عكا تحتفي بالذكرى المئوية الاولى لميلاد الشاعر عبد الرحيم محمود

عكا تحتفي بالذكرى المئوية الاولى لميلاد الشاعر عبد الرحيم محمود
الداخل - دنيا الوطن
نظمت مؤسسة الأسوار العكاوية يوم الأربعاء 14 آذار الجاري، مهرجانًا ثقافيًا بمناسبة الذكرى المئوية الاولى لميلاد الشاعر عبد الرحيم محمود الذي حملَ روحَهُ على راحته وارتقى الى العُلا شهيدًا في معركة قرية " الشجرة " القريبة من بحيرة طبريا في الجليل ودفن في الناصرة عام 1948. وقد عقد المهرجان الذي أداره باقتدار الشاعر سليمان دغش، في قاعة فندق أكوتيل في مدينة عكا وحضره جمهور واسع جاء من عكا وخارجها للاحتفاء بهذا الحدث الثقافي الهام.

وبأنفاس معطّرة جاءت عبرَ السكايب كلمة الشخصية السياسية البارزة الطيب عبد الرحيم، ابن الشاعر المحتفى بتخليد ذكراه عبد الرحيم محمود لتحيي الحضور وتبث  فيهم روح الأمل والصمود وتؤكد أيضًا اعتزازه بسيرة ومسيرة والده الشاعر الشهيد. وبنفس الروح تمحورت كلمات وقصائد خطباء المهرجان الأساتذة والشعراء: يحيى يخلف، حنا ابراهيم، سامي مهنا، الطفل الموهبة براء غنامة، غفران شمالي،  حنان حجازي مديرة مؤسسة الأسوار والبروفيسور محمود غنايم رئيس مجمع اللغة العربية في حيفا الذي قدّم دراسه قيّمة حول شعر عبد الرحيم محمود نوردها كاملة:

لو أنَّ الفتى حجرُ

عبد الرحيم محمود ثائرًا

تقديم

شاعرًا ثائرًا كان عبد الرحيم محمود (1913-1948)، يبحث عن الكلمة، يتقصى التعبير الشعري ويسعى إلى الالتزام بهوية متميزة. لكن الفترة التي عاش في كنفها لم تكن فترة سهلة، فقد زخرت في العالم العربي بالتناقضات والتمزق والثورة والبحث بين هذه المسارب الغامضة عن طريق للخلاص.

فأولاً امتازت هذه الفترة سياسيًا بالهبة الوطنية والقومية واصطراع المفاهيم الحديثة والقديمة عبر تفجر النزاعات في فلسطين، ابتداء بالثورة العربية الكبرى والانتداب البريطاني ومرورًا بثورة 1936 وانتهاء بحرب 1948 والنكبة.

وثانيًا عبّرت هذه الفترة عن تخلخل في النظم الاجتماعية وظهور التيارات الجديدة الداعية إلى التكافؤ الاجتماعي والمساواة ومنح العمال حقوقهم، وغير ذلك من المفاهيم والقيم، التي تسللت إلى العالم العربي في بداية هذا القرن، تأثرًا بالقيم الأوروبية-الغربية ومفاهيم الثورة الشيوعية.

وثالثًا تميزت هذه الفترة باصطراع المفاهيم الأدبية في العالم العربي وخفوت صوت المدرسة التقليدية في الشعر وظهور مدارس جديدة، كمدرسة الديوان ومدرسة المهجر وجماعة أبولو، أو تعميمًا، ظهور المدرسة الرومانسية. في فلسطين كان عبد الرحيم محمود، إلى جانب شعراء آخرين كإبراهيم طوقان (1905-1941) وعبد الكريم الكرمي (أبو سلمى) (1909-1980)، يمثّل النموذج العملي لهذا الصراع بين التقليدية والرومانسية في أواخر الثلاثينيات وعلى امتداد الأربعينات من القرن الماضي.

