مصر..شبكات توظيف الأموال العشوائية تقتحم بيوت الوزراء والكبار

غزة-دنيا الوطن
رغم الحملة الضارية التي شنتها الحكومة المصرية أواخر الثمانينات ومطلع التسعينات ضد شركات توظيف الأموال التي تعددت وتضخمت في ذلك الوقت ونافست القطاع المصرفي والشركات المساهمة القائمة بقوة، ورغم العقوبات القاسية التي تعرض لها مسؤولو تلك الشركات الذين يقضي بعضهم عقوبة السجن حتى الآن، فيما فر آخرون خارج مصر، ورغم ما تعرض له المودعون الذين وضعوا تحويشة العمر في تلك الشركات أملا في جني الأرباح الطائلة فإذا بهم يفقدون في النهاية كل تحويشتهم، على الرغم من كل ذلك عادت شركات توظيف الأموال إلى الظهور بشدة في مصر في الآونة الأخيرة على يد أشخاص أتقنوا فنون الوهم والنصب حتى أنهم أوقعوا في مصيدتهم علية القوم من أبناء الوزراء والكبار الذين يفترض فيهم العلم بالقانون والواقع، والذين تتوافر أمامهم عشرات الفرص الإستثمارية الآمنة والمربحة في آن.

وحسب الخبراء والمسؤولين المصريين يعود سبب الإقبال على هذه الشبكات إلى الارتفاع الكبير لأعباء المعيشة وارتفاع الأسعار، وفي نفس الوقت مخاوف الكثيرين من الاستثمار في البورصة، وانخفاض الفائدة المصرفية على الودائع بالجنية المصري إلى أدنى مستوي خلال عشر سنوات.


حالات نصب متنوعة

ولا يكاد يمر أسبوع في مصر حاليا دون الكشف عن حالة نصب باسم توظيف الأموال في محافظات ومدن وأحياء مصر المختلفة، ربما كان أبرزها في الفترة الأخيرة شبكة مدينة نصر، التي تضم نجل وزير مصري حالي ومن بين ضحاياها عدد من القيادات الوسطى والعليا في الدولة، وكان أحدث عمليات النصب في محافظة بورسعيد؛ حيث استطاع طالب جامعي أن يجمع حوالي 6 ملايين جنيه من بعض الشخصيات الحزبية ورجال الأعمال بدعوى إنشاء شركة ثم ما لبث أن انكشف أمره وألقت الشرطة القبض عليه، (الدولار = 5.40 جنيه).

وبين هاتين الحادثتين العديد من وقائع النصب التي جمعت ملايين الجنيهات من المصريين، ومنها مقاول الجيزة الذي جمع 100 مليون جنيه من 900 شخص، ونصاب حلوان الذي جمع خلال العامين الماضين 300 مليون جنيه من صفوة المجتمع المصرى من مهندسين ومحاميين وأطباء ومدرسين وغيرهم بحجة توظيفها في تجارة الخردة الدولية مقابل عوائد شهرية 30%، ومثله نصاب طوخ بمحافظة القليوبية الذي جمع 300 مليون جنيه من 200 شخص بزعم توظيفها في كروت شحن التليفونات المحمولة مقابل أرباح شهرية كبيرة، وفي منطقة الحوامدية بمحافظة الجيزة استطاع جزار جمع 2.5 مليون جنيه من بعض المواطنين بدعوى توظيفها في شراء وبيع "التوك توك" (وسيلة نقل شعبية بسيطة تنتشر في الأحياء الشعبية والعشوائية وتشبه الركشا الهندية)، مقابل عوائد شهرية بمقدار 25%، أما آخر حلقات النصب التي رصدها "الأسواق.نت" فقد بلغ عدد ضحاياها حتى الآن 207 أشخاص بلغت إيداعاتهم حوالي 85 مليون جنيه بعضها بالدولار.

