أسرار"بيزنس الجيوش" الذى يحـكم العالم !

أسرار"بيزنس الجيوش" الذى يحـكم العالم !
رام الله - دنيا الوطن
عن الوطن المصري
وسط الارتباك والتشابك الدولى الذى نحيا فيه اليوم، ووسط كل علامات الاستفهام التى لا تجعلنا نفهم ما يجرى أو جرى - لا يوجد ما هو أصدق وأدق من ميزانيات الجيوش فى العالم، لتكشف لنا فعلياً من يقف مع من ضد من، ومن الذى يعرف حقاً كيف يفرض الأمر الواقع على الأرض.

كانت ميزانيات الجيوش فى العالم كله دائماً أمراً يستحق التوقف أمامه، فحجم ما تنفقه كل دولة على تسليح جيشها ودفاعاتها، أو حجم ما تنفقه على تطوير أسلحتها الهجومية، أو الصفقات التى تعقدها مع دول مصنعة للسلاح، أو الصفقات التى تعقدها دول كبرى لتملك نفوذاً ما فى دول أخرى - كلها تكشف حجم التهديدات والمخاطر التى تواجهها دولة أو منطقة ما. كما تكشف ميزانيات الجيوش عن جانب آخر من العلاقات بين الدول، نظرة أخرى لنوع من النفوذ يعرف متى يقول كلمته ساعة الحسم، ومتى يضغط بمصالحه على أعصاب أهل السياسة لو طالت ألسنتهم، أو طارت عقولهم أكثر مما ينبغى.

إن عالم «بيزنس الجيوش» هو عالم آخر منفرد بذاته، يملك لغته الخاصة وأوراق ضغطه التى تتحرك عادة من وراء الستار، لكنها تكون دائماً صاحبة قرار الحسم. ففى النهاية، تظل القاعدة التى تحكم العلاقات الدولية فى العالم كله أنه «لا صوت يعلو على صوت المصلحة»، فما بالك إذن عندما تتداخل المصلحة مع المعركة؟!





«بيزنس السلاح» فى العالم كان موضع اهتمام تقرير استراتيجى شديد الأهمية، صدر عن مركز «آى إتش إس جاين» البريطانى الشهير، المتخصص فى تقديم المعلومات الاستراتيجية والتحليلات الجيوسياسية لصناع القرار العالمى، وإصدار العديد من الدوريات والنشرات المعنية بالشئون العسكرية حول العالم.

التقرير أعده نخبة من المحللين العسكريين والاستراتيجيين البريطانيين، يرأسهم «بول بورتون»، رئيس وحدة تحليل الميزانيات والتصنيع العسكرى فى المركز. كان ذلك التقرير يرصد وبالأرقام حجم صفقات السلاح التى تتم بين الدول، ويضع ترتيباً يتغير سنوياً لأكثر الدول تصديراً وتجارة للسلاح، وترتيباً آخر لأكثر الدول استيراداً للسلاح بحكم التهديدات التى تواجهها، أو بسبب تدخلها فى حروب وصراعات مناطق أخرى. وأعد التقرير مجموعة من الخرائط الاستراتيجية التى تظهر حجم واردات وصادرات 77 دولة تمثل 97% من حجم تجارة السلاح الرسمية حول العالم.

كانت الخرائط التى أوردها التقرير تشير إلى أن أكثر ثلاث مناطق قررت دولها التركيز على مضاعفة صفقات السلاح، أو الدخول فى سوق إنتاجه وتصديره - هى مناطق النفوذ العالمى التى تتصارع عليها وفيها القوى الكبرى، وعلى رأسها الشرق الأوسط وأوروبا الشرقية، حيث تشتعل المواجهة الباردة الحالية بين روسيا ودول أوروبا الغربية ومن ورائها أمريكا، ثم دول آسيا التى بدأت الولايات المتحدة تعزز وجودها العسكرى فيها على حساب وجودها فى الشرق الأوسط، باعتبارها منطقة صراع ومواجهة مقبلة مع روسيا والصين.

