم تأسيسها إضافه إلى عدد من الكفاءات التنظيميه؛ وكان القطاع آنذاك عضو بما يسمى الاتحاد العام للشبيبه ومقره القدس والذي كان يقوده لفتره من الوقت الأخ طلال أبوعفيفه .

ما أردت أن أقوله أن الشبيبة كانت كل مفاصل الحركة في الأراضي المحتلة أي أنها كانت الأقاليم والمناطق التنظيمية وكذلك أذرع الحركة جميعاً في الوطن المحتل غير ملتزمين بالإطار التنظيمي المطابق للنظام الأساسي للحركة؛ فقد تم وضع لوائح إداريه وتنظيميه لهذه الأطر التنظيمية المختلفة ويتم قيادتها وفرزها انتخابيا من أصغر مجموعه تنظيميه وإنتهاءً باللجنة اللوائية العامة على مستوى الأراضي المحتلة وكل الخطوط تنتهي بالنهاية في يد الشهيد القائد خليل الوزير أبو جهاد الذي كان يمول نشاطات هؤلاء الشباب ويمنحهم الموازنات التنظيمية .

تدافع الأجيال والانتخابات الديمقراطية ومعرفة المرجعيات التنظيمية وإحترام المكان والموقع والالتزام والانضباط كان ما يميز هذه الشبيبة ويحكم أدائها المتناغم على مستوى الوطن المحتل آنذاك؛ ولم يخرج أحد أو يتم تعيينه بشكل فوقي مهما كان ومن كان واسطته في ذلك الوقت الجميع شق طريقه من خلال القواعد التنظيمية وتم انتخابه بشكل ديمقراطي واتبع الجميع القواعد و المسلكيات في الانضباط والتراص من أسفل إلى أعلى بشكل هرمي متناغم نتمنى الآن العودة له من جديد .

ومع بداية الانتفاضة الفلسطينية الأولى ذابت الشبيبة في حركة فتح وأصبح الجميع يحمل إسم حركة فتح؛ ولكن بقي الكادر المميز المثقف الذي رفد السجون الصهيونية بالكادر القائد وأصبح من كان في الشبيبة أينما يكون هو قائد في موقعه وهو أقدر على التنظير والتأطير من أي شيء آخر وأنهك الجميع في مسيرة الاعتقال والتنظيم وقيادة المجموعات الشعبية والتنظيمية المقاومة للاحتلال الصهيوني ولم يتم تشكيل الشبيبة بفعالياتها القديمة بسبب إغلاق الجامعات الفلسطينية من قوات الاحتلال الصهيوني والاعتقالات التي كانت تطال أي أحد يتحدث بالسياسية ويمارس العمل النقابي.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الفصل الخامس/ كتابات تُخلد أبو علي شاهين

أولاً: أبو علي شاهين  .. ملهم الأدباء والباحثين

ترك أبو علي إرثاً كبيراً في مجال أدب السجون والحركة الأسيرة لا سيما في مجال الرواية والقصة والشعر والنثر؛ ترك مخزون ثقافي وسياسي وإرث كبير للحركة الوطنية الأسيرة والحركة الثقافية كونه أغنى المسيرة التربوية والأكاديمية بأكثر من 30 رسالة علمية محكمة من درجتي الماجستير والدكتوراه نوقشت في الجامعات الفلسطينية والعربية والدولية، جسد الراحل أبو علي فكره وشهادته فيها على مسيرة النضال وبشاعة وجبروت السجان الإسرائيلي في السجون والمعتقلات الإسرائيلية.

معظم هذه الرسائل كانت في شؤون الأسرى وكان المناضل القائد عبد العزيز شاهين (أبو علي) أبرز المرا جع والمعالم في هذه الدراسات، ولم تخلو أي رسالة من هذه الرسائل من دون إجراء الباحث مقابلة مع أبو علي شاهين، وعلى سبيل المثال لا الحصر كانت أبرز هذه الرسائل التي أجري فيها مقابلات مع أبو علي رسالة دكتوراه الباحث (جهاد البطش) نائب رئيس جامعة القدس المفتوحة لشؤون قطاع غزة الذي ناقشها بجمهورية مصر العربية ونالت مرتبة الشرف الأولى، والتي شارك في فعاليات مناقشتها الراحل أبو علي بجمهورية مصر وقدم مداخلة فيها بناءً على طلب لجنة الحكم والمناقشة، بالإضافة إلى الأعمال التي جسدت رحلة كفاح ونضال القائد أبو علي في مسيرة النضال.

ومن أبرز ما خلد بطولات أبو علي، رائعة الشاعر الراحل "محمد القيسي" والتي حملت عنواناً غريباً: " الهواء المقنع "، وهي عمل أدبي في منتهى الروعة جسّد فيها الكاتب قصة القائد الفلسطيني "أبوعلي شاهين" في المعتقلات الإسرائيلية على إمتداد خمسة عشر عاماً بالتمام والكمال، وقد أبدع القيسي في وصف معاناة وصمود أبو علي شاهين الذي مثّل رمزاً لآلام وتضحيات الأسرى الفلسطينيين، وكان طوال فترة أسرِه نموذجاً فذاً لشخصية تحطمت على عظامها هراوات السجان، ولم تتحطم روحها، فقد كان بطل القصة ممثلاً لجيل كامل ولمرحلة تاريخية بالغة الأهمية والتأثير شهدت إنكسار الحلم العربي في حزيران، وصعود الأمل الفلسطيني في ثورة المستحيل.

 

 

 

ثانياً: أبو علي شاهين في فضاء الذاكرة!

بقلم/ يحيى رباح     

لا أعرف على وجه التحديد متى التقيت مع عبد العزيز شاهين (أبو علي) أول مرة، ربما في يوم الخروج الكبير، يوم النكبة، الذي لا يضاهيها شيء سوى مشاهد يوم القيامة في الكتب المقدسة.

في ذلك اليوم كان القرويون من أبناء السهل الساحلي الجنوبي قد أخذهم الهول، على حين غرة فلقد تركتهم بريطانيا دولة الانتداب آنذاك لمصيرهم، وتركتهم الجيوش العربية لنهايتهم المفجعة، وكانت المشاهد تليق بفوضى الموت والكارثة، المشوار طويل بلا نهاية، جوع وعطش ورعب والقتلى يتساقطون في الطرقات ولا يحظون حتى بقليل من البكاء، فلقد كان الموت أكثر صخباً على يد العصابات الصهيونية التي تريد أن ترسم مشهد الاقتلاع في أفظع صورة ممكنة.

الخارجون من قراهم المهددة بالمذابح – كما في دير ياسين – يفرون منها إلى الشرق والجنوب، وكلما تزاحمت طوابير الرحيل المأساوي ازدادت صورة هولا، قرويون من بشيت ويبنة وزرنوقة والقسطسنة والمسمية والسوافير والبطانة وبيت داراس واسدود والجورة وحمامة ومئات من القرى، كانت بعض العائلات قد فقدت رجالها في معارك الأيام السابقة، وهكذا كان شأن عبد العزيز شاهين، والده كان قد استشهد قبل أن يبدأ الهجوم الكبير، وها هو الآن مع عائلته في الطريق إلى المنفى، ربما نكون قد التقينا هناك، وعلى كل حال، فان عبد العزيز شاهين (ابو علي) لم يكن يستغرق وقتاً طويلاً للتآلف معه حين تتعرف عليه أول مرة، تشعر إنك تعرفه دائما، وإنك لم تنقطع عنه سوى لحظة وإنك ذاهب معه إلى نفس الموعد.

كما أن كل جيل النكبة الذين كانوا أطفالاً حين انخرطوا بقسوة بتلك التراجيديا، ظلت صورة النكبة تعشش في ذاكرتنا، كانت هي الصفحة الأولى وظلت هي المقياس الخارق المتفرد للعدل والظلم للرضى والسخط، للإيمان والكفر للمحبة والكراهية، لا شيء في هذه الدنيا كلها قادر على أن يمحو وجعك الأول، وهل يوجد وجع أقوى وأقسى وأفظع وأبشع من أن يصبح الإنسان بغتة بين لحظة وأخرى بلا وطن مجرد ذرة من غبار عالقة في هبوب الريح ؟

لا تصدقوا ما يقال لكم، فنحن لا نزال في نقطة البداية، ولم نجب عن السؤال الأول: لماذا نحن غرباء، لاجئون، بلا هوية؟ إن كل الإجابات الصاخبة، وكل النصوص المقدسة، وكل الاحتفالات المرتبة، لا تجدي نفعا إذا لم يتم الجواب النهائي على هذا السؤال.

ومثل كل أبناء جيله، خرج ابو علي شاهين إلى مجابهة الحياة مبكراً، كانت مدارسنا الأولى مجرد خيام بالية، وكانت مقاعد الدراسة أكياس من القش، وبعد أن استقرت العائلة في رفح في ذلك الشريط المحنوق بين الماء والصحراء في قطاع غزة ذهب للعمل، وقادته قدماه إلى السعودية، وفي ذلك الزمن، زمن القيامة من الموت الكامل، كان الفلسطيني يبحث بالتوازي عن لقمة الخبز كما يبحث عن هويته وكينونته، عن سر وجعه، عن صانعي مأساته، وعن دوره في هذا العالم الذي لا يرحم أبداً.

ومن صعوبة تلك الأسئلة والحاحها المستمر الخارق ولدت حركة فتح، من أقسى لحظات انكشاف الحقيقة ولدت فتح من عذاب الجرح، من هول الخطيئة التي ارتكبت بحق الفلسطينيين، من نزيف أقدامهم العارية في دروب المنفى ومن هشاشة خيامهم التي نصبت لهم فوق سوافي الرمال، من نكران أسمائهم وأنسابهم وذكرياتهم ولدت حركة فتح، ولم يكن هناك أولى من جيل النكبة بالاستجابة لندائها العظيم.

وهكذا فقد أصبح أبو علي شاهين عضواً في حركة فتح في بداية الستينيات قبل أكثر من خمسين سنة، وفي ذلك الوقت لم تكن فتح مجرد بطاقة عضوية يضعها الإنسان في جيبه، بل هي السر الأخطر والوعد الأصدق بألا يبقى الحال هو الحال، ولا تبقى الأرض هي الأرض ولا تبقى فلسطين وطناً وشعباً وقضية خارج دفاتر الحضور!

خبزنا مر، وماؤنا ملح أُجاج،

وكل شيء لنا من الحق والأرض والميراث نخبئه هناك في تلافيف الذاكرة اليقظة، ممنوع أن ننسى، لا يحق لنا النسيان ولا البكاء، بل يجب أن يرانا العالم نصعد إلى خشبة المسرح، لنجيد فن الحضور والبقاء، وهكذا التقى عبد العزيز شاهين مع كمال عدوان وعبد الفتاح عيسى حمود وأبو يوسف النجار وصلاح خلف وخليل الوزير وممدوح صيدم وياسر عرفات، التقى بهم داخل القطاع وخارج القطاع وكانوا هم ورفاقهم يطرحون الأسئلة بحذر شديد وبصوت هامس كأنه وشيش النار، وكانوا يتبادلون الرؤى والأسرار، كيف نبدأ ومتى نبدأ؟ فليس لنا خيار سوى أن نبدأ، أقدارنا وخياراتنا متلازمة، وهكذا نفذ أبو علي شاهين دوريته الأولى، ودوريته الأولى قادته إلى آفق ممتد بلا نهاية، فكان السجن الإسرائيلي تجربة كاملة، في زنازين الحبس الانفرادي، في جلسات التحقيق، في العمل والابداع ليل نهار إنطلاقاً من أصغر أصغر التفاصيل لتحويل السجن من تجميد واهدار للعمر إلى ميدان قتال جديد، وهكذا فقد أسس ابو علي شاهين الحركة الفلسطينية الأسيرة، تنظيماً كاملاً بأرقى أشكال التنظيم، وسلطة كاملة ابتداءً من توزيع ما يحضره الأهل لابنائهم في الزيارات على الجميع، إلى أكاديمية للتعليم والثقافة السياسية والثقافة العامة، إلى حياة منتظمة داخل عنابر السجون، من بداية التحقيق حتى تنفيذ الاحكام إلى لحظة الخروج من بوابة السجن، حركة وطنية بكامل هياكلها داخل السجون والمعتقلات من إبداع أبو علي شاهين الذي تلمع عيناه الذكيتان القلقتان من وراء نظارته الطبية السميكة، رجل لا يكل ولا يمل، لا يتوقف عن المحاولة لحظة واحدة، يوزع التعاميم السياسية على كافة السجون، ينفذ البرامج الثقافية، يكلف المساجين بالمهمات، يتواصل مع القيادة العليا برسائل عالية المستوى تحتوي على تقدير دقيق للموقف السياسي، ابو علي شاهين دائماً في أرقى حالات الجاهزية.

زرته آخر مرة عندما كان قادماً من علاجه في المانيا، فتحدثت معه حديثاً مطولاً قبل أسبوعين عندما كان في مستشفاه في القاهرة، الكبد متشمع، والطحال والكلى في أسوأ حال، وعضلات القلب منهكة، بينما ذاكرته كانت صافية، ورسائله واضحة، ويقينه أبيض، فقد أدى ما عليه في الحد الأقصى، ابو علي شاهين لا يحب فلسفة الحد الأدنى، جرحه الأول يرفض ذلك، وعيه العميق يرفض ذلك.

بالنسبة لفلسطين وعدالتها وحقها وقداستها وآلامها فإن ابو علي شاهين لم يكن من دعاة التساهل أو التسامح أو الضجيج، كان يشبه ذلك النوع الراقي من طائر حفار الخشب، ينقرن وينقر، وينقر في الجذوع الصلبة حتى يحفر لنفسه بيتاً، وملاذاً، وهدفاً، وقضيته تستولي عليه بالكامل، ولم يكن يهدأ قط، حتى وهو تحت وطأة المرض والمعاناة والوجع، كان يبحث عن منطق عميق للأشياء، لماذا يحدث هذا الشيء؟ ولماذا لم يحدث هذا الشيء؟ لم يكن ابو علي شاهين يقبل الأشياء على علاتها، إنه من فصيلة الحد الاقصى، هؤلاء الذين إجترعوا أشياءً وأفعالاً لم تكن موجودة قبلهم، وهذه هي الثورة، فما بالكم بثورة من أجل أن يكون لنا وطن وكيان وهوية؟ وهذه هي أقانيمنا الثلاثة المقدسة.

صعد ابو علي إلى فضاء الذاكرة، تحررت روحه من جسده العليل، مثلما تحرر في المرة الأولى من سجنه، ترك لنا ميراثاً كبيراً، كتب لنا في دردشاته رؤى تنفعنا في مشوارنا الطويل وترك لنا نماذج من نضالاته المبدعة في الحركة الفلسطينية الأسيرة، وفي الانتفاضة الأولى والثانية، وفي مجمل حياته السياسية والنضالية، دعونا نقرأ هذه التجربة، ونضيء عليها لصالح أجيالنا.

ويرحمك الله يا صديقي ابو علي شاهين.  

ثالثاً: أبو علي شاهين "ليس تأبينا"

بقلم/ محمد دحلان؛ " عضو المجلس التشريعى"

دأبنا على التحدث عمَّن يفارقوننا بصيغة فعل الكينونة الماضي الناقص، لكنّ "أبوعلي" فعلٌ تام، لم تنقصه برهةٌ واحدةٌ في الغياب، لم تذهب من دقات قلبه واحدةٌ سدى، ينام ولا ينام، أبو علي كيمياءٌ دائبةٌ لم تزل، مسكوناً بيقين الفصل الأخير من صراع يتذوقه بقلبه ويرى مآلاته، ويقطر حموضةً من سيرورته، يعرف أبعاده، ويعرف الطريق إليه، لذا فهو يوزّع روحه جمرةً جمرة وينثرها على مساحات الجغرافيا والديموغرافيا، هو من أولئك الذين ينتشرون في القلوب، ويعرفُ كيف ينسج مواله ويغزل نسيجه، ويضع بذرةً في كل قلب، بإحساس الاستراتيجي الذي يدرك أن الطريق طويل وأن الاختصار مخلٌّ بالنهايات، الطريق طويلٌ نعم، ولكنّ النصر قريب، تلك هي أحجية القادة التاريخيين، ولا أحد يعرف كيف إلا أمثالهم، يمنح كلَّ من يقابله سرّاً منه حتى ليظنّ أنه له وحده، يفتلُ حبلاً يصله بقلبه، ويظلُّ مشدوداً له وبه، كلُّ من قابله له حظٌّ منه، هكذا يوزّع ذاته على شعبه، ويبذر سهوله، فالغدُ خصبٌ، والشهادة أن تؤديَ الأمانة، وألا تموت كما يموت البعير.

مشرع القلب، يَدخل من يشاء، ومشرعُ الفكرة واضحةً كالليل، ومُشرَعٌ بيانُه، تلقائيته هي جدّيّته الناجزة، وبداهته اطمئنان صدقه، وعدالة جرحه، فيه ما في أولئك الذين عرفوا أن فلسطين أوسع من الأرض وأطول من التاريخ، فاكتست لهجتَهم موسيقى الإنسان والغزلُ والكتبُ المقدسة، ولدى هؤلاء فإن الكبرياء والعنادَ يأخذان شكلاً مطمئناً من الابتسام، وللغرور طعمٌ جميل، يعرفُ ما يريد، ويعرف الطريق إليه، شبيبةً وأملاً وزعتراً ومناضلين، شعبٌ يطلب وطناً، يتحوّلُ إلى وطن، لكلّ اللاجئين، كلُّ فلسطينيّ يستطيع أن يدقَّ قلبه، كما يدقُّ باب داره وقتما شاء واثقاً من احتضان أبو علي، الوطن الآب والإبن، وفي سيرته أنه نهض من بين المجازر وقام من بين الأموات، وفي سيرته أنه كان في زنزانته وحيداً كالأنبياء، وفي سيرته أنه كان يلمّ الأشياء والأشلاء، ويعيد رسم الخريطة.