لقد طرحت في دراسات سابقة، بعض التصورات حول شعر عبد الرحيم محمود في كتاب بين الالتزام والرفض، ومقال تحت عنوان "عبد الرحيم محمود: شاعر يبحث عن هوية"، بالإضافة إلى مقالات أخرى متفرقة.  وتأتي هذه العجالة لطرح السؤال التالي: كيف تساوقت رومانسية عبد الرحيم محمود مع ثوريته؟ ولكن قبل الإجابة عن هذا السؤال لا بد من التأكيد على الجانب التقليدي في شعر عبد الرحيم محمود وهو الجانب الغالب، أما الرومانسية التي سأعالجها فلم تظهر إلا في السنوات الأخيرة من حياته، وهو ما يمكن تسميتها بالاتجاه الشاكي، حيث تتحول الثورة الصاخبة إلى أنين وشكوى ينفّس عنهما من خلال الدعوة إلى الخلاص ورفض المجتمع الذي يُعلي من شأن الظالمين ويحترم الموازين غير العادلة. وسأفرد كلامي لاكتناه هذه الظاهرة في شعره.

إن هذا النوع من القصائد - الاتجاه الشاكي- تقل فيه الألفاظ والتعابير الكلاسيكية وتخفت الضجة اللفظية. كما أن الأوزان المستعملة هي من البحور القصيرة على الأغلب. ومن هذه القصائد نذكر "في حالة غضب"، "جفت على شفتي الأماني"، "حجر في كثبان الرمل"، "لزوميات"، "رثاء حمّال"، "الخُذلان" وغيرها.

حجر في كثيان الرمل

نتوقف عند قصيدة "حجر في كثبان الرمل"،  وكان الشاعر قد نظمها عام 1941 بينما كان عائدًا من العراق إلى فلسطين. يقول مخاطبًا حجرًا في الصحراء:

فيمَ انفرادُكَ لا أنـيــسَ             تراه في القـفر المخـيـفِ

في رِبْقة الـوَهَـج الحَرورِ                   وَغُلّ عــاصفةٍ عَصـوفِ

وصـبرتَ لِلهُوجِ اللـوافحِ                   في الضحى صبرَ الأَنوفِ

أرَضـيـتَ بالصحراء عن                   ظــلِّ الـمُنَمَّـقَـةِ الغريفِ

وطلبـتَ وَحـدةَ راهـبٍ             فيهـا وعُـزلـةَ فيلسوفِ

هل كنتَ يومًا في القصـورِ       وعُـفتَ ضافيةَ الـقصورِ

وأبَيـْتَ أن تُـبنى عليكَ             صُـروحُ  بـهتـانٍ وزورِ

فنجـوتَ للصحراءِ مــن           صخَبِ المزاهـر والزُّمـورِ

تعلو علـى نـغـم الأنينِ            ونَـشْـجة القلب الكسيرِ

أم كنتَ شاهـدَ مصـرعِ            الأخلاقِ في البيـت الكبيرِ

فهربتَ - إنـك في الجمادِ                   إذَنْ لــذو أسمى شـعورِ

لقد أوردنا هنا مقطعين من أربعة مقاطع تتكون منها القصيدة للتعرف على وجوه التجديد. وإذا ما حاولنا أن نلخص القصيدة كلها في خطوط عريضة، فالشاعر يسأل الحجر إن كان قد فضّل العيش في الصحراء ليقتعد فيها وحيدًا كالراهب أو كالفيلسوف بعد أن هجر المدينة؟ ويستمر الشاعر يسأل الحجر إن كان يعيش في قصر فكرهه ورفض أن تبنى عليه صروح البهتان والزور، فهرب إلى الصحراء من الصخب والغناء إلى العزلة والأنين؟ ويستمر مستفسرًا ما إذا كان قد شهد مصرع الأخلاق في هذه الدنيا، وهل وقف في وجه ظالم مدافعًا عن مظلوم فقضى على الظالم وجثم على عظامه؟ هل كان سدًا أمام هذا الظالم فمنع تقدمه؟ وهل يقف الآن في الصحراء ليهتدي به الهائمون؟