لقد كان النفوذ العسكرى لأى بلد، وسيظل، إحدى ركائز قوتها ونفوذها العالمى، فلا توجد دولة فى العالم كله يمكنها أن تفرض مصالحها على الكل، مكتفية بعلاقاتها الاقتصادية أو ألاعيبها السياسية، أو نبرتها الدبلوماسية الهادئة وحسب. لا توجد دولة فى العالم تقف أمام باقى الدول لتفرض احترامها بسجل حقوق الإنسان المشرف فيها، أو ممارساتها الديمقراطية الشفافة فى صناديق الانتخابات فقط، إن السلاح فى النهاية يظل هو صاحب الصوت الأعلى، والأكثر حسماً عند فرض نفوذ أو هيبة دولة ما على الساحة العالمية، مهما عارض البعض ذلك الوضع أو أنكروه.

لكن «قوة السلاح» فى عالم اليوم لا تعنى بالضرورة حشد الجنود وإشعال الحروب وإطلاق النيران والقنابل والرشاشات، فأحيانا يكون مجرد عقد صفقات السلاح أشد وقعاً على التوازنات العالمية من ضربات المدافع.

تكشف قراءة التقرير البريطانى عن أن «بيزنس السلاح» أصبح هو المرآة الحقيقية التى تعكس حقيقة الوضع السياسى الذى يجرى على الأرض، فمجرد امتلاك دولة ما لأسلحة معينة لم تكن تفكر فى امتلاكها من قبل، أو اتجاهها لرفع ميزانيتها العسكرية أكثر من جيرانها لتعزز نفوذها ضدهم، أو اقتحام دولة ما لعالم تصدير السلاح بشكل يحد من نفوذ دولة أخرى - كلها أمور ترسم صورة محددة لشكل التغيرات التى تحدث على الأرض.

فمثلا، كان بيزنس السلاح وصفقاته بين الجيوش سوقاً نائمة خاملة منذ عام 2009، لكنه شهد طفرة مفاجئة فى حجم الصفقات بين الدول، وكم وحجم الأسلحة الذى تستوردها دول بعينها، وحجم الإنفاق العسكرى التى تخصصه الدول لجيوشها فى ميزانياتها بداية من عامى 2010 و2011، وهى نفس الفترة التى شهدت اندلاع موجة ثورات الربيع العربى التى قلبت شكل الخريطة السياسية فى الشرق الأوسط، وقلبت على ما يبدو شكل الخريطة العسكرية له كذلك.

وشهد بيزنس السلاح انتعاشة جديدة فى العام الماضى، عام 2013، وهو عام سقوط حكم الإخوان فى مصر، وارتباك قبضتهم على السلطة فى دول الربيع العربى، وتوحش الحركات التكفيرية المسلحة فى سيناء وسوريا والعراق وليبيا، واشتعال التدخل العسكرى والمواجهات القبلية والدينية فى بعض أجزاء من أفريقيا.

لذلك كله، يرى التقرير البريطانى أن ميزانيات الدفاع العالمية شهدت فى العام الماضى قفزة ستزيد بقوة فى عام 2014، ولفترة طويلة ممتدة بعده. وقالت صحيفة «لوموند» الفرنسية فى تعليقها على التقرير إن «هذه القفزات القوية فى أرقام بيزنس السلاح تعنى أن سوق ميزانيات الدفاع أصبحت مجالاً جديداً للتنافس والصراع بين القوى الكبرى التى تسعى لفرض نفوذها على العالم عن طريق السلاح».

وإحدى أهم القوى التى تصر على فرض نفوذها على العالم من خلال بيزنس السلاح هى روسيا والصين.