في مثل حالتنا تعوّدنا أن نعدّدَ مآثرَ الراحلين، ونخطُّ أمدوحتهم ونستعرضُ سيرتهم الذاتية، أمّا في مقامنا هذا فإننا أمام حالةٍ راهنةٍ متفاعلةٍ، كأنه احتاط لهذه البرهة وأخرج ورقته التي يراهن عليها، نحن أمام حالة، وليس أمام شخص، قليلون هم أولئك الذين يصيرون حكايةً شعبية، حين يمتزجون بيوميات الناس ويهبونها مذاقها الأول، يشافهونهم بلا تنظير، يراوغون نزقهم ويدللون جرحهم، ويوْدِعون رصيدَهم فيهم، يكرّزُ في البرية بصوته الحافي مثل يوحنّا المعمدان، يوزّعُ خبزه وذاته على الشعب ويكتب الأبجديّة، هكذا يكون فيهم صيرورة، وامتزاجاً ومزاجاً، من منا لا يروي حكاية عن "أبو علي"، الذي رغم صيرورته الذاتية المفعمة بعناوين المعاناة والسجن والمأساة الذاتية والعائلية فإنه كان يطفح بالحياة ومحاباة الإنسان وفيض الخاطر وأناقة الأشياء الصغيرة، غليونه عكازه لوحاته ومنمنماته وقنوات فكره على الثقافات التي نختزن جذورها في جذورنا، فلسطين عنوان الكون والمسيح فلسطيني، وحين تتعدد رواياتنا ستكون روايتُه، سيقال كثيراً "قال أبو علي"، ووقتها سنعرف أنه حكاية شعبية، مثل أولئك الذين تغلغلوا في مزاج الناس البسطاء الذين باسطهم فباسطوه، وتشرّبوه وتمثّلوه وهضموه وحكُوه .. حكاية شعبية، الشعب هو الوحيد القادر بجبروت بساطته على صنع ملامح أبطاله، ورواية الشعب غيرُ قابلة للنقض، والرواية الشعبية هي التي ينسجها ملايين الصاغة والكتاب، ويصبغون ألوانها وطعمها، تماما كالنديم وبيرم وأدهم الشرقاوي، فمنذ اليوم الأول الذي منحهم ذاته أصبح ملكَاً حصريّاً لهم.

لا أقول الجملة التقليدية "إنه ما رحل"، فحكمة الخالق وقدَرُه قضيا أن يَحُوْرَ الخلقُ في مراحل الخلق الأربع، وربما حكمته تقتضي أن يقول المرءُ مقولته ويَدَعُها تتجدّد في مرجل التاريخ واجتهاد البشر وعزائم الرجال، مجرَّدةً من قِيامة صاحبها عليها، لتتفاعل فيهم بحريتها ويتفاعلوا معها، تتجدّد بالزمان ويتجدد الزمانُ بها ويصقلها وفق استحقاقهم لها، وهو شرطٌ آخرُ للاكتمال الذي لا يُنجز إلا بالنقصان، وهذا سرُّ سِحرِ بشريِّتنا، لا أقولُ "ما رحل"، ولكنّ من سمات الذين يعيشون ويُرزقون أنهم يتألمون وينزفون، ألا ترون أنّ "أبو علي شاهين" مازال يتألّم وأن جرحه مازال مُشرَعاً حيّاً نازفا.

ليرحمنا الله

 

               

 

 

 

 

 

 

 

رابعاً: الوداع أبو علي شاهين ... يا شيخ المناضلين

بقلم/ خالد صالح (عزالدين)

رجل غني بالبساطة، حين تراه أو تحدثه، تحسبه كأنما عائدٌ للتو من حقله، مليء بوعد السنابل والأسئلة، وتفوح منه روائح أرغفة ساخنة من طابون بعيد، رجل يحلم بصباح هادئ، وفنجان قهوة يحتسيه على باب داره التي حجبوه عنها سنوات، ثم طردوه عن الشبابيك والأزقة والطرقات.

وأما حدقت قليلا، أو تأملت في الورق، فهو عاشق من تراب وشجر وغيوم، بأصابع تمسك ببندقية لا تخفيها، وإن أخذت أحياناً شكل عصا يرسم بها على التراب خارطة ومساكن يعرفها، ويهش بها على الفراغ والنسيان، من عينيه تهطل بروق كثيرة، وتسطع أقمار دافئة وحكايات لا تنتهي عن أزهار تنهض، وبشر يقاومون الموت ومد الجفاف، نبع محبة وحنان لا يعرف الكراهية، ولا يغمض عينيه عن ضيم، رجل من أحاسيس وخفقان ومعرفة، صاغه الطرد، وشكله المنفى إرادة وحلما، رجل في خطى داعسة للأمام، يجرح الوقت، ويعب نفساً، ويمشي إلى نقطة موقوتة، ويرى الغد.

إبن فلاح وفلاحة من بلاد العرب الواسعة، ذلكم من أقصد، وأعني أبو علي شاهين، المناضل الفلسطيني، لم يعرف تاريخ مولده الحقيقي، حيث ولد في قرية"بشيت" قضاء الرملة لواء اللد، شهادة ميلاده كانت في جيب والده الذي استشهد في معركة القرية، عام الطرد.

عرف طريق الشتات، حط في رفح لاجئاً، وثقفه استشهاد والده، قتل الاحتلال الإسرائيلي خمسة من أعمامه إبان احتلال غزة في 1956 وعام 1967 ودفنوا في قبر جماعي شهير بمدينة رفح جنوب قطاع غزة. تعلم دروس المنفى، اعتقل خمسة عشر عاما، وأسس بعد تحرره حركة الشبيبة الطلابية ثم أُبعد إلى الأردن وتونس، قاد مع الشهيد أبو جهاد قيادة العمل المسلح "القطاع الغربي" وعاد إلى الوطن بعد توقيع اتفاقيات أوسلو حيث تأخرت عودته بسبب معارضته لها.

عاني منذ أشهر من توقف جزئي لعمل الكبد، ما أدى إلى تدهور صحته بصورة سريعة واستدعي نقله للمشفى أكثر من مرة، نقل للعلاج بالخارج لكنه طالب بالعودة لقطاع غزة ليدفن فيه، وفي رفح.. مساحة روحه وموطن ذكرياته وكفاحه . دفن جسده الثائر.

أبو علي سيظل حاضرا ..إنه البطل الذي لن يغيبه الموت.

 

خامساً: أبو علي شاهين ... رجل بثورة

بقلم/ د. جميل مجدي

رحل القائد والمفكر الوطني الفلسطيني أبو علي شاهين، واللافت هو درجة التشابه بين رحيله ورحيل القائد الذي عاش معه رحلة الكفاح والعذاب والمنافي الرمز ياسر عرفات – رحمه الله – كان الرجل مريضاً وكنا نتوقع أنه سيرحل، ولكن عندما زرناه في مرضه الأخير كنا نرى الإصرار والتحدي والقوة، وكنا نخرج من عنده بقناعة راسخة أنه لن يرحل وأن إرادة الحياة فيه أقوى من جبروت الرحيل، كان يتحدث بقوة الثائر وعزيمة المؤمن بقضيته وعدالتها، كان يرفض بعناد الاعتراف بأنه مريض وكان يستهزئ من الألم ويحرص على معرفة التفاصيل في كل قضية يجري تناولها ويصر على الشرح والمشاركة، وهكذا بالضبط كان الرئيس الشهيد ياسر عرفات، وعندما نزل علينا خبر وفاته كانت الصدمة واضحة على وجوه الجميع، كل من عرفه وأحبه وعايشه عن قرب، فما بالك بمن تربى على يديه أو تعامل معه على قاعدة الإلهام والإيمان بانتصار الثورة.

كان أبو علي يمثل في حياته منهجاً متكاملاً في الفعل الثوري ومدرسة مكتملة المعالم في النضال الوطني والقومي، لم يكن لأحد أن يستشعر الغربة معه وكان الجميع يحس بالقرب منه ليس بقدر اتفاقك معه بل بقدر ما تحمله من فكر وإيمان بفلسطين ومعركة التحرر الوطني ومحاربة المشروع الصهيوني، كان يسمح بأن تختلف معه في الوسيلة لكنه لم يكن ليختلف معك على الغاية والمبادئ والأسس الوطنية، كان الكل الوطني يسكن في ملامح أبو علي وجوارحه وكان يرى في الجميع مشهداً لخارطة فلسطين المستقبل، بالرغم من كونه فتحاوياً، بل ومن مؤسسي حركة فتح إلا أن مشاعره لم تكن ملكاً لتنظيم معين أو لفريق دون الآخر، كان علاقاته على امتداد الوطن بفضائه الواسع وحجم التنوع اللانهائي في أروقته ومؤسساته.

كان أبو علي حاد الطباع وقوي الحجة في كلماته وكتاباته، لكنه كان يسمح عن قصد كل مرة أن يجعل في حديثه ثغرة تتيح مجالاً للتراجع والارتهان إلى قوة المنطق إذا أدرك خصمه ما يريد، هكذا كانت المعادلة الفلسطينية الداخلية على الدوام تجمع بين الحدة والمرونة والشدة واللين والمودة وعدم الكراهية على قاعدة الصراع، وقد استطاع أبو علي الجمع بين كل هذه المتناقضات، وكل من عرفه عن قرب لا يستعجب ولا يستغرب المشهد الوحدوي في حياة الراحل الكبير، حتى على مستوى الأيديولوجيات والأفكار مهما بلغت درجة تناقضها، كان أبو علي مدافعاً شرساً عن قناعاته ومعتزا بتاريخه ولا يقبل أبداً التقليل من أهمية البعدين التاريخي والجغرافي، كانت فلسطين قبلته ومنطلقه وكانت تمثل كل مسيرة حياته وحتى في تكوينه الطبيعي والفيزيائي، كان متواضعاً بسيطاً يكره التكلف في أي شيء ولم يعرف أجمل من تراث شعبه وعاداته وتقاليده الراسخة،  حتى في طعامه وطقوسه اليومية. رحم الله المناضل الوطني الكبير أبو علي شاهين، وزادنا على وجع القلوب بفقدانه صبراً جميلاً وإيماناً بأن من أنجب أفكاراً وميراثاً ثورياً لا يمكن له أن يرحل.

سادساً: ابنُ المُخيَّم" أبو علي شاهين"

بقلم/ د. علي شكشك

لرفحِ المخيمِ طعمٌ خاصٌّ ونكهةٌ مميَّزة، المخيم هناك ليس مجرد مكانٍ عبقري بانحنائه على زاوية المتوسط وإطلالته على المكان المقدس شاهداً صامتاً على أحداث التاريخ الكبرى، فحَولها وعلى مرمى ناظريها نزلت الألواح وانشق البحر وبرق البراق وسار الأنبياء ومرَّ أخوة يوسف غادين ورائحين وعقد أنطونيو قرانه على كليوباترا ومرت جيوش عمرو بن العاص ومن هنا صعد نابليون ساحل الشام ومن هنا انكفأ مرةً أخرى، من هنا مرت سكة حديد التي تصل شطري القارتين، وهنا رمل شاطئ البحر لا رمل مثله، هنا تلتقي الأشاء ولا تلتقي، أنت على حدود التاريخ المستعصية على العبور، وأنت على حدود الجغرافيا القريبة المستحيلة، هذه حدودي ونبضي وسجني وحلمي وقهري.

هي ليست مجرد مكان، ولا مجرد أفق، الغيوم في سمائها كالطيور تلتقي عند نقطة اشتباك القارات والدول، تستفزُّ شوقَ سكانها للطيران وتراقب العابرين والأنبياء، تسخر من الحروب وتقرأ طالع الغزاة، البحر يفتحها ويمنعها عن العالم الآخر والسياج يصدها عن أرض الكنانة، وعلى الشاطئ تترصد بوارجُ القوم المستوطنين هواجسَ الحرية، بينما الشرق والشمال مغلقان أمام امتداد القلب، كلُّ هذه الاحترازات التي تترصد الأمل وتقرأ المضمَرَ في عميق الحلم، عيون وقلوب وأرواح تقتات من يقينٍ قارٍّ ببداهة الانتصار الأخير، وترسم ملامح اليوتوبيا في ذكريات ما وراء الحدود حيث الهوية وحبل الزمان وما تركه الآباء في شقوق الوصية، ولهذا قسمت نفسها إلى مخيمات تسمت بأسماء قراها الأولى، ونقشت لهجاتها ووزعتها باقتدار على ألسنة قاطنيها كلٌّ باسمه ولقبه وأصله وجذوره، كأنما تختزن ذاتها لاستعادة التواصل ذات يوم مسكوتٍ عنه، كأنها ليست إلا في تشرنقٍ وكمون، المخيم يختزن العهدَ الآتي، ويعيشُ برزخَه، يسترجع عهده القديم، والجديد، يسجّلُ أسماء الشهداء ويستنسخ جيناتهم، الجدُّ مدفونٌ هناك، والأب ذُبح  من العصابات عام ثمانيةٍ وأربعين في بشّيت، والأعمام الخمسة قُتلوا في مجزرة رفح عام ستة وخمسين، رفح تُسمّي مخيماتها بأسماء أحلامها، كأنها تستعلي على الراهن الذي بدأ في سفر الخروج من آيار في سنة الصليب، في المخيم اسماءٌ كثيرة لشهداء وبيوتٌ قديمة بنتها وكالةُ الغوث، بيت "أبو يوسف النجار" وبيت كمال عدوان وبيت فتحي الشقاقي، ومدارس باسم القدس وبئر السبع، وملامح تبلور الجوهر من الحال المؤقت الذي ينتظر، وكالة الغوث وعيادة الوكالة ومركز التموين، المخيم سفينةٌ تبحرُ في الرمل منذ ستين عاماً نحو الوعد، تقتات من المستحيل والسأم وتسخر منهما، المخيم لا يلوي على شيء، لكنه يعي أن المعركة طويلة ومتشعبة، المخيم حالةٌ مختلفة ليس مصنّفةً في العلوم، لا هو بالقرية ولا بالمدينة، حالة فلسطينية صرفة، ليست مجرد تشكيلٍ مادّيٍّ عمرانيّ أو بشريٍّ، المخيم يقاربُ حالةَ حلمٍ هي أقرب إلى ملامحه منه إلى حالةٍ واقعية، في رصدِ إحداثياته يظلُّ المخيم غيرَ واضحٍ بدون هذا البعد ذي التأثير الجوهري في تذوّق كيميائه وإدراك سحرِه واستحالته وسرِّ تماسكه وحموضة طعمه وقدرته على مواجهة القوى الكبرى وتحدّيه ولامبالاته بالحصار والتهديد وخطر المواجهة مع قوى نووية، الحلم يهزم الواقع، ويؤسس دائماً لواقع، الحلم روحُ المخيم، والحلم روح الرجال الاستثنائيين الذين يؤمنون بإمكانية تجاوز الواقع بما في الحلم من برقٍ وبصيرة تنفذ في قتامة الواقع وبما في الحلم من طاقة لا يصمد أمامها أي أمرٍ واقع، في هذا المخيم الحالم يعيش أبو علي شاهين أبناً لهذا الحلم وأباً صائغاً له.

سابعاً: أبو علي شاهين أسطورة الكبرياء ومرقد الدفيء الأخير

بقلم/ يونس الرجوب

إنه الثورة التي عرفتها جبال الخليل وفاض البحر فيها اشتياقاً لحور الجليل وتجدلت فيها الشمس على عنق يافا وتعالى منها الضوء في أروقة المدائن كم تقلب المجد على كفيه الشريفتين وطاف بالأنوار على مهر الرجولة واسراج في نواصي الخليل صهيل الاشتياق وراح يردد مع الأصفاد أغانيها ويداور في غياهب الأسر لهيب الاحتراق لا أحداً سواه يشافي في شقوق الأرض الجراح ولا أحداً غيره يجاري في مدار الشمس أقدار الصباح كم خف الثقيل على كتفيه الشامخين وقال المزيد إذا شح السلاح، هكذا هو الأب الحنون والقائد الوطني الكبير جمل المحامل والصدق المباح كما الغيم يفيض إن مال الغبيط بأحماله تعالى احتساباً لهوج الرياح إنه يرقد الآن على فراش الشفاء بعد أن سرق الإعياء كبده الموجوع وأخذ معه ما تبقى من الطحال وبعض من نشاط الكلى ولم يبقي من جسده المسك غير ختام العطور وحناء العرائس وبخور الزفاف لكنه كما هو وكما عرفناه في يومه الأول يسجل أسمائنا على أصابعه الضوء ويرتب لنا أفراح الطلوع يتصل بنا واحداً بعد الآخر ويطيل معنا حديث الأمنيات ويقسم علينا أن نفرح من جديد وأن نبقى كما نحن قابضين على خيارنا الصعب ومنحازين إلى الحقيقة .

توقع البعض أن يناسيه المرض أبنائه المخلصين وأن تأخذه غيبوبة الأوجاع من الذين أحبوه يوم كان كبيراً والآخرين صغار ويوم كان معلماً والآخرين تلامذه يتهجون الوطنية عن لوحه المحفوظ ويقرؤون على صفائح الزنك ما خطتات يداه بأعواد الثقاب ويوم كان هو الشيخ والجميع مريدين يأخذون عنه ما تيسر من الأذكار ويحفظون من دفاتره العتيقة أسماء من قضو طائعين وأسماء الذين استأمنتهم فلسطين على نفسها وأسماء القادمين بعد حين.

توقع البعض أن لا يكون هو القوي الأمين سيد النبوءات وقائد الذكر الحكيم لكنه بقي كما هو يخرج من مرقده الضوء بالدم والنار والبارود لا يشكو من وجع العضال ولا يأن مع الرحيل بالأمس حادثني بكل عافيته الذهنية والروحية سأل عن أسرتي وأبنائي حسب ترتيبهم في الأعمار وشد على همتي من جديد وكأنه يواعد في الصبر والغناء ويستعيد في الروح النشيد هذا هو أبو علي شاهين الذي ما رفت جفونه في وجه الخطر ولا صكت فيه الفرائس يوم الصقيع عمر من الشجاعة والعزائم ودهر من الصلابة في غمد الوجود أحب فلسطين فأحبوه الآخرين وكره التافهين والجبناء فازدراه قادة الغفلة والفاسدين وكانت له المكانة الأعلى في مدارج النجوم وكانت لهم الدرجه الأسفل من سحق الجحيم ولعنة الله على وجوه من عبثوا بلحم أمهاتهم واستخفوا بحقوق الآخرين.

ثامناً: أبوعلي شاهين وأربعون يوما على فراقك ...

