نزيه لم يمت !

نزيه لم يمت !
د. طريف عاشور
  هو التاريخ يعيد نفسه ، كما اليوم الجمعة ، أتى عندي صباحا ، كان وجهه لامعا ، جلس تنهد وقال : اليوم آخر يوم لي بالحياة ( فلقد كان يعمل لدى جريدة الحياة ) أضاف : هل تعلم : تعبت كثيرا في حياتي ولم ارتح فيها يوما ، منذ الغد سأسجل في ناد رياضي واشتري حذاءا مريحا ، منذ الغد سأغير نمط حياتي وارتاح بعد تعب السنين ، سجون بالأردن ومعاناة هنا ، خطر دائم وداهم !

نزيه كان يساريا ، في ذاك اليوم جاء متوضئا ، قلت له : لنذهب إلى صلاة الجمعة ، هيا نعم لقد توضأت ، لم ارغب في سؤاله منذ متى بدأت الصلاة ، ذهبنا إلى مسجد خالد بن الوليد في جبل نابلس الشمالي ، ابتسمت وهو جالس يحضر الخطبة ، فلقد كان الجلوس يضايقه كونه لم يعتد على ذلك ، يتنقل برحله شمالا ويمينا ، انتهت الخطبة والصلاة ، وإذ بنزيه يبعد عني ويصلي صلاة السنة ، اذكر انه سجد طويلا وأنا انتظره في الخارج !  

بعد الصلاة نزلنا إلى سوق نابلس الشرقي ، ذهب إلى محل أدوات منزلية قرب المسجد الكبير واشترى مرطبانا لخزين ألجبنه كما اذكر ، مر قرب محله بالمجمع الشرقي ، كان يريد شراء بطيخ ، حيث لديه عزومه غداء ، اشتر قلت له من هنا ، قال بيني وبين الرجل إشكال ، ذهبت معه وتصالح مع الرجل وتبادلا السلام والقبلات !  

تفرقنا للغداء ، وما لبث العصر يغادر حتى عاد عندي ، كانت زوجته تخاف عليه ، قالت لي يوما : من كثر جرأته لا أحب ان يغادر المنزل ، دوما يتحجج بألم في البطن وانه يريد المشي ، كي يتسحب عندك !  

تحدثنا في تلك الليلة مطولا بوجود صديق أخر ، ولما هممت بتوصيلهم ، عزمنا الصديق على فنجان قهوة في بيته ، قال له نزيه ، لا ، ربما نأتي غدا !

كنت أود توصيله من منطقة رأس العين ، قال لا ، أريد أن أمر على دوار الشهداء ، مررنا من هناك وهو يتأمل الشوارع الفارغة والمدينة تأن من جبروت احتلال غاشم وطاغي !  

صباح السبت 19-4-2003 ، رصاص في كل نابلس ، أمر طبيعي فالاحتلال يمارس مهنته ، هاتف من صديق : هل سمعت الإخبار ؟  بكل بساطه نزيه استشهد !  

نزيه من صادقته منذ سنوات في كل مواجهات شارع القدس والبلدة القديمة وبيت فوريك ومخيم بلاطة وكل الاجتياحات استشهد ! 

نزيه الذي كان أول من دخل البلدة القديمة من رأس العين أبان اجتياح نيسان 2002 وفضح إجرام الصهاينة وأرسل أول صور الاجتياح للعالم ، استشهد !  

نزيه الذي يعود فضل كبير له بمساعدتنا بإخراج الجرحى من البلدة القديمة بعدما احضر عشرات الصحفيين الأجانب من اجل حمايتنا ونحن نخرجهم من المسجد الميداني ، استشهد !  

نزيه الذي قضيت معه ليلتان كاملتان يوم اقتحم الاحتلال بلاطه ، لم نذق فيها طعم دقيقة نوم واحدة ، ذهبت للنوم ، ولما صحوت كان في مهمة أخرى لم ينم أبدا بعدما افترقنا ، استشهد !  

نزيه الذي أنجبت زوجته طفلا خامسا عمره أشهر ، كلما هممنا بموعد لمباركته ، جاء اجتياح فاجلنا الموعد ، رحل ولم نبارك له ، استشهد !  

 ذهبت بصمت إلى ثلاجة المستشفى ، جزء من جبهته وفوق عينه مهشم بالكامل بفعل رصاص متفجر ، طبعت على نصف جبينه السليم قبلة ودمعة معناها : شكرا يا نزيه لما قدمت لوطنك ، هل ارتحت اليوم فعلا  كما أخبرتني بالأمس ! 

نزيه رحل ، وترك لزوجته الصابرة الصامدة أربعة أولاد وابنة ، ليست كأي ابنه ، رزان حصلت على معدل 98% وشرفت أباها بالشهادة كما شرفهم بشهادته .
 

سامح ابن الشهيد الأكبر ، حمل الأمانة ، لو أصبتم عين والدي الذي حمل الكاميرا من اجل فضح جرائمكم ، فسامح ألان حل مكان والده مصورا لتلفزيون فلسطين رغم معارضة وخوف الأم المكلومة !  

اليوم ونحن نعيش ذكرى رحيل الرجل ، نزيه لم يمت ،  فلن تغيب روحه عنا أبدا ، ولا كل زملاءه الصحفيين الشهداء والأسرى والجرحى ، لإخواننا في الحكومة الفلسطينية أقول : حافظوا على ارث الشهداء الصحفيين في يوم نزيه ، حافظوا على حرية الكلمة والتعبير ، فهؤلاء منهم من قضى نحبه ، ومنهم من ينتظر ، كل ذلك كي ننعم بحياة حرة كريمة بعيدة عن الاحتلال البغيض ، وأي حريات مقيدة داخلية  ، أما الاحتلال الفاشي ، قتلتم جسد نزيه نعم ، انتصرت الدبابة على صحفي يلبس البزة المعروفة عالميا والمحمية بقوانين الأرض نعم ، لكن أبدا لن تنتصروا على شعبنا ، على حقنا ، فلدينا ألف نزيه ، سيظهر لكم كل يوم في أحلامكم وأطماعكم التوسعية بنهب الأرض ليقول لكم ، لستم سوى محتلين ، سيأتي اليوم الذي تخرجون فيه من هذه الأرض الطاهرة مجللين بالخزي والعار ، بل وستدفعون ثمن جرائمكم مهما طال الزمن أم قصر .





التعليقات