ينطلق التقرير البريطانى من إقرار واقع أن الولايات المتحدة الأمريكية هى أكبر مورد للسلاح فى العالم، وهى صاحبة نصيب الأسد فى الصفقات التجارية التى تعقد فى مناطقه المختلفة، كما أن الولايات المتحدة تعد، وبلا منازع، صاحبة أضخم ميزانية مخصصة للإنفاق العسكرى على أسلحتها وجيشها، وتصل ميزانية الولايات المتحدة العسكرية إلى 582 مليار دولار عام 2013، لأن الدولة الأقوى فى العالم حتى الآن تعرف أن النفوذ العالمى ليس بلا ثمن.

لكن، لا أحد يضمن أن المستقبل يمكن أن يستمر دائماً لصالح طرف دون آخر. كانت إحدى الملاحظات الدقيقة التى رصدها التقرير البريطانى فى مقدمته أن بيزنس الجيوش، على قوته والنفوذ الذى يمنحه لأصحابه، متغير لا يمكن توقع تقلباته، ولا التنبؤ بالمسار الذى تتحرك فيه حساباته، فعلى الرغم من أن مصر مثلاً كانت تحصل على معظم وارداتها من السلاح من واشنطن فى العامين السابقين، فإن التغيرات السياسية الحالية، وتوتر علاقة القاهرة بواشنطن فى الفترة الأخيرة، يمكن أن يكون لهما تأثير فى تغيير حسابات بيزنس السلاح الأمريكى فيما بعد.

فى المقابل، رصد التقرير دخول روسيا بقوة إلى مجال بيزنس السلاح فى السنوات الأخيرة، إلى حد أنه توقع أن تزيح روسيا قريباً معظم دول أوروبا الغربية التى يتناقص إنفاقها العسكرى تدريجياً فى الفترة المقبلة، فى إشارة إلى تراجع النفوذ السياسى لهذه الدول بشكل عام.

كان من المثير مثلاً أن يرى التقرير أنه بداية من العام 2015 فإن حجم الإنفاق العسكرى لروسيا والصين معاً سوف يتجاوز بكثير ميزانية الإنفاق العسكرى لدول الاتحاد الأوروبى مجتمعة، بل إن حجم الإنفاق العسكرى للصين وحدها، موزعاً ما بين إنفاقها على تسليح نفسها وعلى صفقات السلاح مع دول أخرى، سوف يصل إلى 159 مليار دولار، ليتجاوز بذلك حجم الإنفاق العسكرى لبريطانيا وفرنسا وألمانيا مجتمعة.

أكبر وأقوى وأهم ثلاث دول فى أوروبا الغربية لن يزيد حجم البيزنس العسكرى فيها عن 149 مليار دولار، أى أقل بعشرة مليارات كاملة من دولة واحدة فى آسيا. لكن الأهم أنه حتى بدون الصين فإن حجم الإنفاق العسكرى لدول آسيا، مثل الهند واليابان وكوريا الجنوبية، سوف يتجاوز أيضاً حجم الإنفاق العسكرى لدول أوروبا الغربية، وهو ما يبرر بالطبع القلق الأمريكى من تزايد النفوذ الآسيوى فى البيزنس العسكرى والتسليح من جهة أخرى، ويبرر أيضاً سبب اتجاه أمريكا لزيادة وجودها العسكرى فى آسيا على حساب وجودها فى الشرق الأوسط، الأمر الذى أثار هلع العديد من حلفائها فى الفترة الأخيرة وعلى رأسهم إسرائيل.

لكن، على ما يبدو، قررت إسرائيل بدورها أن تتجه أيضاً إلى البيزنس العسكرى الآسيوى الذى يجتذب مركز الثقل إليه يوماً بعد يوم، فألقت بثقلها وراء كوريا الجنوبية، لتعقد معها علاقة تحالف عسكرى، وتستورد منها قدراً كبيراً من المعدات والسلاح. هذا التمويل الإسرائيلى المباشر للبيزنس العسكرى فى جنوب كوريا يستهدف، وفقاً للتقرير، زيادة نفوذ كوريا الجنوبية فى مواجهة الصين، لكى تنجح «بيونج يانج» فى تجاوز «بكين» لتصبح أهم لاعب فى مجال بيزنس الجيوش بحلول عام 2016.