بقلم/ د. مازن صافي

 في السادس من يوليه الحالي صادفت الذكرى الأربعون لرحيل المناضل والثائر الفلسطيني الفتحاوي إبن الثورة الفلسطينية القائد عبد العزيز علي شاهين " أبوعلي " .. هذا الثائر المناضل الذي أنجبته رفح الصمود من رحم المعاناة والتشريد ورفض الاحتلال .. لقد رفض الظلم العالمي وصرخ بصوت الثورة الهادر أن فلسطين طريقنا والقدس عاصمتنا وأن وحدة الشعب والأمة مصيرنا جميعا الذي يجب  ألا نتخلى عنه ..  ولد "ابن الأرض" - كما كان يحب دائما أن يُنادى في قرية بشيت - الرملة- ليكون شاهدا على النكبة والإبعاد وجرائم ومجازر وإرهاب الاحتلال، وبعد عامين من حصوله على الثانوية العامة انتمى أبوعلي شاهين إلى حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" ليكون من الأوائل وكان ذلك في كانون الثاني من عام 1962 وبعد انطلاق الثورة بعامين تفرغ للعمل العسكري في قوات العاصفة وفي نفس العام اعتقلت قوات الاحتلال ليمضي خمسة عشر عاما خلف القضبان وفي الزنازين والعزل الانفرادي لمدة 12 عاما ليؤسس في داخل المعتقلات مدرسة الثورة العظيمة بأفكارها ومبادئها ومسلكياتها وطريقة تناولها للقضايا المختلفة .. ولأنه ابن النكبة والتشريد فقد مارست إسرائيل ضده سياستها التعسفية والقمعية فأبعدته إلى جنوب لبنان في عام 1985 ومن هناك وصل إلى الأردن ومنها إلى العراق ومنها إلى لبنان حيث مارس المهام النضالية المتقدمة ونال ثقة حركة فتح في كل الميادين والبلاد التي رست فيها سفيته الثورية ، مؤمنا بأن العودة قادمة وأن النضال فوق أرض المعركة فلسطين ، فعاد لأرض الوطن في 11/10/1995 مواصلا مهامه النضالية في حركة فتح فشغل موقع عضو لجنة المرجعية العليا لحركة فتح ، عضو منتخب/ المجلس التشريعي الفلسطيني ، عضو المجلس الوطني الفلسطيني ، ووزيرا لوزارة التموين الفلسطيني لمدة ستة سنوات متتالية .  لقد خدم أبوعلي شاهين شعبه ووطنه وحركته التي عشقها وناضل من أجل أن تستمر ثورتها، فكان حاملا للبندقية معتقلا ومطاردا ومبعدا ومنفيا بين البلاد وخارجها .. ابن الأرض كان ينتمي لهذه الأرض التي تكالب عليها الأعداء واعتقدوا أنها " محمية بريطانية " أو " مستعمرة صهيونية " .  لقد كان يوم 28/5/2013 يوما ثقيلا مؤلما وحزينا على كل من عرف أبوعلي وأحبه وعلى كل أبناء شعبنا البطل .. ففي فجر ذاك اليوم ودعت فلسطين ثائرا من ثوارها مناضلا من مناضليها رجلا أحب تراب الوطن فأحبته كل مدن وقرى الوطن ..  رحل صابرا صلبا كما يرحل العظماء، ليحتضنه تاريخ الثورة الفلسطينية المعاصرة ويسجل أنه كان يتمتع بأعلى درجات الانتماء والصدق مع القضية والشعب والوحدة .. وسيبقى محفوظا في ذاكرتنا كما تحفظ كل الأوفياء والمناصرين لقضايا المظلومين على إمتداد وطننا المحتل فلسطين وفي كل بلاد الشتات والنفي والتشريد والمعاناة .  لقد آمن القائد الفلسطيني أبوعلي شاهين بأن التسلح بإرادة القوة يختصر الطريق إلى القدس، وأن روح الثورة يجب أن تستمر ولا تخضع للحسابات أو الانهزام أو الخضوع، وأن النصر هو راية كل المناضلين على طول الدرب وفي كل الأزمان .. فمنا من يحمل الراية ومنا من يرحل ومنا من يولد ليحملها من جديد جيل بعد جيل .. وداعا أيها الثائر إبن الأرض  شيخ الثوار أبو علي شاهين .. وداعا وأنت ترحل بعد ثمانين عاما شاهدا حيا على ظلم العالم لنا وعربدة الاحتلال وجبروته وسياسة الإبعاد .. وداعا وأنت تفارقنا وقد تعب جسدك من السفر ومن المرض .. وداعا وأنت تتنقل من بشيت إلى رفح تل السلطان تعاند الاحتلال وتبني للشبيبة موطنا وتخط الفكر والعنوان .. وتعود من مصر الى رفح تل السلطان لتدفن في مقبرة الشهداء مع كل من أحبوك وساروا على الدرب شهداء . ·

 

 

 

تاسعاً: أبو علي شاهين .. زيتونة فلسطين

بقلم/ د. حازم ابو شنب

قضى القائد المناضل أبو علي شاهين، وانتقل جسده من الحياة الدنيا ليمتزج مع تراب فلسطين في رفح.. قضى ( زيتونة فلسطين ) تاركاً لنا تراثه الفكري ورواياته الأرشيفية النضالية عن ذاته ورفاقه ممن اتفق معهم أو اختلف، تاركاً لنا شجاعة الرأي وإن اتفقت معه أو اختلفت، ولكنه أثبت أنه ( زيتونة فلسطين ) التي سجلت تاريخ حقبة تاريخية هامة من حياة شعب فلسطين.. من تاريخ حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتـــح .. من تاريخ السلطة الوطنية الفلسطينية .. من تاريخ المقاومة العسكرية التي خاضتها فتح ضد عدو سعى لسحق تاريخ شعبنا وسحق إنسانيته على عتبات إنسانيتنا .. من تاريخ المقاومة السلمية والإجتماعية .. وغيرها وغيرها ..

غادرنا جسد المناضل القائد أبو علي شاهين ( زيتونة فلسطين ) ولكن روحه وفكره ودربه ودروسه باقية فينا، ليس فقط أبناء حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتــح بل في كل المناضلين الشرفاء العظام أبناء شعب فلسطين من كل الفصائل والقوى .

( زيتونة فلسطين ) بقسمات وجهه، بتجاعيد يديه ، بانحناءات فكره وقصصه ورواياته الوطنية بين ثنايا عقله، كلها تتشابه مع قسمات وتجاعيد وثنايا شجرة زيتون فلسطينية راسخة متجذرة في أرض فلسطين كل فلسطين وراسخة في عقلنا ودربنا..

وأخيراً أسجل أنني حين زرته على فراش المشفى بالقاهرة وكان في قمة وعيه ونقلت له سلامات وتحيات عديد من المناضلين المحبين والمهتمين، وأبلغته أننا في الحلقات الفكرية لقيادات سياسية فلسطينية فتحاوية قد درج على لسانينا المناضل المفكر ( بكر أبو بكر ) وأنا الفقير إلى الله ( حازم أبوشنب ) أن كنيته المتداولة بيننا ( أبو علي - زيتونة فلسطين ) فابتسم وقبل بالكنية ..... ( أبو علي شاهين ) خالد فينا خلود شجرة الزيتون في فلسطين.

 " منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا" صدق الله العظيم

 

 

 

 

عاشراً: رحيل الرجل الذي احتج وحيدا".

بقلم/ ماهر حسين .

رحل أبو علي شاهين عن عالمـــنا ...رحل ودُفن كما يحب في أرض غزة ...رحل عن عالمنـــا الرجل الذي احتج وحيدا" ..لا يمكن أن نضيف الكثير عن ما قاله وكتبه أغلب من خبروا الرجل وعرفوه ...

قال لي صديق بان الرجل عرف مقتل النظام السياسي الفلسطيني وفهمـــــه ويقول عنه بأنه يمثل حالة وعي فكريه وثقافيه فلسطينية وبالطبع كلنـــا نتفق على ما يمثله أبو علي من قيمــــــه فلسطينية وفتحاويه .

ولكنه رحــــل ...

رحـــل الرجل تاركا" خلفه حالة حزن وابتسامة ...حزن على موته وابتسامة ترتبط به دوما" ...رحل الرجل الذي خرج وحيدا" ليعترض على الميلشيات وليؤكد دعمه لسيادة القانون ....رحل الرجل وكلنا راحلين حتمـــــــا ...كبارا" صغارا" ..قادة ومواطنين ...علينا أن نتعظ وان نتذكر الموت دوما".

رحم الله أبو علي شاهين ...رحم الله القائد والمفكر والإنسان ...وكم تحتاج قضيتنا الوطنية الآن لكل الجهود ولكل الاجتهادات ولكل الآراء ...نحتاج لكل المواقف ونحتاج للقدرة على جمع كل المتناقضــــات ...رحم الله من كان قادرا" على كل ذلك ......نحن بحاجه للتعلم من تجـــارب قادتنا ومناضلينا وقياداتنـــا ...علينا أن لا ننسى أبو علي شاهين وبالطبع علينا أن لا ننسى أبو عمار وأبو جهاد وأبو إياد وأبو الوليد وأبو السعيد وأبو طارق ...فكلهم رحلوا وتركوا لنا الكثير لنتعلم ... علينا أن نستذكر الحكيم ووطنيته الطاغية حتى عند الخلاف والشيخ احمد ياسين ووطنيته الدينية ورفضه للانقســـام وللفتنة وغيرهم الكثير الكثير من الأبطال ..يبدو لي بأن الزمن اختلف وحتما" سيختلف الأبطــــال ..وكل ما يمكن ان نقوله بأننا على العهد باقين .

بحزن نودع الأخ ابو علي شاهين وباحترام نذكره

 

 

 

الحادي عشر: عندما يترجل العظماء

بقلم/ شفيق أبو حشيش

منذ نعومة أظفاره في موطنه الأصلي بشيت  إحدى القرى الجنوبية قضاء الرملة ولد البطل المقدام عبد العزيز على شاهين لينعم بطفولة وديعة فى العام 1941 ميلادية بين اشجار البرتقال والتلال والوديان كباقى أطفال بلدته،لوالدين طيبين كطيبة أرض فلسطين،الى أن قامت قوات الانتداب البريطانى بالانسحاب وتسليم سلاحها للعصابات الصهيونية المجرمة فى العام 1947،فإمتشق على شاهين الاب سلاحه وألتحق للمجموعات الفلسطينية الفدائية لمواجهة عصابات الهاجانا وإشتيرن ،وقامت على إثرها الحرب العربية الاسرائيلية فى العام 1948وإستشهد الاب على ايدى هذه العصابات.

وهاجر الابن الصغير إلا من الكراهية لليهود، وحبه الكبير للوطن في نكبة العام كباقي الأسر الفلسطينية على أمل العودة إلى الموطن الأصلي ،قطنت أسرة عبد العزيز على شاهين مدينة رفح مع والدته وإخوانه ،ألتحف برد شتائها وحر صيفها ،كبر الطفل وكبرت فلسطين في وجدانه ،عاصر إجرام الطغاة القساة من اليهود ، أنهى دراسته الثانوية في العام 1960بدأت القضية الفلسطينية تحرف مساره بإتجاه المقاومة إلى إن إلتحق لقوات التحرير الشعبية في العام في قطر حيث كانت من النواة الأولى في بدايات التنظيم ومن ثم انطلاقة حركة فتح .

يعتبر بطلنا المغوار عبد العزيز شاهين {أبو على} من الفدائيين الأوائل الذين التحقوا للعمل العسكري، وهذا على أثر النكسة في العام 1967.قارع العدو الصهيوني بسلاحه الخفيف ،وإيمانه العميق بعدالة قضيته،حيث قام بالعديد من العمليات العسكرية التي دكت مضاجع العدو, وقام بتشكيل العديد من الخلايا العسكرية، في جنوب الضفة الغربية وقطاع غزة،تحول هذا البطل إلى هاجس يؤرق الصهاينة ويوقع فيهم اشد الخسائر في الأرواح والممتلكات، تميز بطلنا في نصب الكمائن، واصطياد الجنود الصهاينة، إلى أن تم اعتقاله في سبتمبر أيلول من العام 1967 ولمده خمسة عشر عاما، ولم يهدأ البطل في سجنه ،فبدء نضالا من نوع أخر حيث بدء في تشكيل خلايا عسكرية من داخل المعتقل إلى إن قامت إدارة السجون بعزله انفراديا مدة اثني عشر عاما حتى العام 1982.

لم يفتت السجن من عضض المناضل أبو على شاهين، وفور الأفراج عنه قام بإنشاء حركة الشبيبة الطلابية التابعة لحركة فتح، لتكون ذخرا وعونا ودعما لحركة فتح، حتى العام  1983قبضت عليه قوات الاحتلال الصهيوني وفرضت عليه الإقامة الجبرية في منزله في مدينة رفح، ومن ثم قامت بنفيه إلى جنوب لبنان في العام  1985ومن ثم غادر إلى الأردن ومن هنا بدء عملا امنيا جديدا حيث أصبح مسؤلا لمفوضية التعبئة والتنظيم مما اضطرت السلطات الأردنية إلى إبعاده إلى بغداد ليترأس مفوضية التعبئة والتنظيم والملف العسكري.

رفضت إسرائيل عودته بعد التوقيع على اتفاقية أوسلو في العام 1993,وهذا لشراسة مقاومته وعناده الوطني، إلى إن تراجعت عن قرارها وعاد أبو على شاهين إلى أرض الوطن في العام 1995.

تميز أبو على شاهين بتواضع المناضل الذي ينتمي لشعبه وترابه فكان نعم الأب لأبناء ليس من صلبه، ولكنها عقيدة المناضل الفذ،الذي كان أبا للفقراء وأخا للأغنياء ناصرا للمظلومين ومعينا للمحتاجين، كان أبا وأخا وصديقاً، رغم عنفوان المناضل إلا أنه كان ودودا رحيما، كان ملاذا للمشتكين وناصرا للمظلومين، لم يسكن القصور ولم تخدعه حياة الرفاهة.

تميز هذا المناضل العتيد والعنيد ببعد نظر منقطع النظير، حيث كان وزيرا للتموين في أول حكومة شكلها القائد الخالد ياسر عرفات ،لسعة صدره وعمقه النضالي، وخبرته في مقارعة المحتل ،فأنشأ وزارة التموين التي حمى بتا المواطنين والتجار على حد سواء، فرض على إسرائيل شروطا ما كانت تقبل بتا لولا عناده الوطني منقطع النظير.

سعى مناضلنا دوما إلى الوحدة الوطنية، لوعيه بشراسة العدو، وان بالوحدة قوة، آمن أبو على بقدرات شعبه على الصمود والتصدي والتحدي، ولم يركن لعدوه لحظة، فكانت قراراته صائبة، حيث ومن خلال عمله المدني كوزير كان يخطط لدعم صمود المواطنين فاجبر التجار على توفير السلع الإستراتيجية وتخزينها ليوم المواجهة مع العدو، امتلك من الأفق والتخطيط الاستراتيجي ما يعجز عنه خبراء الأمن القومي.

أنهك المرض صحة المناضل العظيم أبو على شاهين،حيث أصيب بأمراض الكبد التي لم تفتت من عضده وتحمل المعاناة تلو الأخرى من اجل خدمة قضيته وشعبه، إلى أن جاء الانقسام الأسود الذي على أثره بدء يتهاوى حلمه في التحرير ،كان المناضل الشرس صعب الميراث في الحق والدفاع عن قضايا الأمة ،فحمل شعارا لوحده ومشى في الشارع الرئيس مناديا لا للانقسام ونعم للوحدة، كان مبدئيا ثابتا لا يتزحزح عن كل قضايا الوطن والمواطن، لم يتقاعس يوما رغم شدة مرضه، كان الألم لا يبرحه والابتسامة لا تفارق شفته، يا لهذا التناقض الرهيب ولكنه الوطن الذي كان همه اكبر بكثير من ألمه.

وفى صباح ذلك اليوم الثلاثاء الموافق 28-5-  2013فارقت الروح إلى بارئها مودعة مسيرة عظيمة من النضال، لرجل ما عرفناه إلا مناضلا شرسا، عفيفا كريما، ومهما تحدثنا فلن نوفيه حقه ،ليضاف إلى كوكبة جديدة من شهداء الأمة العربية على وجه العموم والفلسطينية على وجه الخصوص . رحم الله المناضل العظيم أبو على شاهين وجعله الله مع الأنبياء والصديقين في عليين.

الثاني عشر: وارتحل رجل من زمن عمالقة الجبال

بقلم/ عماد مخيمر

تعلقنا منذ حداثتنا بكلمة ارتبطت بحركة فتح " عمالقة الجبال " , هذه الكلمة بكل مدلولاتها ارتبطت بوجداننا برجال الفتح ومقاتلي العاصفة, هؤلاء الرجال الذين أطلقوا الرصاصة الأولى , ليكرسوا الوجود والشخصية الوطنية الفلسطينية, هؤلاء الرجال الذين فهموا أن تحرير فلسطين لن يكون إلا بسواعد ودماء أبناءها, فكانت انطلاقة حركة فتح. عمالقة الجبال كلمة تحمل الكثير من التوصيف لمقاتلي فتح كثوار يتمترسون في الجبال ويعشقون البندقية وبحملون الوطن في صدروهم حلما جميلا وحبا وعشقا لا ينتهي, حركة فتح قدمت الكثير من القادة العظماء والشهداء الذين أبدعوا في الفعل الثوري وتركوا بصمات وشواهد لا تمحى من الذاكرة الفلسطينية, وكأن حركة فتح بكل تاريخها أصبحت مرادفا أو معنى آخر للشخصية والمشروع الوطني الفلسطيني.

ارتحل اليوم رجل آخر من زمن عمالقة الجبال , القائد عبد العزيز شاهين "أبو علي" , رجل انتمى إلى حركة فتح منذ بداياتها , رجل استشهد والده  وأعمامه الخمسة وهم يقارعون المحتل الإسرائيلي, وكأن أبو علي شاهين عاش الشهادة وعشق البندقية التي تركها والده, ولكن هذه البندقية لم تذبل ولم تنكسر ولم تنحني ولم تتراجع, فقد ورثها أبو علي وبإصرار الرجال وقوة العمالقة لتظل هذه البندقية أكثر قوة وعنفوانا, أبو علي شاهين تبوأ العديد والعديد من المراكز والمهام التنظيمية على امتداد عمره الذي بلغ ثمانين عاما, وحتى آخر لحظات حياته كان يحمل الهم الفلسطيني ولم يتخلى عن كينونته كمناضل وطني فلسطيني , يمتاز بمواصفات الإنسان الذي يعي جيدا أن للرجال مهام لا تنبغي لغيرهم, يعي أن ميادين الرجولة تكون في ساحات الوغى, والتصدي للاحتلال بكافة أشكال المقاومة.

ارتحل أبو علي شاهين هذا الرجل المناضل والذي شكل صوتا حرا محافظا على المشروع الوطني, رجل يعرف أن كلمة الحق لابد أن تقال حتى لو كان الثمن باهظا, أبو علي كان صاحب شخصية واضحة وجريئة واتجاهاتها محددة, لا يهادن ولا يستكين, وطوال تجربته النضالية والكفاحية الثرية كانت مواقفه بارزة وتشكل علامات في التاريخ الفتحاوي, وكثيرا وما كان يواجه الصعاب والمتاعب نتيجة لمواقفه إلا أن ذلك لم يفت من عضده ولم ينل منه, أو يضعف من كينونته كمناضل صلب كانت للبندقية دورها في تشكيل شخصيته وقناعاته, وعندما تكون البندقية هي الأساس تكون القوة هي المصاحبة لمن يحملها, ولكنها ليست أي قوة, إنها قوة الحق وقوة الإيمان وقوة الشكيمة وقوة الإرادة التي تنحني أمامها كافة العقبات.