مخاوف من البورصة


ويبدي رئيس هيئة سوق المال المصري أحمد سعد تعجبه من عدم تعلم الناس من نصب تلك الشركات منذ أيام الريان والسعد والهدى في السابق، موضحا أن هذه الظاهرة لا تنفرد بها مصر، ولكن تحدث في دول عديدة بمسميات أخرى.

وأشار سعد في تصريحات لـ"الأسواق.نت" أنه وفقا للقانون رقم 146 المنظم لسوق المال لا توجد شركة واحدة في مصر مرخص لها بتوظيف الأموال، وأن الهيئة قامت بالتنبيه على الجمهور بالحذر من هذه الممارسات بكافة الوسائل، مؤكدا أن عملية تجميع الأموال تتم بوسائل غير قانونية واتصالات شخصية، وليس من خلال كيانات مرخص لها.

وأوضح أنه تم ضبط 63 قضية عام 2006 ونحو 60 قضية عام 2007، وأن الصور عديدة لهؤلاء المتلاعبين من خلال الاتجار في الأسمنت والملابس والموبايلات والذهب، وأن هيئة سوق المال قامت 8 مرات بحملات مكثفة لتوعية الجمهور بمخاطر تلك الشركات.

أما رئيس هيئة سوق المال الأسبق والذي شهد عهده الظهور الأول والقوي لشركات توظيف الأموال د. محمد حسن فج النور فقد أوضح أن عودة النصب تحت مسمى توظيف الأموال هذه الأيام جاء لعدة أسباب؛ أهمها انخفاض الفائدة على الودائع بالجنية المصري إلى أدني مستوى خلال السنوات العشر الماضية، مما جعل العديد من المستثمرين والعملاء البسطاء ومحدودي الدخل الذين يعيشون على عوائدهم من الودائع يلجؤون إلى أسلوب آخر بديل وهو شركات توظيف الأموال بسب الإغراء من أصحاب هذه الشركات والوعد بعائد مرتفع يصل في البداية إلى 20%، ثم تأتي الكارثة ولعل ما حدث في طوخ بالقليوبية دليل واضح.

ويوضح فج النور في تصريح لـ"الأسواق.نت" أن أهم الأسباب أيضا هو الارتفاع العشوائي لكافة أسعار السلع دون مبرر، وهو واقع لا يتحملة المواطنون محدودو الدخل، وبالتالي فإن المواطن يبحث عن وسيلة لمواكبة هذه الزيادة العشوائية فيكون فريسة سهلة لتلك الشركات، بالإضافة إلى عدم وجود سيطرة أو رقابة على الأسواق، وخاصة بعد ظهور بعض التصريحات من بعض المسؤولين بعدم المسؤولية تجاه هذه الموضوعات، وهذا خطأ فادح رغم أن ذلك هو دور الهيئة العامة لسوق المال وهي الجهة المنوطة بهذا الموضوع وعليها التدخل بقوة.

ويتساءل فج النور، أين دور السياسة النقدية من هذا الموضوع؟ خاصة أن آليه سعر الفائد يجب اللجوء إليها لعلاج العديد من المشكلات مثل توظيف الأموال.

اعترافات مصرفية

وإذا كان البعض يرى أن ضعف الفائدة المصرفية هي أحد الأسباب الرئيسية لعودة ظاهرة توظيف الأموال، فإن البنوك ترفض هذا الاتهام، وتنحي باللائمة على المودعين أنفسهم؛ حيث يرى مدير البنك العربي الإفريقي الدولي أحمد سليم أن ظهور شركات توظيف الأموال مرة ثانية سببه الرئيسي طمع المودعين الذين يرغبون في الحصول على نسبة فائدة أعلى دون إدراك حجم المخاطر التي تتعرض لها أموالهم.