إسرائيل لم تكن الدولة الوحيدة التى تسعى لتغيير حسابات بيزنس الجيوش، السعودية أيضاً كانت لاعباً أكثر ثقلاً وتأثيراً بكثير فى تقدم دول فى البيزنس العسكرى وتراجع أخرى، فمثلاً يقول التقرير إن بريطانيا تقدمت على ألمانيا فى ترتيب الدول المصدرة للسلاح على مستوى العالم، وكان السبب هو دخول السعودية لشراء صفقة أسلحة ضخمة من شركة «طيفون» الإنجليزية.

والواقع أن السعودية قد نجحت فى أن تصنع لنفسها نفوذاً فى بريطانيا بقوة السلاح دون أن تطلق طلقة واحدة، ونجحت بشكل أكبر فى أن يكون لها نفوذ أكبر فى فرنسا بعد أن أصبحت هى الزبون الرئيسى لصناعة التسليح الفرنسية، واستوردت وحدها ما يقرب من ثلث صادرات فرنسا من السلاح.

تضع السعودية كما يكشف التقرير البريطانى، يدها بنفوذ وتحكم كاملين، على شرايين البيزنس العسكرى حول العالم، فهى أكثر دولة تنفق على ميزانية تسليحها فى الشرق الأوسط، حتى وصلت ميزانيتها العسكرية إلى 43 مليار دولار، تزايدت بشدة بداية من عام 2011، عام اندلاع الربيع العربى الذى فهمت المملكة آثاره وحسبت حساب تداعياته عليها جيداً. فتزايد حجم الميزانية العسكرية للرياض بنسبة 30%، أى أن حجم الميزانية العسكرية السعودية قد تضاعف 3 مرات فى 10 أعوام.

ليست السعودية وحدها هى التى تتحكم فى أعصاب العالم الحديدية، الإمارات أيضاً، وفقاً للتقرير، هى أحد اللاعبين الذين يدفعون دولاً ويجبرون أخرى على التراجع فى مجال البيزنس العسكرى. بل إن السعودية والإمارات تستوردان أسلحة بقيمة ما تستورده دول أوروبا الغربية مجتمعة. وتصل قيمة هذه الواردات من أدوات ومعدات ونظم عسكرية إلى 8.5 مليار دولار.

وعام 2013، الذى كان عاماً نشطاً بالنسبة لصفقات السلاح السعودية، زادت واردات السعودية بقيمة 1.3 مليار دولار، ليصل مجموعها إلى 3.7 مليار دولار. وتركزت تلك الواردات على الطائرات المقاتلة وطائرات الهليكوبتر، بما يتناسب مع طبيعة التهديدات التى تواجهها السعودية، خاصة من دول أخرى مثل إيران. ويتوقع المراقبون فى السوق، أنه مع استمرار اشتعال وتوتر الأوضاع فى الشرق الأوسط، فإن تسليح السعودية لنفسها سيستمر فى التزايد حتى عام 2015 على الأقل.

الإمارات أيضاً تزايد حجم إنفاقها العسكرى على تسليح نفسها بقيمة 122 مليون دولار عام 2013، ليصل حجم الإنفاق العسكرى الإماراتى إلى 3.12 مليار دولار.



مصر هى ثالث دولة على مستوى الشرق الأوسط فى مجال الإنفاق العسكرى. يرصد التقرير البريطانى أنه فى عام 2013 قفزت واردات مصر من السلاح إلى الضعف، لتصل قيمتها إلى 2.1 مليار دولار، بزيادة 100% على وارداتها عام 2012 التى لم تكن تزيد على 1.1 مليار دولار. الأمر الذى يعكس بوضوح حجم التهديدات الأمنية والمخاطر العسكرية التى تحيط بمصر تحديداً فى العام الأخير.