ارتحل أبو علي شاهين ذلك القائد الفتحاوي الذي عشق النضال منذ نعومة أظفاره,  وواجه المحتل الإسرائيلي واعتقل وعذب وفرضت عليه الإقامة الجبرية وأبعد , يكفي أن نقرأ تاريخ أبو علي النضالي لنعرف كافة أشكال المعاناة من قبل المحتل الإسرائيلي, هذه المعاناة بكافة صورها وأشكالها استطاع أبو على اختزالها في شخصه وبطولته, لن نتحدث عن انجازات أبو علي فكلها معروفة وباتت مسجلة في التاريخ الوطني الفلسطيني ولن نضيف شيئا بالحديث عنها, فهذه الانجازات شكلت إضافات حقيقية واضحة للرصيد النضالي لحركة فتح , وشكلت علامة فارقة في مسيرة الكفاح الفلسطيني.

قبيل انطلاقة فتح الأخيرة "48" عاد أبو علي إلى غزة بعد رحلة اغتراب أخرى , عاد أبو علي والدموع تملأ عينيه وكأنه كان يشعر أنها عودته الأخيرة, فغزة كانت الميدان الأول لانطلاقة أبو علي أحد عمالقة الجبال, لتتعدد الميادين من الضفة إلى الأردن إلى لبنان إلى سوريا والكثير من الميادين, عاد أبو علي إلى غزة يحمل حبا وشوقا لغزة, عاد أبو علي يحمل حلما يريد قهر المستحيل, عاد أبو علي يحمل تاريخا بعبق الشهداء الأوائل وحكايات البطولة وزمن العمالقة والرجال.

عاد أبو علي ليدخل معركته الأخيرة, ولكنها المعركة التي نالت منه , معركة المرض العضال, نال منه المرض بعد أن عجز المحتل الإسرائيلي على النيل منه, نال منه المرض بعد وقف كالطود الشامخ أمام أعداء الثورة الفلسطينية , وارتحل أبو علي, ليشيعه الآلاف من الرجال الذين احتشدوا بعفوية حبهم لهذا الرجل, ليدفن في مدينة رفح – كما أوصى - تلك المدينة التي شهدت شبابه ورجولته وبطولاته الأولى, ارتحل أبو ودفن كأي ثائر مقاتل بدون مراسم ولا أناشيد ولا رسميات ولا ترتيبات , وكأن الرجل أصر على أن يكون ثوريا حتى لحظاته الأخيرة , فسلام لروحك أيها الرجل من زمن عمالقة الجبال

الثالث عشر: أبو علي شاهين.. " ضمير فتح " الذي ترجل

بقلم/ عادل أبو هاشم

فقد الشعب الفلسطيني و الحركة الوطنية الفلسطينية بوفاة القائد و المعلم و الرمز عبد العزيز شاهين " أبو علي شاهين " يوم الثلاثاء الماضي أحد رموزه الوطنية في مسيرته النضالية؛ وفقدت الثورة الفلسطينية المعاصرة نبراساً وثائراً ومناضلاً ومفكراً صاحب كلمة شجاعة وهادئة وعاقلة وثورية في نفس الوقت؛ وفقدت حركة " فتح " قائداً من أكثر قادة الحركة ــ على مدار تاريخها الطويل ــ طهراً سياسياً و شفافية ثورية، واقتراناً للقول بالفعل، وسيرة يحتذى بها لكل عنصر وكادر في الحركة .

كان " أبو علي شاهين " يوصف بـ " ضمير حركة فتح " لتواضعه وعفته وزهده ودماثة خلقه، وطهارة يده، وبعده عن كل مظاهر الترف والبذخ والتبذير، إلا إن هذا الوصف الكبير لا يفي أبو علي حقه, لأن أبو علي لم يكن يطمح لحمل أوصاف كهذه: فقد كان متقشفا حتى الزهد نكاد نعرفه من بعيد من لون سترته التي لم تتغير منذ سنوات .

و كان متواضعاً حتى الانسحاق, وكان في تواضعه مثالاً حياً على صدق الثائر في حبه لأبناء شعبه، وكان عفيفا حتى النخاع ، وكان في تعففه هذا يريد أن يبقى قريبا ــ حتى في حياته الشخصية، من حياة غالبية شعبه الذي كرس حياته في خدمته .

كانت أرض فلسطين ومقدسات فلسطين وحجارة فلسطين هي هاجسه الأول و الأخير، فهي الهدف وهي الغاية، وهي الحلم الوردي للفلسطيني، وهي الأمل في الحياة الكريمة لشعبها الأبي، كان ــ رحمه الله ــ في حركة دائمة وفي نشاط متواصل .. يحلم بفلسطين .. يفكر بفلسطين .. يعيش لفلسطين .. ومات شهيداً من أجل فلسطين؛ كان يتعذب بصمت دون أن يجعل الآخرين يحسون بهذه المعاناة القاسية ، كان بين الحين والحين يتحسس مواقع الخطر فيتحدث ولكن بدون ألم ، وينذر ولكن بدون ضجيج ، ويحذر ولكن بالتزام كامل ، والإنسان الكبير وحده هو الذي يستطيع أن يجترح هذه المعجزة فيصمت عن أحزانه ليبدو إيمانه أكبر من جراحاته ، وليبدو تفاؤله أقوى من واقع آلامه و معاناته ، والخسارة هنا في أبو علي لا تعني المدلول المادي للكلمة بقدر ما تشير إلى عمق الفراغ الذي سيخلفه غيابه الأبدي عنا .

ولن يحس بهذا الفراغ القاسي إلا أولئك الذين عاشوا معه في أحلك الظروف وأقساها ، والذين كان يسكب في قلوبهم من حنانه وأشراقة محياه ما يجعلهم ينسون أحزانهم ؛ كان " أبو علي شاهين " يمثل عالماً واسعاً متعدد العطاء ، يجمع في شخصيته النضالية أبعادها السياسية و العسكرية و الجماهيرية التي قلما اجتمعت في غيره .

كانت الحقيقة بارزة في كلمته ، و الفكرة واضحة في حديثه، فلا مكان للمجاملات على حساب الثورة و المبادئ، وكم من الناس من غضب لصراحته أو كلمة حق يقولها ، فقد كان لا يخشى لومة لائم ، ويقيم الدنيا ويقعدها بحجة ثاقبة ورأي حصيف إذا دافع عن قضية أو مسألة .

لقد كان في "أبو علي شاهين " من صدق الثائر وجرأته ما يعجز الواقع عن تحمله ، فيثير فيه بكلماته و أعماله موجات متلاحقة من التأزم فيجعل هذا الواقع قلقا مستنفرا يبحث عن الحقيقة بكل ما فيها من مرارة ، وعن الخلاص بكل ما فيه من تضحيات .

كان "أبو على شاهين " صورة من صور الحياة النابضة بالوطنية والطموح الخلاق ، يرنو إلى العلا في كل مجال من مجالاته ، ويتقن فن الثورة ويحفظ دروسها عن ظهر قلب ويلقنها للناس لقد كان تلميذا و أستاذا في آن واحد ، وكان قمة في التحدي والتجاوز والبناء .

لقد عظم " أبو علي شاهين " الكلمة في فكرة وعقيدته و نضاله وكفاحه اليومي ، واجتاح أرض الثورة بنظره الثاقب ، فكان فارسا يجيد السباق في كل ميدان من ميادين العمل والمعرفة الوطنية ؛ كان صاحب حجة قوية وعقل منظم وذهن وقاد ، تتدافع الأفكار في رأسه كأمواج البحر تتلاطم بعنف لتعود مرة أخرى إلى الأعماق في حركة مد وجزر واعية مستمرة لا تنقطع أبداً .

آمن "أبو علي شاهين " بأن الكتابة الثورية ( وهي هوايته وقناعته ومعاناته في آن واحد ) لا معنى ولا أثر لها إذا لم تتجسد بالممارسة والسلوك اليومي ، وأن مقاومة المحتل لا تتحمل المواقف الوسط ، ولا المهادنة ، ولا التأجيل ، ولا الاستراحة ، وأن الكلمة الثائرة لا تعرف المواربة ، ولا الدبلوماسية ، ولا التلفيق ، ولا الاصطناع .

لقد علمنا أبو علي دروساً كثيرة في الانسجام والصدق والاحتراق من أجل القضية ، وأول ما علمنا إياه هو أن الفلسطيني يفقد ذاته وحضوره الإنساني في العالم والكون إذا كف عن أن يكون فلسطينياً ، و " الفلسطينية " ليست انتماء الوراثة و الهوية والحنين إلى أشياء ضائعة وانتظار الزحف العربي لتحرير فلسطين ، إنما " الفلسطينية " معناها ثورة ، تغيير ، وتفجير ، وإبداع .

إن أبو علي درس سياسي وأدبي أخلاقي معاً ، لم تذهب لحظة من حياته سدى ، فقد كان ملحمتين : ملحمة شعب ، وملحمة إبداع .!! لا تعرف من أين يبدأ أبو علي الثائر ومن أين يبدأ أبو علي المبدع ؟! . ذلك لأن الثورة الحقيقية والإبداع الحقيقي معادلة واحدة . فالثورة إبداع ، والإبداع ثورة .

ذلك أن " أبو علي شاهين " لم يكن في حياته وفي التـزامه مجرد شخص اختار طريق الجهاد والنضال والمقاومة ، بل كان إلى جانب ذلك نموذجـًا بارزًا لجيل فلسطيني كامل هو جيل مقاومة المحتل منذ اليوم الأول للنكبة ، ومن خلال تمثيله لهذا الجيل ومن خلال تعبيره عنه بالبندقية المقاتلة والكلمة الحرة الأبية اكتسب قيمته كمجاهد وكمعلم وكرمز من رموز هذا الجيل .

كل كتابة عن " أبو علي شاهين " ستكون ناقصة ، لأن قضيته هي قضية مسيرة المقاومة ضد المحتل ، هي قضية الجيل الذي يكسر قيد المحتل و يصنع الأنتصار ، وهي قضية لم تكتمل بعد حق فلسطين علينا ألا نبكي "أبو علي شاهين " ، وحق أبو علي علينا أن نغبطه شرف الاستشهاد على الأرض التي أحبها و أحبته .

.ترجل " ضمير فتح " أبو علي شاهين " .

ترجل كما يترجل الفرسان ... أغلى الفرسان ... أصدق الفرسان ... وأندر الفرسان .مناضلاً عاش ... ومناضلاً مات .

إنما الحقيقة القاسية والبشعة تبقى : لقد خسرنا هذا الرجل بإخلاصه وقدرته وجرأته وتضحياته؛ خسرنا هذا القائد بصوته المشجع ونبرته المحذرة وقلمه الجبار وقلبه الواسع؛ لقد خسرنا الأخ والقائد والمعلم والرمز .. ولسوف نفتقده كثيراً.. ولسوف نفتقده طويلاً؛ رحم الله " أبو علي شاهين " فقد كان رجلاً في ثورة ، وثورة في رجل .

الرابع عشر: ابو علي شاهين: الحصن الحصين والركن الأمين

بقلم/ عكرمة ثابت

 ( كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ ) يأيها القائد الحي أبداً، لقد ودعت الدنيا يا "أبا علي" بصمت وهدوء بعد أن غمرتنا منذ طفولتنا بسيرتك البطولية ومسيرتك المفخرة .. فقد مرت السنوات تلو السنوات ونحن نسمع ونقرأ ونتحدث عن محطات حياتك الثورية والنضالية منذ الإنطلاقة الأولى وفي اعتقالك الأول وخلال الإنتفاضة الأولى وعند ابعادك الأول داخل قطاع غزة وخلال ابعادك الثاني خارج الوطن الذي لم تغادره بفعلك وحضورك ... سمعناك ورأيناك وعاشرناك في عودتك الأولى مع بداية تشكيل نواة سلطتنا الفلسطينية الأولى ... التقيناك وسمعنا أفكارك وقرأنا ما خطته يداك خلال عودتك إلى رام الله بعد أن أخرجوك من بيتك مكرها بإنقلابهم الأسود ... نعم يا "أبا علي" كم كنت دوما بوصلتنا التي لم ولن تتوقف عن تصويب مساراتنا الوطنية ... كم كنت رائعا ومميزا عندما كنت تتلو علينا في جلساتك ما لم تبخل به رغم البؤس والشقاء والقهر الذي كنت تنتصر عليه بإبتسامتك المأمولة .

إن ودعتنا فجأة فنحن أبداً لن ننساك ... لن نغفل كتاباتك ورؤيتك الفكرية ولن نكل أو نمل في تكملة مشوار كنت أنت واحداُ من المخططين له .. كيف سترحل عنا ولا زالت كوفيتك المرقطة تحيط بأرواحنا ؟! ولا زلنا نذكر تفاصيل التفاصيل عن تاريخك الثوري الماجد !!! كيف ستغيب ولا زال صدى صوتك وخيال ملامحك يلاصقان العقل والجسد الوطني فينا ؟!!! كيف سننساك ولا تزال ابتسامتك ترتسم بعنفوان على شفاه جيل إنتكب بويل الإحتلال ؟؟!!! ضحكتك .. وجهك المستدير .. نظاراتك الطبية ... لحيتك البيضاء ... قلبك الكبير ..أسلوبك .. صوتك .. بصماتك لن ننساها أبداُ.

أبا علي !!! يا من علمتنا أن الإنسان بلا وطن كالتائه في الحياة، يامن علمتنا أبجديات الصمود وأحرف العطاء والنضال ... يامن علمتنا كيف تنتصر الإرادة المظلومة على جبروت البطش والطغيان.. لقد كنت أيها القائد ولا زلت الفكر المستنير والحصن الحصين والركن الفتحاوي الأمين ... ماذا سنذكر ؟؟ وكيف سننسى ؟؟ نم قرير العين آمناً مطمئنناً - فائزاً برحمة ربك ودعاء أهلك ومحبيك - مع من سبقوك من الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا .

إلى هنا لم أستطع الاستمرار في الكتابة ... عذراً أيها القائد العزيز ( عبد العزيز شاهين ) فقد سقط قلمي أمام شموخك ومجدك وإنهمرت دموع الحسرة على فراقك الموجع . إنا لله وانا اليه راجعون.

الخامس عشر: أبو على شاهين قصص البطولة وحب الجماهير

 بقلم/ د.تحسين الاسطل

اليوم افتقدنا مناضلاً وقائداً فريداً في فلسطين وامتنا العربية، هو مفكراً ثورياً بالأفعال وليس الأقوال، قليل الكلام كثير الأفعال، خرج مبكراً ووحيداً لمواجهة الانقلاب وحذر منه بمسيرة حاشدة لم يشارك بها إلا هو، لم ينتظر طويلاً أصحاب الحوار السياحي لإنهاء الانقسام وقرر العودة وحيداً إلى الوطن ليدفن في التراب الذي أحبه، وبين أهله وناسه وتلاميذه في الشبيبة الفتحاوية.

حينما كان وزيراً للتموين استوقفته قوات الاحتلال على طريق المواصي وطالبته بإنزال أحد مرافقيه من السيارة، ليواصل المسير هو وسائقه بحجة أن الطريق مخصص للمستوطنين والجيش الإسرائيلي حسب اتفاق أوسلو الذي كان أشد المعارضين له، نزل أبو على شاهين وقرر الاعتصام وحيداً على الحاجز الإسرائيلي ورفض المغادرة حتى يمر هو وكل المواطنين من هذا الشارع، احتشد الناس في ساعات الصباح الأولي مع أبو على ، ورفضوا المرور من الطريق المخصص لهم الذي يعبد 500 متر عن الطريق الرئيسي، وأرسلت قوات الاحتلال تعزيزات كبيرة للمنطقة، وأغلقت المنطقة، واستمر اعتصام القائد الوزير من التاسعة صباحاً حتى التاسعة مساءً، لينجح في النهاية في المرور مع الناس والعودة مرة أخرى، واصبح الطريق مفتوح أمام الناس حتى انتفاضة الأقصى.

نعتذر أبو على لو خرجنا معك من البداية لما أصبحنا رهينة أصحاب المصالح الشخصية في الحوار السياحي للخروج من أزمة الانقسام الذي خرجت لمواجهته وحيدا... نعتذر أبو علي فكل وزرائنا تطبعوا على المرور سريعاً على حواجز الاحتلال، فيما نساءنا وأطفالنا وعمالنا تكتوي من أشعة الشمس الحارقة، ينتظرون إشارة من مجندة صهيونية ترفع بسطارها في وجوههم. فهل نرى وزراء وقادة يفعلون ولا يقولون، مثل أبو على شاهين، أم أن علامة الجودة في قادتنا يقولون ولا يفعلون؟

رحم الله أبو على، حتى في موته ومرضه جعله درس ثوري لنا، وان المرض لا يثني المناضل عن نضاله، وحقا انك مناضلا حتى النهاية .

خرجت وحيداً وأنت وزيراً من أجل الناس، اليوم تخرج الجماهير معك في وداعك وأنت وحيداً إلى الله بلا سلطان أو جاه، إلا بقلوبها التي تدعو لك، والكثير من الوزراء والقادة سيحسدوك على حب الجماهير حتى في مماتك .

كيف لا وأنت من اختار العودة إلى غزة التي تحبك وتحبها وتمنحها فرصة وداعك في اللحظات الأخيرة من عمرك، في زمنها المسلوب من أبنائها، الذي حاولت وحيدا مواجهة سرقته منذ البداية.. رحم الله الجماهير وأبو على في وداعها

السادس عشر: أبو علي شاهين يموت واقفاً كالأشجار ..!

شاكر فريد حسن

بوفاة القائد والمناضل الفلسطيني الكبير أبو علي شاهين يفقد شعبنا الفلسطيني وثورته وحركته الوطنية ،واحداً من قادة وأعمدة وصناع الكفاح الثوري النضالي البطولي المقاوم ، الذين أفنوا حياتهم في خدمة قضايا شعبنا وهمومه والدفاع عن قضيته الوطنية المقدسة ، قابضين على جمر مواقفهم المبدئية الراسخة بعيداً عن المساومة والابتزاز والانتهازية والتفريط بالحق الوطني المشروع .