عبد الرحيم محمود في هذه القصيدة يناجي الحجر، يشخّصه ويحادثه كصديق، بينما هو في حزن شديد يكاد يشارف اليأس. ويجدر التنويه إلى الفرق في التوجه الذي يحمل سمة الاقتراب من الحجر والشعور بشعوره والهمس في صوت خافت، وبين الخطابية التي تميزت بها القصائد الوطنية، أو القصائد الاجتماعية التي تحمل الطابع التقليدي. إن الهمس الخافت في قصيدة "حجر في كثبان الرمل" وعملية التشخيص هما سمتان ملازمتان وبارزتان في الشعر الرومانسي، وهذا يعكس ميل الشاعر الرومانسي إلى الانشغال بالطبيعة ومناجاتها واعتزال الناس وحياة المدينة.

تجدر الإشارة هنا إلى أحد الشعراء المخضرمين تميم بن مُقبِل (ت. حوالي 646م) الذي أورد معنى مشابهًا حين قال: ما أطيبَ العيش لو أن الفتى حجرُ / تنبو الحوادثُ عنه وهو ملمومُ.  ويبدو أن عبد الرحيم محمود قد استفاد في هذا المعنى حين حاول أن يتماثل مع الحجر، كما يظهر من التصدير الذي أورده الشاعر في بداية القصيدة، إذ يقول: "بين تدمر والعراق مَهْمَهٌ قدّر للشاعر أن يقطعه طريدًا، ووجد نفسه غريبًا غربة حجر هناك، فأسند رأسه وراح يفكر فيه وهو يؤكد أن الحجر دلّه على الطريق".  ولكن هذا التماثل في الغربة لم يجعل من الشاعر قعيدًا، كما سيتضح لاحقًا

وتجدر الإشارة إلى أن محمود درويش (1941-2008) أدار حوارًا مكشوفًا وتناصًا واضحًا مع قصيدة تميم بن مقبل في قصيدته "موسيقى عربية"، إذ يتمنى لو أنه بلا إحساس حتى لا يهتز لكل صغيرة وكبيرة، سواء على المستوى الشخصي أو المستوى العام:

"ليت الفتى حجرُ..."

يا ليتني حجرُ...

أكلما شردتْ عينانِ

شرّدني هذا السحاب سحابًا

كلما خمشتْ عصفورةٌ أفقًا

فتّشتُ عن وثنِ؟

[...]

ليت الفتى حجرُ

يا ليتني حجرُ...

لم يكتف عبد الرحيم محمود بشحن الحجر بالعواطف والأحاسيس، إذ يفاجئنا في نهاية القصيدة حين يتحول من الحجر إلى نفسه، فإذا به يقارن بينه وبين الحجر:

أنت الـوحـيد هنـا ومالي          لا أقـول أنـا الـوحـيــــدُ

هـيمـانُ لا  أدري الغـداةَ          طـريـقَ مـنجـاتي طريـدُ

بل يتبين له أن وضعه أشد وطأة وتأزمًا من وضع الحجر الذي اقتعد في الصحراء، بينما هو لا يقوى على القعود:

وإذا قعدتُ كـما قعدتَ   أضرَّ بالروح الـقعــودُ

فالروح التي يحملها الشاعر تأبى عليه أن يقعد:

والروح يا بعضَ الجمـادِ عنـىً  ومَحملُهـا يؤودُ

وهو حائر إن كان الطريق الذي يسير فيه هو الطريق السديد أم لا، فيتوجه إلى الحجر سائلاً:

قل لي: أذلـك مسـلـكٌ     جَـدَدٌ  ومُـطَّـرَقٌ سديدُ

وهكذا تنتهي القصيدة فإذا به متماثل مع الحجر، وإن كان يغبطه على وحدته واعتزاله الناس والحياة وهو لا يستطيع ذلك.