أما صادرات مصر من السلاح للعالم، فهى لا تزيد على 3 ملايين دولار، وهى فى ذلك المجال، تقل عن السعودية التى تصل قيمة صادراتها إلى 8 ملايين دولار، وعن الأردن التى تصل صادراتها من السلاح إلى 57 مليون دولار، وتقل بفارق ضخم عن أعلى الدول العربية تصديراً للسلاح وهى الإمارات، التى تصل قيمة صادراتها عام 2013 إلى 75 مليون دولار.

لكن الفارق الأكثر ضخامة فى صادرات السلاح، هو بين صادرات السلاح المصرية، وصادرات السلاح الإسرائيلية التى وصلت إلى 1.9 مليار دولار، بينما الواردات الإسرائيلية من السلاح لا تزيد على 1.3 مليار دولار، على الرغم من أنها قبلها بعام، لم تكن تزيد على 851 مليون دولار، وهى إشارة أخرى إلى حجم التهديدات الأمنية التى تزايدت فى العام الأخير بالنسبة لإسرائيل.

أما قطر، فلا يكاد يكون لها حضور فى مجال تصدير السلاح، وهى لا تستطيع منافسة السعودية ولا الإمارات فى مجال الضغط بمصالحها العسكرية مع دول أخرى. لا تزيد واردات قطر من السلاح وفق التقرير البريطانى على 650 مليون دولار عام 2013، أى حوالى خمس إنفاق السعودية على التسليح. إلا أن المثير أنه حتى إنفاق قطر قفز إلى ما يقرب من الضعف عام 2013، بعد أن كان لا يزيد على 354 مليون دولار عام 2012.

أكبر مصدر سلاح لقطر هو أكبر مورد سلاح للشرق الأوسط كله: الولايات المتحدة الأمريكية التى تستحوذ على نصيب الأسد من الإنفاق العسكرى لجيوش المنطقة. وتحظى منفردة بـ8.7 مليار دولار من واردات الشرق الأوسط. وتتركز المبيعات الأمريكية على الطائرات العسكرية والأنظمة الصاروخية، وستتزايد أرباحها مع صفقات طائرات إف -15 تم الاتفاق عليها مع السعودية، وطائرات إف - 35 لإسرائيل، لتظل متربعة لفترة لا يعرف أحد مداها على القمة، تاركة روسيا وبريطانيا وألمانيا وبريطانيا وفرنسا تتنافس على المركز الثانى فى سوق بيزنس الشرق الأوسط، بقيمة واردات لا تزيد على 2 مليار دولار لكل دولة.

لكن روسيا، على ما يبدو، لا تنوى ترك ذلك الوضع يستمر طويلاً.

لقد لاحظ التقرير، أنه على الرغم من تفوق الولايات المتحدة الحالى على روسيا فى بيزنس الجيوش، فإن «معدل تطور» الوجود الروسى فى البيزنس العسكرى يتقدم بسرعة البرق. فهى الدولة الوحيدة فى العالم التى قفزت ميزانيتها العسكرية بنسبة 44%، ليجدها العالم فجأة وقد احتلت المركز الثالث عالمياً فى مجال تصدير السلاح، ثم تقفز إلى المركز الثانى عالمياً على حساب بريطانيا عام 2013.

ويرى التقرير البريطانى، أنه على الرغم من أن أمريكا تتصدر سوق الصادرات العسكرية العالمية بقيمة 25 مليار دولار، فإن روسيا نجحت فى رفع صادراتها من السلاح فى السنوات الثلاث الأخيرة لتصبح قيمتها 10 مليارات دولار.

لكن، وعلى الرغم من أن روسيا هى أحد «الكبار» فى مجال توريد السلاح فى العالم، فإنها تظل أيضاً، أحد كبار المستوردين له. والسبب فى ذلك هو فلسفة اقتصادية تتبعها الحكومة الروسية، التى قررت فى منتصف الألفينيات أن تقوم باستيراد مكونات معينة، مثل بعض أنظمة الصواريخ، لا بسبب عجزها عن إنتاجها، وإنما لانخفاض تكلفة استيرادها عن تكلفة إنتاجها محلياً فى روسيا. أى أن موسكو تستورد مكونات أسلحة لأنها وجدت الاستيراد فى حالات معينة أرخص من الإنتاج!