لقد تشعبت نشاطات أبو علي شاهين النضالية ، وتبوأ مناصب قيادية ومركزية عديدة . كان ثائراً ومقاتلاً في صفوف الثورة والمقاومة ، وسجيناً في زنازين ومعتقلات الاحتلال أكثر من خمسة عشر عاماً ، وخاض معركة الأمعاء الخاوية ،وطرد من البلاد الى جنوب لبنان ثم الى الأردن ، وعاد الى الوطن عام 1959 ، وعين وزيراً للتموين .

كان أبو علي شاهين مفكراً وكاتباً ومحللاً سياسياً ، كتب الكثير من المقالات والمعالجات السياسية والفكرية ، التي أثارت جدلاً صاخباً وواسعاً على الساحة الفلسطينية ،وبسبب هذه المواقف لاقى الجفاء والقطيعة وعدم الوفاء من رفاق الدرب والخندق الواحد .

تميز أبو علي شاهين بالصدق والنقاء والانسانية والتواضع ونكران الذات والاستقامة الثورية والصلابة والجرأة في المواقف الوطنية الجذرية المبدئية ، التي لم تعرف يوماً المداهنة والتملق والرياء والمساومة . وقد عاش ومات شريفاً وكريماً وواقفاً كأشجار البلوط والخروب.

كان أبو علي شاهين حالة استثنائية نادرة في الفكر السياسي والثوري الفلسطيني بأرائه ومعتقداته ورؤاه بعيدة النظر، ومواقفه السياسية الشجاعة ،ورصيده الوطني ،وتاريخه النضالي، وتضحياته الجسام ،دفاعاً عن اشرف وأقدس قضية ، القضية الفلسطينية .

إن رحيل أبو علي شاهين في هذا الظرف المصيري الصعب يشكل خسارة فادحة وعظيمة لشعبنا ولحركة التحرر الوطني الفلسطيني وللقوى الوطنية والتقدمية والفصائلية الفلسطينية ، التي كان في طليعتها ومنارتها وبوصلتها ، وسندرك في الأيام القادمة حجم الفراغ الذي سيتركه موته .

أبو علي شاهين كان وسيبقى سنديانة فلسطين الباسقة وهويتها الوطنية والفكرية والثقافية والديمقراطية ، فالمجد لك يا عاشق غزة والخليل ومخيمات الوطن وكل حبة تراب في أرض فلسطين ، والوداع الوداع ، وثق تماماً أن الحلم الذي عشت وناضلت من اجله سيتحقق عاجلاً ام آجلاً ، وستنتصر رؤيتك ورايتك .


 السابع عشر: أبو علي شاهين .. اسم بحجم الوطن

بقلم / عبد الناصر فروانة

" أبو علي شاهين " إسم بحجم الوطن، مناضل وسياسي فلسطيني وأحد أبرز رموز حركة النضال الفلسطيني، عاش حياة خصبة وعميقة، حياة عريضة وغنية، حياة حافلة بالبطولات والمآثر، ووهب كل طاقاته وقدراته وإمكانياته وجند حياتها كلها من أجل قضية شعبه ووطنه وقضايا أمته القومية، فالحياة لا تقاس بالسنين التي عاشها، وإنما تُقاس بالقيم العظيمة والمعاني النبيلة وحجم ما زرع في حدائق الوطن والإنسانية.

لم أنل شرف اللقاء به خلف أسوار سجون الاحتلال الإسرائيلي طوال سني اعتقاله، لكن والدي الذي رافقه لسنوات كثيرة في الأسر حدثني عنه وعن بطولاته مراراً وتكراراً، وكثيرة هي الألسن التي تناقلت سيرته العريقة بفخر وشموخ .

 وقرأت أسمه المحفور على جدران زنازين غزة  وسيرة حياته على صفحات أدبيات السجون، وبعضاً مما وثقه عن تاريخ الحركة الأسيرة، فازددت فخراً به و شوقاً للقائه، والتقيته بالفعل في غزة الصمود أكثر من مرة بعد عودته للوطن منتصف التسعينيات بعد إبعاد قسري امتد لعشر سنوات طوال ، فكان حقاً رجل بحجم الوطن .

وللتاريخ الفلسطيني حكاية لم تنتهِ بعد، و" فتح " هي أول من كتبت حروف البداية وفصول الحكاية، فهي قلب الثورة الفلسطينية النابض وأول الرصاص وأول الحجارة وهي من أشعلت انتفاضة الأقصى، وتتشابك في تجربتها التنظيمية والنضالية مع مجمل التجربة الجماعية للحركة الأسيرة، ولا يمكن للتاريخ الفلسطيني أو تاريخ الحركة الأسيرة أن يقفز عن رجل بحجم الوطن والتاريخ الفلسطيني مزيف إن لم ينصف رجل أسمه أبو علي شاهين .

لم أكتب عنه من قبل، وفكرت مراراً ومنذ رحيله في الثامن والعشرين من مايو/ آيار الماضي أن أكتب، وكلما شرعت بالكتابة تراجعت، لأنني وببساطة وفي كل مرة أفشل في انتقاء الكلمات والعبارات التي تليق بهذا الرجل وحجم عطاءه وتضحياته ومكانته .

فمن الصعب، إن لم يكن من المستحيل أن تكتب عن رجل بحجم الوطن، عن رجال صنعوا تاريخا، و سطروا أمجاداً، و عن أسرى سابقين ناضلوا وضحوا وأفنوا زهرات شبابهم خلف القضبان وكانوا من المؤسسين لحركة النضال ضد قهر السجون وظلم السجان .

ومع ذلك تقرر في لحظة ما أن تكتب حتى ولو بالمختصر المفيد وفاءً لهم، وحين تكتب عنهم ترى الدنيا من زاوية أخرى يملأها الأمل والحنين وبشائر الانتصار؛  فللكتابة عن الشهداء رونق بطعم خاص، إنه لأمر عظيم أن تكتب عنهم والأعظم أن تكتب عن شهداء كانوا عظماءً في حياتهم، وبعد مماتهم .

أبو علي شاهين .... عظيم أنت في حياتك وبعد مماتك، لم ولن ننساك، وكيف يمكن لنا أن ننساك وأنت ممن صنع إسمه في ساحات الوغى وفي مدارس الثورة الفلسطينية والفتح العظيمة، وحفرته على جدران الزنازين، بل وكنت أحد الرموز المؤسسة للحركة الوطنية الفلسطينية ولحركة التحرير الوطني الفلسطيني " فتح "، وللحركة الأسيرة . 

وعلى امتداد المسافات الواسعة والسنين الممتدة من ساحات المعارك والبطولة مروراً بالسجون والزنازين، إلى مروج الوزارات وبناء الوطن والدولة، عرف أبو علي شاهين قائداً محارباً شجاعاً، يتقدم الصفوف في ساحات الوغى، وفي بناء الدولة وصنع السلام .

أبو علي شاهين .. رجل حمل هموم شعبه وقضيته ومقاومته، وأسير سابق أدرك معنى الأسر ومعاناة الأسرى، فكان مناصراً قوياً لهم وداعماً لحريتهم ومسانداً قوياً لقضيتهم العادلة، ومناضل سطر إرثاً كفاحياً وطنياً وآمن بأفكاره ومبادئه وقضى لأجلها .

يقول غسان كنفاني في قصة "المدفع": "كم هو بشع الموت، وكم هو جميل أن يختار الإنسان القدر الذي يريد"، إختار أبو علي شاهين قدره عندما إختار طريق النضال، فأحبته الثورة، وعشقه شعبه واحتضنه ثرى وطنه .

أبو علي شاهين .. من المعتقلين الأوائل وإسم مؤسس للحركة الأسيرة، ساهم وبشكل كبير في تأطير وتثقيف المعتقلين حيث تميزه بالثقافة العالية والوعي المتقدم، وجعل السجون محطات ثورية متقدمة وأعاد للكرامة هيبتها خلف القضبان وللنضال المشروع ضد السجان مكانته؛ فدفع الثمن سنوات طوال في العزل الانفرادي .

أبو علي ... واحدٌ من رجال الرأي والحكمة، وركنٌ أصيل من التراث الثوري والنضالي والتنظيمي في كافة الميادين والأزمنة، تلتقي أم تختلف معه .

عبد العزيز علي شاهين .. ولد عام 1940 في قرية بشيت القريبة من مدينة الرملة وهُجرت عائلته عام 1948 لتستقر وتعيش في مخيم تل السلطان بمدينة رفح, وحصل على الثانوية عامة 1960, وانتمى لحركة فتح سنة 1962 في الدوحة وشارك في عدة دورات عسكرية؛ واعتقل في 25 سبتمبر 1967 وأطلق سراحه في 23 سبتمبر عام 1982 بعدما أمضى 15 سنة في السجون الإسرائيلية حيث أمضى غالبيتها في العزل الإنفرادي، وبعد إطلاق سراحه من السجن وُضع تحت الإقامة الجبرية بمنزله ومع ذلك أسس حركة الشبيبة الفتحاوية؛ و في آيار من العام 1983 تم نفيهُ بمفرده إلى منطقة الدهنية أقصى الشرق الجنوبي لرفح، ومن ثم أبعد الى خارج فلسطين عام 1985، ليعود إليها في أكتوبر عام 1995 بعد توقيع اتفاقيات أوسلو وقيام السلطة الوطنية الفلسطينية .

انتخب عضواً في المجلس التشريعي الفلسطيني الأول ( 1996 – 2006 ) وعضواً في المجلس الوطني الفلسطيني وشغل موقع وزير التموين ( 1996-2003 ) ، وشغل مواقع قيادية عديدة داخل حركة فتح التي انتمى إليها وساهم في تأسيسها وأحبها وأخلص لمبادئها .

 فليفخر كل فلسطيني بأن فلسطين أنجبته، ومن حق حركة فتح بأن تشمخ بأنه أحد قادتها ومؤسسيها ومن صناع مجدها، ولتنصفه الحركة الأسيرة باعتباره واحد من أبرز رموزها على مدار خمسة عشر عاماً قضاها في سجون الاحتلال، ومن واجب الشعب الفلسطيني أن يبقى وفيا له . سلام عليك أيها الثائر .. أيها التاريخ المستيقظ الذي لم ولن ينطفئ ..

الثامن عشر:  أبو علي شاهين... وموته الذي لم ينته بعد!!

بقلم/ جهاد أحمد صالح

لم أكن أتوقع أن تلك المكالمة الهاتفية، ستكون آخر ما تلتقطه أذناي من صوت الصديق والقائد أبو علي شاهين؛ كنا ـ الكاتب والصديق يحي رباح ـ في مكتب الدكتور حسين الشيوخي، رئيس مجلس أمناء الكلية العصرية الجامعية، عندما طلبناه لنطمئن عن وضعه الصحي، حيث يعالج في إحدى مستشفيات ألمانيا.

أصبنا بالحيرة والإرتباك عندما أخبرتنا زوجته أن وضعه الصحي لا يسمح له بالحديث... وأصبنا بالدهشة عندما رن الهاتف عندنا حاملاً رقم هاتفه؛ كنا ندرك أن هذا القائد العصامي الذي تدرّج في مراحل الثورة، من المقاتل العادي إلى القائد الفذ، لن يحول المرض، مهما أشتد، بينه وبين الحديث مع أصدقائه.

كان حديثه واضحاً ومتوازناً، لكنه في وجهه الآخر حاداً وموجعاً، حدثنا بسرعة البرق عن الثورة والإنتصار، وعن الهزيمة والإنكفاء، وعن الطلقة الأولى والإنطلاقة الثانية، عن نكسة حزيران، وملحمة معركة الكرامة، عن أيلول وأحداث لبنان، عن أوسلو والثورة التي تأكل أبناءها، عن التضحيات والفساد، عن الشهداء والإنتهازيين، عن الأسرى والمتهافتين الخانعين، عن البطولة ووثيقة جنيف وأشياء أخرى، حدثنا.. وحدثنا... وختم حديثه: أنه سيوقف علاجه في ألمانيا، ويعود إلى غزة، وختم خاتمته بقوله: "لا أريد أن أموت بعيداً عن الوطن، وعن غزة، أريد قبراً يكون وطني، فالحياة بلا وطن ... كالموت بلا قبر".

لم نعهد أبا علي قاسياً مع أصدقائه إلى هذا الحد، وقد ألقت كلماته بأرواحنا في غياهب ظلاماتنا، وقد عادت لعنة الظلم والظلمة التي ورثناها من المخيم واللجوء تلاحقنا بلا هوادة. ربما لم يفطن إلى ذلك، وهو يدلي بوصيته الأخيرة: إذا كان الموت قد حدد  زمان العمر، فأنا من يحدد مكان القبر.

جمع أبو علي جسده الضئيل وعاد إلى غزة؛ وبعد أيام قليلة توقفت ساعة الإنتظار عند خبر الوفاة الموجع، رغم توقعه، المفجع رغم حضوره الدائم في وداع أحبابنا من رفاق المسيرة، لكننا عندما نودّع مثل هذه القامة الباسقة، إنما نستعيد حلماً وألقاً أصبحنا بحاجة ماسة إليه، بل وتزداد حاجتنا إليه يوماً بعد يوم، منذ أن بدأت الثورة تأكل أبناءها، ومنذ أن بدأ الحاضر المتهافت يمسح ألق الماضي المشرق من ذاكرتنا الوطنية.

رحل أبو علي شاهين، وترك لنا مساحة حب محفوظة في أفئدتنا، وترك لنا أمانة أن نورّثها لأبنائنا وأحفادنا؛ ترك لنا أمانة أن نكتب: أن الإنسان لم يخلق للهزيمة، وأن هزيمة الهزيمة لا تكون إلا بمنازلتها، في كل مواضع ضعفها بيقين الرائي الواثق من المستقبل.

ماذا نكتب عن حياة هذا الرجل الذي يرتاح الآن في صمته بعد أن ترك لنا الأمانة؟ ماذا نكتب عن هذا الرجل، ومن يعرفه يتمنى أن يموت قبله، لأن موته يعني أن كثيراً من الطهارة والصدق ستموت معه؛ ماذا نكتب؟ والوقوف على حياة هذا القائد ـ النموذج ـ يتطلب مراناً صوفياً في غاية الصعوبة، ذلك أن أبو علي شاهين قد جمع بين الحياة المستعدّة للموت في أية لحظة، وبين الموت المؤدي إلى الحياة... وجمع بين انتماءه لفلسطين التي تئن تحت الجراح، وبين الجراح الغائرة في جسد أمته العربية التي تتخبط في غياهب التجزئة والإقليمية والدكتاتورية.

أبو علي شاهين سلسلة من الإنتصارات على الذات والواقع معاً؛ فمنذ أن خرج من قريته "بشيت ـ قضاء الرملة" لاجئاً، لم تتوقف هذه القرية التي استشهد والده في الدفاع عنها عن النمو في أعماقه حتى أصبحت في حجم فلسطين كلها؛ ولأن فلسطين تمتد في إنسانية قضيتها، صارت في فكره وكيانه في حجم الكرة الأرضية، هذا كان انتصاره الأول.

أما انتصاره الثاني فكان انتمائه لحركة فتح في بدايات تأسيسها، ومنذ إعلانها عن إنطلاقة عملها المسلح كان من المقاتلين الأوائل في صفوفها... ومن القادة الميدانيين لإنطلاقتها الثانية بعد نكسة عام 1967. وانتصاره الثالث، كان صموده الأسطوري خلف قضبان السجون الإسرائيلية مدة خمسة عشر عاماً، إثني عشرة منها في زنزانة منفردة. عمل خلالها على تحويل حياة السجن والسجناء إلى عمل نضالي وحدوي متواصل، ومن نوافذ السجن الضيقة استطاع أن يرى المدى شاسعاً، والأمل ممكناً، ويخلق حالة ثورية متوقدة في صفوف رفاقه السجناء، فكان بحق مؤسس الحركة الأسيرة في فلسطين. وانتصاره الرابع كان تأسيس حركة الشبيبة الفتحاوية داخل فلسطين لترفد حركة الثورة في الخارج. أما انتصاره الخامس فكان إصراره على العودة إلى الوطن رغم قرار المنع الإسرائيلي .

هكذا، لم يقطع أبو علي شاهين دروب التضحية، فالحياة بالنسبة له مخيم كبير، ومن هذا المخيم تشبّع بتلك القسوة المتهكّمة، ومن هذا المخيم ـ الخاسر بكل المعادلات ـ تعلّم تلك الراديكالية التي جعلته يمسك الحدث السياسي (الفلسطيني) ويقرصه من أذنه؛ ومن خبز المخيمات تعلّم كيف ينحاز إلى الفقراء والمضطهدين، ولأنه كذلك رأى أن ليس أمامه سوى خيار القتال، طالما أن عدّوه قد إختار طريق القتل.

من اللجوء والمخيم أدرك الحقيقة الأولى في وعيه السياسي ومفادها: طالما أن رغبة العدو تحويلنا إلى ماض، لا بد أن تكون الخلية المقاتلة الأولى، هي خطوتنا الأولى لنصير جزءاً من المستقبل..هكذا صنع أبو علي شاهين انتصاره. وهكذا كان موته الذي لم ينته بعد.

التاسع عشر: هكذا  بكت القلوب على فراقك " أبا علي " ... يا مفكر الفتح وشعلة الثوار

بقلم/ د.عبير عبد الرحمن ثابت

فى الذكرى الأربعين مرت الأيام كالسنين .. بكلمات لا تعبر إلا عن مكانة أبو على فى قلوب شرفاء هذا الشعب .. ناداه ابنه ورفيقه القائد / محمد دحلان مخاطبا روحه " لا ترحل فلم يحن الموعد  ، وانهض من فراشك لتكمل المشوار الذى بدأته حيث لم يكتمل بدون مشاركتك ، لا ترحل أبو على فلم يحن الموعد فالثورة ما زالت بحاجة إلى شيخها " .

جميعنا نناديك فى ذكرى أربعينك .. انهض أيها البطل .. انهض شيخ الثوار فالكل بانتظار توجيهاتك  .. فما أقبحك من يوم ثلاثاء وما أسودك من فجره تخطف منا شمس نهارنا وتحلق بها فى الفضاء مودعاً دون استئذان .. ففى فجر يوم الثلاثاء الموافق 24 مايو / 2013 .. قررت السماء البكاء وأعلنت طيورها لباس الحداد والسير بمواكب حزن لتودع شهيدها أبو على شاهين .. ومنها لم تستطع التحليق عالياً فأجنحتها عجزت عن الطيران أمام مهاب فقيدنا العظيم .