وتظهر رومانسية الشاعر من خلال المعجم الشعري الرومانسي الذي بدأ يتكون لدى الشاعر وإن لم تفارقه اللغة التقليدية تمامًا، فتبرز لديه التعابير المزدوجة وصور الطبيعة والإفراط في وصف العواطف، ليسبغ عليها الشاعر صفات حسية، لعل أهمها: "نغم الأنين"، "نشجة القلب الكسير"، وألفاظ أكثر الشعراء الرومانسيون من استعمالها، مثل "انفراد"، "عزلة"، "وحدة"، "هيمان"، "الروح" وغيرها.

أما الوزن الذي استعمله الشاعر فهو مجزوء الكامل، وهو من البحور القصيرة التي قلّ استعمالها في الشعر القديم، بينما ازداد استعماله في الشعر الحديث. أما القافية فمتغيرة، بحيث جاءت القصيدة في أربعة مقاطع على نظام الشعر المقطعي (strophic poetry)، في كل مقطع ستة أبيات توحّدها قافية واحدة وموضوع واحد، عدا المقطع الأول الافتتاحي المكوّن من خمسة أبيات. وتصب هذه المقاطع بعضها في بعض. في المقطع الأول الافتتاحي يسأل الشاعر الحجر عن سبب انفراده ويعرض المشكلة. أما في المقطع الثاني فيحدد الشاعر الأسئلة ليكشف لنا هروب الحجر من حياة المدينة. وفي المقطع الثالث يتساءل الشاعر عن رفض الحجر للظلم وتضحيته من أجل الضعفاء والتائهين. ثم تكتمل الحلقة بالمقطع الختامي، فإذا هو ذروة القصيدة، حيث ينتقل الشاعر للمقارنة بينه وبين الحجر، فيراه أكثر سعادة منه.

وبعد،
إن رومانسية الشاعر في هذه القصيدة، وفي القصائد الأخرى التي أشرنا إليها أعلاه، يمكن أن نفسّرها بعوامل خارج النص وعوامل أخرى نصية. ومن هذه العوامل نذكر:

1- ابتعاد الشاعر عن أرض الوطن بين السنوات 1939-1941. وقد عبّر عبد الرحيم محمود عبر هذه القصائد عن حنينه وأشواقه لأرض الوطن، فنظم في هذه الفترة عدة قصائد تنتمي للاتجاه الشاكي، منها القصائد التي ذكرتها: "في حالة غضب"، "حجر في كثبان الرمل"، و"الخذلان". ولعل الشاعر، كذلك، خلال وجوده في العراق قد تأثر بالمدرسة الرومانسية التي كانت في بداياتها في هذه السنوات.

2- كما أشرنا في المقدمة، يلتحم هذا الأسلوب مع الفترة الحرجة التي كان يمر بها العالم العربي سياسيًا واجتماعيًا، أعني فترة الحرب العالمية الثانية. لقد تميزت هذه المرحلة بتحطم القيم الاجتماعية والسياسية وتهاوي الكثير من المفاهيم التقليدية نتيجة لخروج الأمة العربية من الحرب منهكة تجترّ المرارة وتلعق الجراح.

3- أما من الناحية الأدبية فالاتجاه الرومانسي الشاكي تلاءم مع الثورة على التقليد والتمرد على الشعر التقليدي. وهذه الثورة تكاتفت مع نشاطه السياسي واتصاله ببعض الزعامات السياسية والنوادي اليسارية في كل من فلسطين والعراق.

هذه الأسباب معًا، السياسية والاجتماعية والأدبية، يمكنها أن تفسر استجابة الشكل للمضمون في شعر عبد الرحيم محمود ليبدو لنا شاعرًا يبحث عن هويته الأدبية والسياسية والاجتماعية بينما هو يبحث عن الكلمة. وقد وجد في الاتجاه الرومانسي، بلغته ومضمونه، ما يخدم غرضه الثوري الذي شكا من خلاله انعدام القيم وتمزق المفاهيم وتناقض الحياة، فكان عبد الرحيم محمود ثائرًا رومانسيًا، أو رومانسيًا ثائرًا.

 










التعليقات