ولا تتخلى روسيا عن سمعتها فى كونها قوة ضاربة فى مجال معدات الدفاع. ويقول التقرير البريطانى، إن روسيا نادراً ما تستورد قطع أسلحة أو معدات عسكرية، وإنما تتركز وارداتها على أنظمة تحكم صاروخية، أو برامج التطوير التكنولوجية لبعض المعدات، التى تستوردها «على الجاهز» بدلاً من أن تنفق الوقت والمال على مجال الأبحاث العسكرية والتطوير، ولا تزيد واردات روسيا من السلاح على 921 مليون دولار عام 2013، مقابل صادرات وصلت إلى 9.6 مليار دولار. أى أنها لا تستورد أكثر من قيمة عشر ما تصدره من سلاح.

واردات روسيا من السلاح تركز على البرامج والتكنولوجيا لأن استيرادها أرخص.. وحجم الإنفاق العسكرى لروسيا والصين عام 2015 سيتجاوز ميزانية جيوش ألمانيا وفرنسا وبريطانيا مجتمعة لا تعانى روسيا من «عقد» خاصة فى استيراد الأسلحة، بل إنها تعرف كيف تستخدم تلك المعادلة بالضبط لصالحها، على العكس مثلاً من تركيا التى وضعت نصب عينيها ضرورة وقف استيرادها للأسلحة من الخارج، وأن تتحول لمصدر سلاح فقط لدول العالم.

هو هدف، أعلنته حكومة رجب طيب أردوغان، رئيس حزب العدالة والتنمية التركى المقرب من التنظيم الدولى للإخوان. وقف أردوغان عام 2011، فى عام وصول الإخوان للسلطة فى معظم الدول العربية، ليقول إن تركيا قررت أن تصل لمرحة الاكتفاء الذاتى فى مجال التسليح بحلول عام 2023، وأن تخفض تدريجياً من اعتمادها على استيراد الأسلحة من الخارج.

والغريب، أنه فى الوقت الذى ارتفعت فيه واردات دول الشرق الأوسط من السلاح بعد عام 2011، عام وصول الإخوان للحكم، كانت تركيا هى الدولة الوحيدة التى انخفضت فيها قيمة الواردات لتصبح 1.9 مليار دولار عام 2013، بعد أن كانت تصل إلى 2.9 مليار دولار عام 2012.

لكن، وكما هى عادة وعود حكومة رجب طيب أردوغان، يوجد فرق كبير بين ما يعد به رئيس الوزراء التركى، وما يمكنه تحقيقه والوفاء به. فعلى الرغم من «طموحاته» بأن تصبح تركيا مكتفية ذاتياً فى مجال السلاح، بل ودولة مصدرة رئيسية له، فإن حجم الصادرات التركية عام 2013، لم يكن يتجاوز 290 مليون دولار. أى أنها لا تصدر إلا ما يوازى خمس ما تستورده.

يقول التقرير البريطانى، إن دول أوروبا الغربية مثل ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا وإسبانيا، أصبحت تحظى بنصيب قليل من سوق السلاح الدولية مقارنة بأمريكا وروسيا، كما أن حجم إنفاقها العسكرى، والأموال التى تخصصها لميزانيتها العسكرية سيتضاءل كثيراً فى الفترة المقبلة مقارنة بروسيا، التى قرر البرلمان فيها أن يصل حجم الإنفاق على الميزانية العسكرية فى السنوات القليلة المقبلة إلى 20% من إجمالى دخلها القومى. وتكشف هذه النسبة الضخمة عن الأهمية التى توليها روسيا لقواتها المسلحة، واستعدادها للتدخل العسكرى الفعلى فى بعض المناطق لدعم نفوذها، كما فعلت مؤخراً فى منطقة القرم جنوب أوكرانيا، التى كانت ساحة صراع مفتوحة ومعلنة بين موسكو، وعواصم الاتحاد الأوروبى كلها.