أيها الشاهين أبو على .. لم نستطع ذرف الدموع فعيونك ما زالت تؤكد لنا الوصية بالوطن .. يا أيها الفارس المغادر أرض الوطن إلى جنان الرحمن  تمهل قليلاً .. فلما العجلة بالرحيل .. لما ذهبت وتركت الوطن وحيداً .. رحلت ولم تداوى جراحه التى أدمتك .

فأى أبجديات تلك التى نتناولها للحديث عنك .. وأنت مُلهم الكلمة ومعلم الفكرة ورفيق درب مؤسس الثورة الفلسطينية الشهيد القائد ياسر عرفات رحمه الله  .. إنا نرى عيونك كل مساء تعود لتخبر أهل فلسطين بأن الوطن أمانة بأعناقكم فاحفظوا الأمانة  .. ففى يوم وفاتك وحدت الوطن .. وفى مهابك الجلل وفى حضرة روحك الطاهرة اجتمع المنقسمون والمختلفون والمتصارعون فى خيمة وداعك .. جميعهم شدوا الرحال إلى عزاءك باكين ومودعين ومعتذرين لروحك الطاهرة المسافرة إلى السماء ، وقد أكدت جميع الفصائل الفلسطينية والمؤسسات المجتمعية والأهلية وجماهيرك الحاشدة إبقاء سيرتك النضالية عنوان يسيروا بخطاهم على نهجك دون التخاذل كما كنت طوال عهدك .. وكل من تتلمذ على يديك مصمم على المضى قدماً حتى نهاية المشوار وسيحفظوا خارطة الوطن التى رسمتها ببريق عينيك فى سماء فلسطين .

إلى اللقاء يا شيخ الثورة .. ستبقى فينا ما حيينا .. سنبقى مؤمنين بأن أصحاب الفكر لا يموتوا بل هم أحياء يرزقون .. نم قرير العين برفقة الشهداء والصديقين .. فسلامنا إليك ومعك وبك وبروحك الطاهرة سنبقى صامدون .. فالعظماء أمثالك وأمثال أبو عمار وأبو جهاد ومانديلا وجيفارا وأحمد ياسين وأبو على مصطفى وكل شهداء فلسطين باقون .

ونسأل الله العلى القدير أن يتغمدك برحمته ويسكنك فسيح جناته .. وإنا لله وإنا إليه لراجعون

العشرون: أبو على شاهين.. سنذكرك قائداً ومعلماً

بقلم/ نافذ غنيم

كنت في مقتبل العمر، أتحسس طريقي إلى ميدان النضال، وكان لصوت الثورة الفلسطينية صدا يضرب في أعماق الوجدان .. احرص على سماعه كل مساء .. ارفع صوت المذياع لكي يسمعه المارة والجيران، ربما رغبة مني في أن يعرف من حولي أني انتمي لمعسكر الثورة، أو ربما لأنني كنت راغب في أن أُجند ضمير ووجدان من حولي إلى هذا الدرب من خلال عشق الكلمات الثائرة، وترديدها لتزهر نارا ونورا في القلوب وفي السلوك.. ثوري ثوري يا جماهير الأرض المحتلة .. من أكثر الأغنيات الثورية التي كانت تؤجج المشاعر وتلهب الوجدان .. كانت الكلمات، وكانت لوحات الفن الفلسطيني التي تزين غرفتي كدالة إضافية على انحيازي لدرب الثورة، وكأحد رموز التحدي للاحتلال الإسرائيلي الذي كان يبطش بكل من يسمع أغاني الثورة، أو يعلق رسما ثائرا على جدران غرفته .. هي عناصر لم تكتمل بدون رموز وثائري الكفاح الوطني .. رجال المرحلة وكل المراحل .. الفدائيون الذين رسم أزيز رصاصهم مسار القضية، واخترقت حناجرهم الصمت العربي المذل .. ليعلنوا بمواقفهم المشرفة استمرار مسيرة شعب رفض الظلم والطغيان، وأبى إلا أن يكون مكافحا مناضلا رغم البطش والإجرام .

من بين هؤلاء كنت اسمع عن قائد فتحاوي قاوم المحتلين، طورد وعذب وسجن، وفي قلب السجن كان ثائرا متحديا إدارات القمع الصهيوني، ليخلق من السجون أكاديمية للثورة والثوار .. اسم سمعته ولم اعرفه إلا بعد سنوات وسنوات.. وعندما قابلته بعد الإفراج عنه من سجون الاحتلال الإسرائيلي وبعد ان قضى فترة أبعاده في منفى "الدهنية" جنوب شرق رفح، وجدت في أحاديثه ما يؤنس القلب ويقنع العقل .. وجدته قريبا مما نؤمن به وتربينا عليه في بداية مسيرتنا الكفاحية في صفوف الحزب الشيوعي الفلسطيني، كان يصعب عليّ حينها أن أدرك كيف لوحدة الموقف السياسي أن تجد طريقها مع الآخرين ممن ينتمون إلى فصائل فلسطينية أخرى، لكني عرفت فيما بعد بان هناك فصائل تقاسمنا الموقف وتتفق معنا، وفي القلب من ذلك هناك أشخاصا يمتازون في ذلك، من بينهم كان المناضل القائد أبو علي شاهين، هو القائد في حركة فتح التي يجمعنا بها دربا كفاحيا واحدا، وأهدافا سياسية وحدتها مسيرة النضال لتتجانس فيما بينها، وهو شخص يحمل من الفكر والوعي ما يجعلنا الأقرب والأكثر انسجاما .

كان الأخ والرفيق أبو على رجل فكر.. صاحب مواقف مبدئية، امتاز بصلابة الطرح، وبقدرة متقدمة على فهم الأمور وتحليل المواقف.. عندما كان الوقت يسعفنا لنجالسه، تشعر انك أمام موسوعة ثقافية بكل أبعادها الفكرية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، واهم ما كان يميزها طابعها التقدمي، وبرغم إخلاصه الكبير لانتمائه الفتحاوي الذي كان يفخر به دوما، كان اشد إخلاصا بل وتعصبا لفلسطين ولمنظمة التحرير الفلسطينية، واشهد بأنه لم يكن يوما ممن يحطون من قدر الآخرين أفرادا وتنظيمات.

كنا نشعر في الحزب بان أبو علي رفيقا كما هو اخا، اذكر انه في الذكرى الأولى لتأبين الرفيق القائد الشهيد أيمن البهداري بمحافظة رفح، دعوناه لالقاء كلمة باسم القوى الوطنية في المحافظة، سعد كثيرا بدعوة الحزب، وجاء متحمسا لرثاء رفيقنا الشهيد، وهو الذي تحدث عن دور حزبنا وتاريخه بأكثر مما نتحدث عنه، لم يتردد قط في أن يُذكر الحضور بالموقف الطليعي والتقدمي للحزب، ولا عن قدرته في فهم الأمور، واستشعاره للأخطار المحدقة بالقضية الوطنية قبل غيره، وأكثر ما كان يضفي على حديثه عذوبة خاصة، عندما يذهب إلى ما هو اجتماعي، ليشعرك والآخرين بأنه جزء أصيل من معسكر الديمقراطية والعلمانية والعدالة والاشتراكية، ومن المدافعين بكل مبدئية عن حرية المرأة، وعن الفقراء والمهمشين، ولا يمكن أن ننسى موقفه عندما شاركنا - برغم مرضه الشديد - الاحتفال الذي نظمه الحزب في الذكرى الواحدة والثلاثين لإعادة تأسيسه، وتأبين الرفيق الراحل زياد البلبيسي .

أكثر ما كان يميز هذا القائد الفذ، جراءة الموقف، والنقد اللاذع الذي كان يصيب حركته قبل غيرها، احترمت فيه هذه الصفة، فليس من السهل أن تجد من يقسو على حزبه أو فصيله بالطريقة التي كان يتحدث بها أبو علي.. كان دائما يرفع لواء المحبة، ليقول نحن الاحوج لان تجد مدرسة المحبة طريقها إلينا، وكان يوجه حديثه لأبنا حركته، وكذلك لأبناء الحركة الوطنية، وقد امتازت مواقفه بالرفض الشديد للانقسام الفلسطيني، حيث عبر في أكثر من موقف شجاع عن ذلك، محذرا من تغول الفكر المتطرف الاقصائي في ساحتنا الفلسطينية، داعيا إلى توحيد الصفوف للدفاع عن المشروع الوطني، وعن الفكر المستنير، وعن الثقافة الوطنية التي كان يوصفها دائما بالجامعة والموحدة لكافة أطياف الشعب الفلسطيني . وقد بقي تاريخه الكفاحي ناصعا برغم ما حاول البعض النيل من سمعته خلال توليه لمهامه الوزارية في السلطة الوطنية الفلسطينية .

أبو علي .. لقد رحلت في زمن يحتاج الرجال من أمثالك .. رحلت ليقول أبناء شعبك قول فاصلا مشرفا في مسيرتك الوطنية والكفاحية .. حُملت على أعناق الثوار كلمسة حب ووفاء لك، ورافقك إلى متواك الأخير الآلاف ممن أحبوك من مختلف الأطياف السياسية، ومن أبناء محافظتك الذين حفظوا مسيرة نضالك، وشاهدوا في مختلف المراحل كيف كانت قسوة الاحتلال اتجاهك، واتجاه أسرتك المناضلة، عرفوك مناضلا وطنيا عنيدا في مواجهة الاحتلال .. وأدركوا اليوم بعد أن فارقتنا مدى حاجة الوطن لأمثالك، وحاجتهم لكل من يعشقون درب الحرية، وللمدافعين بكل صلابة عن وحدة الشعب والوطن وعدالة القضية، وعن مستقبل تتوج الحرية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية والمساواة جبين أبنائه وبناته على حد سواء . المجد لك أيها الفارس .. والتحية لكل الذين يرسمون على طريق النصر علامة.

 

الحادي والعشرون: أبو على شاهين مثقفاً

بقلم/ د.عاطف أبو سيف

برحيل أبو على شاهين خسرت الحركة الوطنية الفلسطينية عاموداً هاماً ومعلماً بارزاً من معالمها. أبو على شاهين ينتمي إلى هذا الجيل الاول الذي انكوى بنيران النكبة فهب صارخاً يحمل شعلة الثورة يسير بها في أدغال الظلم والقهر والحرمان. جيل التأسيس والإنطلاقة والتشكيل الأول، جيل الحلم والتوقعات الكبيرة والإيمان الاكبر بممكنات النفس والشخصية الفلسطينية، جيل الأفكار الكبرى والأهداف الحقيقية، جيل الإجماع الوطني والوحدة الوطنية.

أبو على شاهين لم يكن مناضلاً حمل البندقية وسار في فيافي الأرض باحثاً عن الحرية فحسب، بل كان منظّراً لنضاله، داعية يحرض الناس على الثورة ومفكراً يعمل عقله من اجل الذود عن مكتسبات الشعب وثورته، حيث يتحول الثاثر بكل ما يملك إلى كيان واحد لا تنفصل فيه حياته الشخصية عن حياته العامة، ولا مكان لقلبه بعيداً عن جسده ولا وجود لاهوائه إذا تعارضت مع قناعاته، حيث يصبح المناضل عالماً بذاته.

هكذا كان أبو على شاهين منذ خرج من قريته بشيت إلى فيافي اللجوء، منذ ان خرج من أندلسه إلى عذابات التيه. كأن الطبيعة نذرته لمهمة أدرك منذ يومه الاول انه لها مثلما قد يحدث في أي قصة إغريقية لا تنتهي حتى بنهاية الحكاية. فالأساطير لا تنتهي بموت الأبطال. فالرجل لم يكن فقط ثائراً مقاتلاً فدائياً بل كان أيضاً مثقفاً قارئاً مناقشاً مفكراً مدافعاً محاججاً مناظراً مستمعاً ومجادلاً في سبيل فلسطين. لم يسلم أبو على بكونه من جيل الذبيحة كما يذهب الشاعر الكبير احمد دحبور في عنوان إحدة مجموعاته، بل أراد أن يكون حقاً "الولد الفلسطيني" الذي خرج من عباءة النكبة إلى قيامة الثورة.

لم تكن فرادة أبو على بتجربته الغنية ومخزونه النضالي الكبير، بل إيضاً بثقافته متعددة المشارب ومتنوعة الميول والمضارب. فالرجل الذي امضي سني عمره في الزنازين وخرج بعدها منفياً كان نهماً للقراءة والمطالعة وكأنه ادرك ان المقاتل الواعي المثقف اكثر صلابة وأشد إيماناً بعدالة نضاله. كان أبو على نموذجاً عالي القامة لهذا المقاتل القاريء المتابع الراصد وكان نموذجاً حياً عما أطلق عليه جرامشي بالمثقف العضوي. فكان الرجل مثقفاً عضوياً فاعلاً مؤثراً ناشراً لما يؤمن به.

وضع أبو على تجربته النضالية في كتابه الجيمل الرائع "الهواء المقنع" الذي نشرته اللوتس بعد ابعاده إثر الإفرج عنه وساعده الشاعر الراحل محمد القيسي. الكتاب يشكل كنزاً غنياً حول تجربة ثرية ومفعمة بالحيوية والتامل والتدبر. وهو كتاب لابد أن يعاد له الاعتبار ويوضع في مصاف الكتابات التأسيسية والأساسية التي تساهم في تشكيل الوعي الوطني وتطويره مثل كتاب أبو إياد "فلسطيني بلا هوية" وكتابات غسان كنفاني .

كان هذا ربما عام 1997 حيث نظمنا ندوة عن الروائي الراحل جبرا إبراهيم جبرا في جمعية الشبان المسيحية تحدثنا فيها عن إرثه الروائي وتنظيره الفكري كما عن تجربته الفنية الغنية المتعددة. كنت يومها مشرفاً على الندوة التي نظمناها في "جماعة الكروان الثقافية". دخل الأخ أبو على شاهين، وكان وزيراً وقتها في الحكومة، وجلس مع الحضور. رفع يده ليتحدث بعد أن أنهي المداخلون اوراقهم. اعطيته الكلمة متاخراً. وما ان وقف ليتحدث عن جبرا حتى بدا مثل ناقد أدبي كبير يتحدث عن الفن الروائي وبنية السرد، وكان ابلغ من تجدث في تلك الندوة وأفصح من عبر فيها. عكست مداخلته ثقافة روائية عالية واطلاعاً مهولاً على أدب جبرا. بعد انتهاء الندوة سألني ابو على لماذا لم ادعه للندوة. بصراحة لم يخطر ببالي أن الرجل محب للادب ومطلع عليه لهذه الدرحة. فقلت بتعرف حضرتك وزير وأشغالك. قال لي نحن لسنا مقاتلين فقط والفدائي ليس جاهلاً بل مثقفاً ويقرا. وكان محقاً. وحتى حين لم يكن يدعى، كان أبو على لا يتردد في حضور الندوة التي يعرف عنها حتى في ذورة انشغالاته.

بعد ذلك ربما بسنتين جمعتنا جلسة في بيت صديق. كان ثمة صورة للوحة لسيزان معلقة على الجدار. أشرت للوحة وانا أسال أبو على إن كانت هذه لسيزان. اجاب بالنعم. وربما أكثر من ساعتين وأبو على يناقش في الفن وتطور الفن وحركاته والمدرسة الإنطباعية تحديداً التي يعتبر سيزان أحد روادها وبعد ذلك حول الفن السياسي وكيف يستخدم الفن في خدمة غايات العمل الكفاحي. كان واضحاً ان صاحب البيت لم يكن يعرف من اللوحة شيئاً ألا أنها للزينة، اما بالنسبة لأبي على فثمة حكاية كبيرة وراء كل شي.

مطلع هذا العام كنت مع صديقي الشاعر المصري جرجس شكري في مقهى "الحميدية" في باب اللوق في القاهرة مع صحبة لنا من كتاب وصحفين مصريين. لا اعرف كيف قفز أبو على على طاولة النقاش وصار مادة للحديث. ربما لثلاث ساعات كان حديثنا عن أبي على وحضوره وشخصيته وتجربته وثقافته؛ لأكتشف أن الرجل يحظي بحضور واسع بين المثقفين المصرين وله أصدقاء كثر بينهم ويتواصل معهم بشكل كبير. كان أبو على يحرص على التفاعل مع حلقات المثقفين والكتاب في كل بلاد يذهب إليها ولم يكن ينقطع يوماً عن هذه الجلسات. بصراحة شعرت باعتزاز كبير وانا اصنت لكلام جميل عن رجل جميل وكبير. وحُملت بكبشة سلامات له منهم أسعدته.

أبو على يذهلك بمعارفه المتعددة من التاريخ والسياسية وعلم الاجتماع إلى الأدب والثقافة العالمية. وفي كل موضوع يمكن له أن يتحدث كمتخصص يعرف تفاصيل موضوعه بدقة متناهية ويلم بجوانب من جهات عدة.

أبو على امتداد لجيل كبير من الهامات الثورية ذات الجذور المعرفية الثقافية لأن الثورة كانت بندقية وقلم وريشة، ولأن المقاتل الواعي العارف المدرك لأبعاد نضاله والقادر عن التعبير عنه هو خير من يمثل الثورة. كان أبو على سواء في محاضراته الضيقة في أوساط الرعيل الاول للشبيبة بعد خروجه من السجن او قبلها في تنظيراته داخل الحركة الأسيرة وصولاً لكتاباته الصحفية العميقة الاخيرة يشكل حالة نادرة للمثقف الملتزم بقضية وطنه وشعبه وللثائر الباحث خلف حدود الجقيقة؟

الثاني والعشرون: في حضرة الغياب ... أبو علي شاهين

بقلم: باسم الخالدي

دونما تخطيط مسبق, وجدتني بجوار بيت "أبو علي" رائحة القهوة السادة التي يصنعها بيديه و بطريقته الفريدة تستصرخني أن أصعد لاحتسائها, و كالعادة دون موعد مسبق, فبيت الحاج عامر و مفتوح على مدار الساعة.

يُفتح باب الشقة المتواضعة بأثاثها, الفخمة بفكرها و قاطنيها و الكريمة بضيافتها و ثقافتها. هل هي مصادفة, أبا علي, أن يكون أول ما يقع نظر الزائر عليه هو تلك المكتبة العامرة و لوحة مضاءة لأمير الشهداء أبو جهاد و بجوارها صورة لمحمود درويش؟.. أم أنها رسالة للزائر : هذا هو العنوان فلا تخطئ في ترتيب أولويات النقاش.

بعد السلام و لوم أبو علي على طول غيابك مع أنك كنت في ضيافته قبل يومين فقط, تأتي أم علي, صاحبة الوجه البشوش الذي يشعرك بأنك في ضيافة الوالدة, للتسليم عليك و السؤال عن الزوجة و الأولاد, و هي تحفظ أسماءهم و فصولهم الدراسية.

تجلس على أريكة مرتفعة نسبياً فتقع عيناك على لوحة فنية رائعة للشهيد أبو عمار و أخرى للزعيم الخالد جمال عبد الناصر و ثالثة,ملونة, للشهيد عبد القادر الحسيني و رابعة للمفكر الكبير ادوارد سعيد و أخرى للمناضل العالمي تشي جيفارا. عندها يدفعك الفضول للنظر في زوايا الصالون الأخرى, فتجد عن يسارك مجسم فني للسيد المسيح عليه السلام, الشهيد الفلسطيني الأول كما يسميه أبو علي, و إلى يمينك المطبخ المفتوح و رائحة القهوة و عدد من بوابير الكاز القديمة.

و أمامك ما لذ و طاب من القرشلة بالزعتر و سلة فواكه جلبها الحاج من أريحا أو جنين أو طولكرم فهو لا يقبل إلا بالأفضل كل حسب منطقة زراعته و موسمه.

البيت يعطي الزائر فكرة واضحة عن ساكنيه . عن تكوينهم السياسي, الأخلاقي , الأصالة , التمسك بالإرث و الموروث الثقافي و التاريخي, البعد الوطني و القومي والإنساني, الانفتاح على الآخر و ثقافته و معتقده و التمسك بالجذور دونما تعارض أو صراع .

فأبا علي هو النموذج لذاك التكوين الفذ. هو المثقف و المفكر الذي يجبرك على الإنصات و النهل من كنوز معرفته, و هو ذات الرجل البسيط المتواضع الذي يذكرك برجل الخيمة أو الديوان الذي يصر على أن يخدم ضيفه بنفسه و بكل حب. هو الذي حين تشاركه الغذاء يوماً, و بيته عامر دوماً بالمدعوين, يصرخ بك إن لاحظ أنك لا تأكل بنهم كاف "سيبك من الاتكيت و شغل الأجانب و ادلغص زي البني آدميين".

تصادف أن زرته يوماً و كان يوم عيد زواجه الخمسين و قد أحضرت بعض الصبايا من رواد المنزل العامر ما تتطلبه مثل تلك المناسبة من حلويات, فقلت بتلقائية: هذا يوبيل زواجكم الذهبي و إن شاء الله تحتفلون باليوبيل الماسي, فردت الحاجة أم علي: ياه بكفي ..أجبتها من تتحمل أبي علي خمسين سنة بما فيها من سجن و غربة ومنافي؟؟ .. لاشك أنها تستحق كل تكريم على صبرها على الظروف و عليه, فكان جزائي أن أجبرني الحاج على أكل كمية من الحلويات كانت كفيلة ألا أذوق طعم النوم تلك الليلة.

آه من تزاحم الذكريات و من عجز الكلمات,, في آخر زيارة لأبي علي يوم ٣٠ أبريل في بيته بغزة, رأيت دموعاً في عينيه, صدمُت وصحت" الدموع ليست لأمثالك و تنبهت أنه ما زال في ملابس توحي... بأنه كان خارج البيت" .. ما الذي يبكيك أيها الجبل ؟ .. أجاب أنا للتو عائد من زيارة لقبور أحبة افتقدهم. سألت: من هؤلاء الأحبة الذين يبكون عيوناً ما تعودت البكاء؟؟ .. أجاب و هو ينتحب, الشهداء أسعد الصفطاوي وإسماعيل أبو شنب و صلاح شحادة.. تمتمت و العبرات تغالبني كي لا يراها. كم أنت كبير و إنسان يا أبا علي..

أبو علي.. آه يا وجع الفراق.. و آه كم أفتقدك يا حاج ...

الثالث والعشرون: لسعة الموت وثِقَلِه: أبو علي شاهين مع الخالدين

بقلم/ عدلى صادق

ثلاثون ساعة أو أقل، كانت تفصل بين لقائي الأخير به، وإغماضته الأخيرة. كان الرجل يتهيأ للموت الحق، بنفس راضية. ظل طوال الوقت، يزاوج بين "النوم أخو الموت" حسب قول رسول الله عليه السلام، والصحو، ميمماً وجهه صوب قِبلة الحياة والأمل. فأبو علي شاهين الثائر الناسك، لا يفارق روحه، بل كأنما هو يريد، حتى النبضة الأخيرة في جسده المتعب، أن يستنفد مخرون الروح، فيما جُبل عليه من يقين بالنصر وبجدارة "فتح" في إكمال مسيرتها حتى النصر. زواره، في الساعات الأخيرة من رحلة الحياة، ذات المسافات الموجعة؛ كانوا يحبسون دموعهم التي استحثها هول المفارقة: بين الرجل الذي حضر بقوة، مع لغته الواثقة الراسخة والشجاعة، والرجل الذي بات يحتضر. أمسك بيدي بقوة، وأصر على أن أتمدد بمحاذاته على سريره، فيما الأنابيب تغطي جانب السرير الأيمن، الذي أشار اليه. طاوعته فاعترضت الممرضة، ولا مكان على الجانب الآخر. طلب التصوير لكي يرسم إشارة النصر، فيما هو يمسك بيدي، بما تبقى له من قوة، ووقع التصوير. يغمض جفونه، لثوانٍ، كأنه ذهب الى نوم عميق، ثم تعلو الجفون لتكشف عن عينين حزينتين، يعطيك رسمهما انطباعاً بأن الحزن ليس إلا على الفراق. فهو رجل حالم، يكفيه أي جزء ملآن، من الزجاجة، ولا يكترث بما رَشَحَ أو اندلق منها. هو المحب للشباب. يتماهى معهم، ويحيا بعزيمة فتيّة. فالطريق طويل والرمل كثير والعمر قصير. وكيف نظل على دأبنا، نمضي، دونما شباب العمر وشباب الروح؟!

بعد كل الذي مضى، في حياته، وبعد كل ما قطع من المشاوير على طريق فلسطين الوطن والرجاء الأول؛ تشكلت لأبي علي شاهين، صيغته الاستثنائية. اعتدنا عليه، في كل لقاء، رجلاً قادماً لتوّه من رحم التاريخ، كمولود إعجازي فصيح، له مهابة الثورة المستحيلة، وله حصانتها، ومعه أسرارها وعصارة أيامها. ظلت بوصلته ثورة الحرية والعدالة، التي يُحابب فيها ويخاصم عليها ويحمل حيثياتها بين جنبيه، وعلى كتفيه، مثلما يحمل السجن الطويل الذي عاشه، أينماء راح وجاءَ. بعضنا يخرج من السجن، دون أن يخرج السجن منه. لكنه، وهو الاستثنائي، يحمل السجن والثورة معاً ولا يبرَحهما، ولا يعرف ملعباً ولا مسرحاً لحياته، خارج انتمائه، أو خارج تاريخ الحركة الوطنية وذكريات الذين رحلوا.

في ساعاته الأخيرة، التي أدرك فيها تماماً، أن الموت وشيك؛ لم يكن يتأمل الموت ويتفكر في لسعته، بل كان يتأمل الحياة ـ حياتنا ـ ويتفكر فيما هي عليه، وفيما ستكون. فلدى الإنسان، كل إنسان، حدس بالموت، والبشر كلهم فانون. لكن لسليقة الإنسان، التي تدفعه الى العمران والكد والتعلق بالأبناء، حتى بعد أن يتقدم به العمر؛ غرض واحد وهو طمأنة نفسه بأن جزءاً من الحياة المستمرة، سيتفرع منه. وأبو علي، في ساعاته الأخيرة، وبإصراره على أن يرسم إشارة النصر، وأن يكون التصوير، إنما أراد أن يطمئن الى عزم الأجيال على المُضي في التحدي التاريخي، ومقارعة هذه الصهيونية الفاجرة، وصولاً الى انتزاع الحق. فقد سَلَخَ أبو علي عمره، في مقاربات لدفع المظلمة، وإحالة آلامها الى قوة تحدٍ وعنفوان. خرج فتى صغيراً من قرية "بشيت" غربي الرملة في السهل الساحلي الأوسط، التي تعرضت لتطهير عرقي وانتُهبت بيوتها وأرضها، وظل يحلم بالعودة الى مدرسته فيها، حتى خفقة القلب الأخيرة، فيما هو يغفو ويصحو. ومثلما بدلت الثورة وجهة الوعي ووجهة اللغة، لم تكن للمأساة بكائيات حاضرة في لغته، وإنما كان التفاؤل وكبرياء المناضلين ويقينهم. هكذا عاش ومات. سلام عليه بين العينين مفتحتيْن، والجفون مطبقة عليها!

الرابع والعشرون: أربعون يوماُ على رحيلك أبا على شاهين

بقلم/ احمد يونس شاهين

 قبل أربعون يوماً خطفك الموت من بيننا أبا علي شاهين وهذا هو القدر ولكن لم يخطفك من قلوبنا وهذا الأجمل في الحياة.منذ انطلاق الثورة الفلسطينية وامتداد سنواتها الطويلة يرحل عنا قادة عظام سطروا بدمائهم صفحات تاريخ ناصعة البياض فتزينت بنضالاتهم العظيمة لتكون دروساً لنا في دروب النضال والمقاومة من اجل التحرير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة بعاصمتها القدس الشريف، فقبل أربعين يوماً ودعنا قائداً وثائراً احتل المرض جسده الطاهر ليغيبه عنا وهذا هو القدر الذي نؤمن به.القائد الفتحاوي الراحل أبو علي شاهين عرفناه كلنا قائداً يستحق منا التقدير والمحبة والاحترام لما قدمه من تضحيات كبيرة من اجل الوطن والدفاع عنه وزنازين السجان خير شاهد على ذلك وأراضي الضفة التي ترجل فيها ببندقيته ملاحقاً ارتال أعداء الوطن الحبيب ، ومخيمات اللاجئين في لبنان كلها شواهد على نضالاته اللامحدودة، إن الثورة الفلسطينية برحيل أبو علي شاهين فقدت احد أعمدتها الأساسيين لا سيما انه كان مدرسة الثائرين في أسره وخارج الأسر بين جموع المناضلين فقد ترك أبو علي شاهين بصمات خالدة في قاموس الثورة حيث أسس حركة الشبيبة الفتحاوية وكانت مدرسة للنضال الثوري الطلابي والشبابي.كان أبو علي شاهين من الحالات الاستثنائية بفكره السياسي وآرائه ومعتقداته وبعد النظر في رؤيته.إن فقداننا لأبو علي شاهين في هذه المرحلة المصيرية ما هو إلا خسارة فادحة لشعبنا ولحركة فتح ولكل الفصائل الفلسطينية التي كان في طليعتها فسيبقى تاريخه منارة لنا؛ فنضالات هذا القائد لا حصر لها لما تميز به من دور كبير في مراحل الثورة المتقدمة.

أبو علي شاهين ودع فلسطين التي نبض قلبه بعشقها فهو مشوار طويل من الأصالة والتضحية والفداء فأنت خالد في قلوبنا وقلوب كل الثائرين المناضلين الذين علمتهم فنون النضال وأساليبه المتنوعة من البندقية حتى القلم .فإننا في ذكرى الأربعين لرحيل أبوعلي شاهين نستذكر بكل فخر و اعتزاز سيرة رمز كبير من رموز النضال الوطني، وقائد فلسطيني فتحاوي عاش وقضى من أجل فلسطين شعبا وأرضا،أبو علي شاهين رجل المواقف الوطنية ورجل الكفاح والعمل والاستمرار من اجل الوطن الذي جند فيه ثواراً أطفئوا بدمائهم الزكية ظمأ تراب الوطن يوم احتباس المطر.نقف اليوم أمام حالة وطنية ومكانة عالية مرموقة في الفكر والإبداع الثوري المميز نقف وقفة إجلال وإكبار لهذا الثائر الراحل والخالد في قلوبنا وفاءً له وفخراً به بنضالاته وعطائه وفلسطينيته لقد كان في كل المواقع النضالية التي تبوأها مثالا للإخلاص والانتماء والوفاء وقدوة في العمل والعطاء الوطني المخلص ومناضلا ملتزما دفع خلال مسيرته النضالية الطويلة سنين عديدة من عمره في الاعتقال دفاعا عن شعبنا ومن أجل أن ينبعث فجر الحرية على ثرى فلسطين الطهور، وكان واحدا من أبناء فلسطين المناضلين الأوفياء الذين نذروا أنفسهم لخدمتها والدفاع عنها أرضا وقضية ومقدسات".

لقد مر أبو علي شاهين في جميع مراحل العذاب الذي فرضه العدو على شعبنا بدءً بالتهجير ثم السجن حتى الإبعاد إلى أن عاد إلى أرض الوطن ليواصل نضاله الثوري بالعمل في مؤسسات السلطة وخدمة شعبه حتى احتل المرض جسده الطاهر، رحل أبو علي وترك فينا الهم الوطني مؤكداً لنا أن وطننا والموت فوق ترابه أغلى ما نملك وأمنية كل فلسطيني وأن غزة الأبية بوابة انتصار هذا الشعب وبموته في غزة أكد لنا على متانة العلاقة الروحانية بين الفلسطيني وأرضه حيث أبى إلا أن يموت في وطنه ويجعل من تراب غزة حضناً له. رحمك الله أبو علي شاهين فأنت خالد في قلوب كل الثائرين وأبناء حركة فتح المناضلين.

الخامس والعشرون: وداعا ابو علي شاهين

بقلم/ سري القدوة

عندما ينتصر ابو علي شاهين علي الموت بعبقرية المكان .. وعندما ينتقل الي مستشفي الشفاء ويصر علي العودة الي غزة وهو في لحظاته الاخيرة ليرحل ويتركنا وهمنا الوطني فهو يؤكد لنا جميعا ابناء هذا الوطن وأبناء حركة فتح أن الوطن والموت فوق تراب الوطن اغلي ما نملك وما يتمناه الفلسطيني ولأننا نعرف ابو علي شاهين التاريخ الفلسطيني ومدرسة الفتح وكل من يعرف ابو علي شاهين وتابع تفاصيل رحلته مع مرضه حتى لحظة رحيله يقف عاجزا عن وصف علاقة الروح بالمكان حيث كان لرحيل ابو علي في غزة معاني كبيرة اراد الشهيد الحي ابو علي شاهين أن يتركها للأجيال وان يوصل رسالة مهمة لأبناء حركة فتح وشعبنا الفلسطيني وهي أن غزة هي بوابة الانتصار وان غزة هي بوابة الوحدة الوطنية .. وان غزة هي بوابة الحلم الفلسطيني .. وان وطننا فلسطين اغلي ما نملك خلقنا من ترابه وشربنا من ماءه وعلي هذه الارض ما يستحق الحياة  .

اننا نقف اليوم امام حالة وطنية ومكانة عالية في الفكر والإبداع والثورة والتاريخ فمن ملامح الهجرة من ( بشيت ) تشكلت معاناة ابو علي ومن بساطير جنود الاحتلال وقمعهم وبطشهم عاش ابو علي حالما في يوم العودة الي ( بشيت ) ومن جبال دورا في الخليل كتب ابو علي لحظات ميلاد المكان وفجر ثورة الجبال وكانت بندقية ابو علي هي بندقية الثائر المجبولة بدماء الشعب الثائر ومن سجون الاحتلال كتب ابو علي صياغة ادبيات الفتح ومن بين اوجاع مخيمات الشتات شكل ابو علي مدرسة الشبيبة الفتحاوية لتمتد في كل بيت ولتكون اقصر الطرق لاجتثاث الاحتلال .. ومن ملامح الانتصار لشعبنا قاد ابو علي مسيرة العمل والبناء في غزة ..

ابو علي شاهين كان قائد اول مسيرة خرجت ضد الانقسام في غزة وأول متظاهر ضد المليشيات السوداء في غزة فشارع عمر المختار يشهد علي ذلك وان مواقف ابو علي شاهين الكبيرة كانت بمثابة النبراس الذي يسترشد منه الاجيال لمواصلة مسيرة الكفاح الوطني الكبير من اجل نيل الحرية والاستقلال لشعبنا وإقامة دولتنا الفلسطينية المستقلة والقدس عاصمتها .

ابو علي شاهين رجل المواقف الوطنية الاول .. ورجل الكفاح ورجل التنظيم والخلية الاولي لحركة فتح .. ورجل جبال دورا ويطا والخليل .. رجل الدوريات والانطلاقة وعيلبون .. ورجل العمل والفعل والاستمرار.. رجل الزنازين والابعاد ورجل الدهينية ورجل رفح ومخماتها وابن بشيت .. يرحل اليوم في غزة البطولة والإصرار والقيادة والطلقة وحكاية فتح التي امتدت عبر الاجيال دروسا في النضال والمقاومة وحكاية لشعبنا الاصيل الذي عمد نضاله بالتضحيات والإبعاد والنفي عن ارض الوطن ووقف ابو علي متحديا للجلاد بإصرار شعب فلسطين مؤمنا بان فلسطين هي ملك للشعب الفلسطيني وان الاحتلال الي زوال ولا يمكن أن يستمر ..

ابو علي شاهين رجل حركات التحرر العربية والعالمية وصاحب مقولة أن ( فتح وجهها فلسطيني وعمقها عربي وبعدها انساني ) متنقلا في فلسفته الخاصة شارحا تاريخ الثورة وعلاقتها بتجربة الواقع الفلسطيني والعمق العربي والبعد العالمي حيث شكل فهم ابو علي لإدارة الصراع مدرسة الفتح التي امتدت لعشرات السنين في سجون الاحتلال فكرا ومدرسة ثورية ونضالية خرجت ألاف من القادة الشهداء وكتبت تاريخ السجون والنضال بحروف من نور وإبداع وطني خلاق علي طريق الكفاح والثورة والانتصار التاريخي وإرادة شعب لا تقهر ولا تلين ..

إن شعبنا الفلسطيني وهو يودع رمز الثورة الفلسطينية وابن حركة فتح احد قادتها الاوائل ورموزها الذي نفخر بهم ليؤكد أن رحيل ابو علي هي مبايعة لهذا الرمز الذي رفض الانقسام ونادي للوحدة وعمل من اجل فلسطين التاريخ المشرف لشعبنا ..

إن حركة فتح وفلسطين خسرت برحيل ابو علي  مناضلا وطنيا ومفكرا ومنارة شامخة رسمت طريقها بالنضال عبر مسيرة مشرفة من الكفاح المسلح والاعتقال والابعاد والعودة للمشاركة في بناء مؤسسات الدولة الفلسطينية العتيدة.