يمكن ببساطة فهم جزء من سياسة الاتحاد الأوروبى الخارجية من مصالحه العسكرية. إن حجم الاحتجاج والتدخل الذى تبديه دول الاتحاد على ما يحدث فى الشرق الأوسط، لا يقارن أبداً بـانتفاضة الدول الغربية أمام ما يحدث فى أوكرانيا، تلك الدولة المحورية فى أوروبا الشرقية، التى تعد هى السوق الأساسية الفعلية لمبيعات دول أوروبا الكبرى من السلاح.

عام 2013، وصل حجم مبيعات السلاح من ألمانيا وفرنسا وبريطانيا لدول أوروبا الشرقية إلى 4 مليارات دولار، فى سيطرة أوروبية واضحة على ذلك الجزء من العالم، ويرصد التقرير البريطانى، أن الدول الأوروبية الكبرى تعتبر أوروبا الشرقية منطقة نفوذ للبيزنس العسكرى الخاص بها، حتى عام 2018 على الأقل، وتريد أن تظل أكبر مورد سلاح لها حتى تلك الفترة.

لقد وصلت روسيا سريعاً إلى المركز الثانى فى مجال تصدير السلاح. وتحتل المركز الثالث فى مجال الميزانيات العسكرية التى ترصدها الحكومات والدول لكل ما يتعلق بأنشطتها العسكرية، وهو المجال الذى تكشف قراءة الأرقام فيه أيضاً، عن ترتيبات «الدول الكبرى» فى هذا المجال.

تحتل الولايات المتحدة المركز الأول بميزانية عسكرية 582 مليار دولار، تليها الصين بميزانية 139 مليار دولار. ثم روسيا بميزانية قدرها 69 مليار دولار، تليها بريطانيا فى المركز الرابع بميزانية عسكرية 58 مليار دولار، ثم اليابان 56 مليار دولار، وفرنسا فى المركز السادس 53 مليار دولار، ثم الهند 46 مليار دولار، وألمانيا 44 مليار دولار، ثم السعودية فى المركز التاسع عالمياً 42 مليار دولار، فكوريا الجنوبية 31 مليار دولار، ثم البرازيل وأستراليا 29 مليار دولار، وإيطاليا 27 مليار دولار، تليها تركيا فى المركز الرابع عشر 20 مليار دولار، ثم كندا 19 مليار دولار، وتايوان 14 مليار دولار، ومن بعدها إسبانيا وكولومبيا، ثم إسرائيل فى المركز التاسع عشر عالمياً بميزانية عسكرية 13 مليار دولار.

جندي

وظلت الدولة التى فاجأت المحللين فى المركز العشرين عالمياً بميزانية 10 مليارات دولار، وهى الجزائر.

يقول المحلل البريطانى كريج جيفرى، الذى شارك فى وضع التقرير، إن قفزات الجزائر العسكرية لم يكن أحد يتوقعها، خاصة أنه حتى عام 2009، كانت الجزائر تحتل المركز 26 عالمياً فى مجال الميزانيات العسكرية المخصصة للجيوش، إلا أنه فى الأعوام الأخيرة، تجاوزت الجزائر مصر فى مجال الإنفاق العسكرى، لتصبح صاحبة أعلى إنفاق عسكرى فى أفريقيا كلها، مما يعنى أن النشاط العسكرى الجزائرى قد أصبح حالياً، ودون مقدمات واضحة، من أعلى الأنشطة العسكرية فى العالم.

لماذا؟ ولمن تستعد الجزائر عسكرياً؟ ومن الذى حرك فيها هذا النشاط العسكرى؟ هذا هو ما يمكن أن تجيب عنه الأعوام، أو ربما الأيام القليلة المقبلة. 

التعليقات