إن عظمة ابو علي شاهين أنه كان في حياته تعبيرا عن آمال الشعب الفلسطيني  كلها وطموحاته كان جسر العبور لشعبنا نحو النضال لنيل حقوقه، تحمل مسؤوليات خطيرة وواجه تحديات هائلة، خاض معارك كثيرة وعاش مقاتلا ومناضلا في سبيل حرية الشعب والأوطان، وكان محاربا ضد الاحتلال والظلم والاستبداد .. ومناضلا صلبا وعنيدا مطالبا بالحق الفلسطيني رافضا اغتصاب فلسطين وسرقتها وحلم بالعودة الي قريته بشيت ولكن الاحتلال الغاصب رفض الساماح له بالعودة واليوم روحه تحلق من جنوب رفح الي سماء بشيت حيث عبقرية اللحظة تكمن في روعة زمان الرحيل ومكانه .

إنه رحيل ابو علي شاهين .. رجيل التاريخ المشرف لشعبنا .. رحيل وقف شعبنا وخرجت غزة عن بكرة ابيها في جنازة الوداع لتنتفض من جديد ولتؤكد لابو علي وتبايعه علي الاستمرار في معركة الكفاح والحرية من اجل فلسطين الدولة المستقلة واحدة موحدة قوية علي الانكسار .

السادس والعشرون: ابو على شاهين ...ولد ثائراً و رحل ثائراً

بقلم/ د. هاني العقاد

لم تكن حياة هذا القائد الفتحاوي الثائر حتى قبل النهاية الا ظاهرة ثورية يصعب تكرارها بنفس المعالم الثورية و المحطات ,ولوان ثورة شعبنا الفلسطيني جعلت من كل ابنائها قادة لكن ليس بنفس مواصفات هذا الرجل , ولد ابو على وانحدر من عائلة ثائرة ابا عن جد كانت تدرس الثورة من جيل لاخر وتتوارث المقاومة وادواتها ومبادئها واسسها الحركية جيل بعد جيل  , وهذا ما جعل من شهيدنا قائد فوق العادة , و قائد ولد من قائد شهيد مناضل وهو ابية الذي استشهد في معركة الدفاع عن بشيت " تلك القرية الفلسطينية التى الهب ثوارها خطوط العدو وتجمعاته , تربي في كنف اعمامه الخمسة الا انه لم يكد يشتد عوده و يتمرن على حمل البندقية الا ونال الاحتلال من اعمامة الخمسة و دفنوا جميعا في قبر جماعي بمدينة بمقبرة الشهداء برفح , فكانت تلك حادثة غيرت مجري حياة هذا الثائر العنيد فقرر مواصلة الكفاح والانخراط في العمل المسلح وقاد العديد من المجموعات الفدائية التى كان العدو يخشي مواجهتها لانها مجموعات وجدت لتبحث عن وجود العدو وتشتبك معه وتنال منه وتبث الرعب في صفوفه .

اعتقل ابو على وعاش تجربة الاسر واسس هناك الاكاديمية الثورية وعلم الرجال فنون الثورة والقتال فكان تاسيس الحركة الاسيرة التى قادت مواجهة  مع السجان ,وكان سجنه نعمة له ولاخوانه ابناء فتح العملاقة فقد كان يقود عمل تنظيمي فريد من نوعه علاوة على انه كان فيلسوف الحركة و مثقفها الذي لا يسكت لسانه عن التعبئة الثورية ,وكان يعمل بصمت فقد نقل التعميمات وكان يوزعها على كافة المعتقلات و بالتالى تنقل بطريقة جدا سرية و زكية و تصل كل الاسري , لم يهدا هذا الثار ولم يستكين بل كانت ثورته في كل حين وكل مكان , وبعد ان خرج من المعتقل اسس ابو علي حركة الشبيبة الطلابية الزراع الطلابي لحركة فتح التى من خلالها  اخذت تتوسع دوائر العمل التنظيمي لتصل الحركة بالتالى الى كل بيت فلسطيني من خلال هؤلاء الشباب المنطلقين نحو الوطن بقوة البارود , ضاق المحتل باعمال ابوعلى وتحركاته الفتحاوية الحركية الثائرة , فتم ابعادة الى خارج الوطن اعتقادا من كيان الاحتلال انه سيسكت صوت الثورة في العمق الفلسطيني وتنطلق عربات الاحتلال تجوب شوارع القطاع دون مواجهة من الشبان الفلسطينين , و كانت تلك الايام المرحلة التمهيدية لانتفاضة الحجارة المجيدة  التى نطلق عليها مرحلة التعبئة والاعداد .

اول لقاء كان لى مع هذا الثائر بعد عودته الى الوطن ابان اتفاقية اوسلو عندما عاد الى غزة وكان ذالك اللقاء في بيته برفح وتبادلنا حينها الحديث  المعمق فكان كعادته يتحدث ضمن فلسفة ثورية مختلفة بعض الشيء وكانت يعتبرني من فئة الشباب تلك الايام فقال " هي البداية يا اخوان , لا تسمحوا للثورة ان تهدءا لان المعركة مع العدو بدأت الان  وان معركة التحرير ستطول  وقد لا يشهدها جيلكم او حتى الجيل الذي يليه لاننا نواجه عدوا ماكرا يغير من تكتيكاته واستراتيجياته  من مرحلة الى اخري فالعدو لن يكمل سلامه هذا واخشي مرحلة السلام الحالية واحدة من استراتيجيات المحتل  ...! " كنا مندفعين نحو اوسلوا و اعتقدنا انها الخلاص من الاحتلال , و اعتقدنا ان الاحتلال سيعود عن احتلاله دون ان ندري انها بداية  سيناريوا احتلالي خطير وكبير قد يطول امده  , كنت ادخن في تلك الفترة  فتبادلنا انا و ابو على  رحمه الله السجائر ونحن نحتسي الشاي الذي قدمة بنفسة كعادته , فهو الرجل الثائر المتواضع البسيط ,و عندما اصبح وزيرا كنت اناديه "يا سيادة الوزير " فكان يغضب و يقول يا اخي انا "ابو على" قولوى "ابو على" .

هذه وقفة قصيرة جدا من خلالها عرفت هذا القائد الفتحاوي الاصيل الذي صنعته المحطات الكثر للعمل النضالى وصنعته الايام التى شهدت له ثورته , ابو على ثار على الانقسام و بكي كثيرا لان الوطن مزق بين الاخوة واقتسموه ودفع الجميع ثمنا غاليا لهذا الانقسام و مازال يدفع , ودفع هو الثمن ايضا  عندما اطلق عليه الرصاص و اصيبت قدماه , هو الرجل الثائر صاحب المواقف التى تعادل مواقف وطن , رحل عنا وهو ثائر واخر ما كان يتمناه عودة الروح الى الجسد الفلسطيني التى نزعت منه بفعل الانقسام الاسود , رحل عنا و وصيته فهمها كل الفتحاويين ممن رافقوه وعاشوا ثورته وتعلموا قواعد الثورة على يديه , وصيته ان الوطن واحد والشعب واحد من يسعي لتقسيمه سيخسر يوما من الايام ,فقد وصي ابنائه على الوطن وعلى بعضهم البعض, رحل ابو على و في رحيله كانت  عادت فتح قوية واحده تحمله على الاكتاف , تجلت في مشهد وداعه كل المعاني الفتحاوية الاصيلة , و بكي الفتحاويون اليوم رحيل هذا الثائر الكبير الذي ولد ثائرا و رحل ثائرا و لم يتخلي عن ثورته في وجه المحتل الغاشم ولو للحظة واحدة ,املنا ان تبقي فتح كما عهدها هذا الختيار وكما ارادها القادة العظام  ياسر عرفات , ابوجهاد , ابو الهول , ابو اياد , والكمالين رحمهم الله.  

السابع والعشرون: لروحك السلام يا شيخ المناضلين

بقلم/ كمال الرواغ

  أبو علي شاهين.. أيها الأب والأخ والقائد الوفي لجميع أبناء فلسطين الأحرار وحركة فتح التي ناضلت أنت وأخوتك الذين امنوا بنصر الله " اذا جاء نصر الله والفتح "وبحركة التحرير الوطني الفلسطيني  كطريق للتحرير والعودة وتحقيق الحلم المستحيل .. اليوم ونحن نودعك نعلم تماما بأنك لن تعوض لأنك من القادة الكبار الكبار، لكن عزائنا فيك كأبناء حركتك أنك تركت فينا الكثير من الأدبيات الحركية والإرث النضالي الذي نتحصن بها وخلفه .

لقد علمتنا كيف نقدر الشرفاء والطاهرين، وكيف ومتى نحمل البنادق ثائرين، وكيف ومتى نحمل الأقلام، وكيف ومتى نكتب بالأقلام صادقين .

أبو علي شاهين أيها الفارس الذي ترجل بعد أن رفعت جميع البطاقات الحمراء في وجه الزائفين والمارقين شيخ المناضلين لقد خرجت  أجيالا في مدرسة العمل الوطني ليس فقط في مدرسة الفتح بل لكل من حمل البندقية في وجه المحتل ومن أجل فلسطين، وقلت لا عندما سكت وصمت الآخرين .

لقد كنت مثال في الانضباط الحركي والثوري، لقد حدثني أحد رفاقك في السلاح وفي العمل السياسي وتحديدا في الساحة اللبنانية حيث عملتم سويا من أجل الوطن وهو الشهيد محمود الرواغ "أبو علاء" حيث قال لي : عندما أتى أبو علي شاهين إلى الساحة اللبنانية ممثل عن فتح ومفوض سياسيا وعسكريا للحركة حيث لم تكن فتح ممثلة في اللجنة السياسية العليا للمخيمات الفلسطينية في الساحة اللبنانية  وأراد أبو علي شاهين أن تتمثل فتح واعترضت كثير من القوى والفصائل الممانعة  بوجود فتح وأدعو بأن فتح حركة فوضوية ولن تلتزم، وأرسلوني لكي أتفاوض معه فوجدته في مقر الحركة، يعد وجبات الغذاء مع عدد من الاخوه المقاتلين، فنقلت له موقف اللجنة من فوضوية فتح، فرد علي قائلا غدا ستكون هناك جنازة لأحد أبناء الحركة الذي استشهد في أحد المواقع العسكرية وسيخرج بها 12 ألف مسلح ولن تكون هناك طلقة واحدة وفعلا سير أبو علي وحركة فتح جنازة لهذا المقاتل ب 12 ألف مقاتل فتحاوي ولم تكن هناك طلقة واحدة، فتمثلت فتح، وأصبحت هي مسئولة اللجنة السياسية العليا  ها هي مدرسة ابو علي شاهين ومدرسة الانضباط الحركي التي تركها لنا أبو علي شاهين ...مهما ادعى المدعين .

 نعاهدك على الوفاء للوطن ولفتح، وما تركته لنا من أرث نضالي كبير، سنسير به على درب رفيقك الياسر وأبو جهاد وأبو إياد..وكل الصادقين . وسنحمل أرواحنا وأقلامنا وسنمضي بها إلي أن يسقط الظلم والظلام وكل الفاسدين؛ لك بقلوبنا كل الحب والوفاء يا شيخ المناضلين وشيخ الشهداء والصديقين .

الثامن والعشرون: أبو علي شاهين وهل يموت التاريخ؟؟

بقلم/ رزق المزعنن

أبو على شاهين ،ذلك القائد الفارس ترجل ؟!،نعم، ذهب لمهمة أخرى؟!، ممكن !، يتعب، يشيخ ، أتفهم ذلك ،انتقل إلى ساحة أخرى كما عودنا وعودتنا الفتح ،أتوقع ،أما الموت، فلا !!!، هل شاهد أحدكم يوما" كلمة" تموت ؟!، هل تصادف أن" حوارا" أو" نقاشا" أو "فكرة "ما، قد مات!،فالكلمة الحرة ، والرأي الشجاع ،وانجاز المهام لا يمكن أن يموت أبدا، فالموت يطال الجسد والنفس ،أما الأرواح الثائرة ،أما النفوس الحرة فلا تموت أبدا،قد تتغير الطريقة ،قد تتغير المهمة ،يمكنني أن افهم موت الثائر ،عندما ينتكس يتراجع عن أحلامه القصوى ، يحيد عن تحقيق أهدافه ، أما الأخ القائد الكبير أبو على فلم يتراجع عما نذر نفسه وعمره لتحقيقه من أهداف شعبه وأمته .
هل يمكن أن يتغير أو ينسى يوما ما أن أبو علي كان له من شرف الريادة في التأسيس مع الرعيل الأول من القادة المؤسسين للحركة العملاقة "فتح"مقاتلا وثائرا وقائدا،هل يمكن أن يمّحي أن أبو علي هو قائد ورمز الحركة الأسيرة؟ ومؤسسها والقائل حتى زنزانتي لا تخيفني لأنها جزء من وطني،هل يمكن لأحد كائنا من كان أن يتجاوز أن أبو علي هو مؤسس منظمة الشبيبة الفتحاوية في الأرض المحتلة والأب الروحي لمناضليها الأبطال؟!، تلك المنظمة التي خرّجت من صفوفها وقدمت لشعبها ولحركته الوطنية ولفتح أنبل الشهداء واصلب المناضلين ؟!، أبو على المثقف والمحاور عميق الرؤية القائد الفتحاوي لا يمكن أن يموت ،لان في كل وطني فلسطيني فتحاوي جزء من فكره وثقافته ورؤاه.
إن الحديث عن تاريخ القائد أبو علي شاهين يرحمه الله والمهام التي كلف بها و أنجزها يحتاج لمن يقوم ويتصدى لهذه المهمة الصعبة، فحياته كانت جزءا هاما من تاريخ حركتنا ،حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح"،بتاريخها ،وحاضرها، ومستقبلها ،وكمعبّر حقيقي و أصيل عن تاريخ ومستقبل شعبنا الفلسطيني ، فلقد تقلد أبو على مهاما جساما ، ومسؤوليات متنوعة وفي ساحات متعددة ، كان فيها دوما المبدع والخلاق والذي نذر فكره وجهده وقدراته من أجل تحقيق أهداف شعبه العليا في الحرية للوطن والشعب والعودة للاجئين و إقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس .

لاشك أن الموت حق ،وأن كل نفس ذائقة الموت، و لا نستطيع القول في فراق أبو علي إلا ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في فراق ابنه إبراهيم، إن العين لتدمع والقلب ليحزن على فراقك أيها القائد الكبير ،ولنا في سيرتك النضالية وفي سيرة رفاقك المؤسسين خير معين للتشبث بالمبادئ والمثل العليا التي استشهدوا على دربها ،و عزاؤنا أن أبناءك ومحبيك سيبقون دوما على العهد ،فالعهد هو العهد والقسم هو القسم، قسم الثوار قسم الأحرار، قسم القابضين على الجمر، من بوصلتهم دوما فلسطين، قسم من لا تتجه بوصلتهم إلا باتجاهها ،حتى يرتفع علم فلسطين على أسوار القدس ومآذن القدس وكنائس القدس .

 

 

 

الــفــهـرســــــــــــت

تـــــقـــديــــم 1
الفصل الأول ذكريات النكبة ومأساة التهجير 6
                أولا: النشأة والمنطلق 6
                ثانياً: استشهاد والدي. 7
                ثالثاً: اللجوء إلى غزة 12
الفصل الثاني: إطلاق المشروع النضالي للحركة الأسيرة 16
                أولاً: بداية النشاط التنظيمي 18
                ثانياً: تطور العمل التنظيمي في سجن نابلس 20
                ثالثاً: المحاكمة 21
                رابعاً: الإضراب عن الطعام أفضل وسيلة للمواجهة داخل الأسر 23
                خامساً: الأمراض تغزو المعتقل 27
                سادساً: في  سجن عسقلان 29
               سابعاً: الإضراب الأسطوري عن الطعام في سجن نفحة الصحراوري 1980 31
                ثامناً: سجن شطه 42
الفصل الثالث: أبو علي شاهين يتحدث          44
                أولاً: حق العودة والتزامات الدولة 44
                ثانياً: هل تخلت فتح عن المقاومة ؟ 46
                ثالثاً: صراع الأجيال في "فتح" 51
                رابعاً: المفاوضات .. هل من نهاية للطريق 56
               خامساً: من اسهامات أبو علي شاهين في الفكر الثوري 62
الفصل الرابع: الشبيبة الفتحاوية .. غرس المؤسس 66
               أبو علي شاهين ... واللبنات الأولى للشبيبة 66
الفصل الخامس/  كتابات تُخلد أبو علي شاهين. 72
               أولاً: أبو علي شاهين ملهم الأدباء 72
               ثانياً: أبو علي شاهين في فضاء الذاكرة! 73
               ثالثاً: أبو علي شاهين "ليس تأبينا" 76
               رابعاً: الوداع أبو علي شاهين ... يا شيخ المناضلين 78
               خامساً: أبو علي شاهين ... رجل بثورة 79
               سادساً: ابنُ المُخيَّم" أبو علي شاهين" 80
               سابعاً: أبو علي شاهين أسطورة الكبرياء ومرقد الدفيء الأخير 81
                ثامناً: أبوعلي شاهين وأربعون يوما على فراقك 82
                تاسعاً: أبو علي شاهين .. زيتونة فلسطين 84
               عاشراً: رحيل الرجل الذي احتج وحيداً 85
               الحادي عشر: عندما يترجل العظماء 86
               الثاني عشر: وارتحل رجل من زمن عمالقة الجبال 88
               الثالث عشر: أبو علي شاهين.. " ضمير فتح " الذي ترجل 90
                الرابع عشر: ابو علي شاهين: الحصن الحصين والركن الأمين 92
               الخامس عشر: أبو على شاهين قصص البطولة وحب الجماهير 93
               السادس عشر: أبو علي شاهين يموت واقفاً كالأشجار ..! 94
               السابع عشر: أبو علي شاهين .. اسم بحجم الوطن 96
الثامن عشر:  أبو علي شاهين... وموته الذي لم ينته بعد!! 98
التاسع عشر: هكذا  بكت القلوب على فراقك " أبا علي " ... يا مفكر الفتح وشعلة الثوار 100
               العشرون: أبو على شاهين.. سنذكرك قائداً ومعلماً 101
               الحادي والعشرون: أبو على شاهين مثقفاً 104
               الثاني والعشرون: في حضرة الغياب ... أبو علي شاهين 106
       الثالث والعشرون: لسعة الموت وثِقَلِه: أبو علي شاهين مع الخالدين 108
               الرابع والعشرون: أربعون يوماُ على رحيلك أبا على شاهين 109
               الخامس والعشرون: وداعا ابو علي شاهين 110
 السادس والعشرون: ابو على شاهين ...ولد ثائراً و رحل ثائراً 112
               السابع والعشرون: لروحك السلام يا شيخ المناضلين 114
               الثامن والعشرون: أبو علي شاهين وهل يموت التاريخ 115


 

التعليقات