وأضاف سليم لموقعنا "إن البنوك لا تتحمل ظهور هذه المشكلة مرة ثانية حتى ولو كان سعر الفائدة غير مناسب بالنسبة لمن يتعاملون مع شركات توظيف الأموال، وليست مشكلة البنك سعر الفائدة، خاصة أن البنك في النهاية هو تاجر يحصل على نقود من المودعين ويبيعها في صورة تسهيلات ائتمانية ويحصل على هامش ربح.

ويرى مستشار بنك "بيريوس" نبيل الحكيم أن فشل البنوك في جذب أموال المودعين جعلهم يلجؤون إلى شركات توظيف الأموال وهو نتيجة حتمية، خاصة أن الناس ليس لديهم ثقافة مصرفية وليست البنوك وحدها هي المسؤولة عن ذلك بل يأتي العبئ الأكبر على اتحاد البنوك، الذي يجب أن يقوم بتوعية الشعب بالثقافة المصرفية.

وأضاف أن هذه الشركات غير شرعية وغير قانونية وغير مضمونة بالمرة، وهي تلعب على وتر الدين وتدعي أن المعاملات البنكية ربوية بهدف استقطاب المودعين إليها.

ضعف القائدة المصرفية أحد الأسباب


تحميل المواطنين والأوضاع العامة المسؤولية لم يقتصر على المصرفيين، فقد أيد ذلك أيضا خبراء الاقتصاد؛ حيث ترى أستاذ الاقتصاد بكلية الاقتصاد جامعة القاهرة د. عالية المهدي في تصريح لموقعنا "أن الأفراد المتعاملين مع هذه الشركات لا يمكن البكاء عليهم ؛ لأن الحكومة سبق أن حذرت من كارثة توظيف الأموال"، لكنها لفتت إلى أن الآليات التي تستخدمها الحكومة لجذب المدخرات ضعيفة وسيئة وليست جاذبة بل طاردة، بالإضافة إلى أن سعر الفائدة بالبنوك لا يتعدي 8%، وهو لا يشجع المستثمرين الصغار على هجر البنوك لأنهم يجدون في تلك الشركات عوائد تصل إلى 20%، كما أشارت إلى أن الاستثمار في البورصة له مخاطر عديدة، إضافة إلى أن ارتفاع معدلات التضخم إلى 13%، وكل ذلك دفع الكثيرين للبحث عن أرباح سريعة وعالية مما دفع بعض المتلاعبين بحاجات الناس ودوافعهم لتأمين المستقبل أن يقيموا مثل هذه الشركات.

أما أستاذ التجارة بجامعة القاهرة د. محمد عبد العزيز حجازي فيرى أن السبب الحقيقي وراء عودة ظاهرة شركات توظيف الأموال بقوة هو الحالة المعيشية الرديئة التي يعيشها المواطن المصري؛ حيث دفعت ضغوط الحياة من مأكل ومشرب وملبس وعلاج ودراسة الكثيرين إلى البحث عن عائد استثماري مناسب وسريع في نفس الوقت.

وقال حجازي لموقعنا "إن هناك سببا آخر ورئيسيا يتعلق بأن الشعب المصري من الشعوب الطيبة يمكن التأثير عليه بسهولة من خلال عرض بعض الأفكار ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، والتي يصفها صاحبها بأنها تحقق طموحات هؤلاء الناس والحقيقة أنها حالة نصب أكيدة".


الإثنين الأسود

وكانت شركات توظيف الأموال التي ظهرت في مصر منتصف الثمانينات قد جذبت آلاف بل ربما ملايين المصريين الذين وثقوا بتلك الشركات ووضعوا فيها كل مدخراتهم، ولم بقتصر الأمر على المدخرات السائلة بل تعداه إلى سحب الودائع من البنوك وبيع حلي النساء وبعض الممتلكات الأخرى، وإيداع هذه المبالغ لدى تلك الشركات التي كانت تصرف عوائد شهرية مغرية للمودعين، والتي استعانت بكبار الشخصيات، سواء من هم في السلطة أو من تركوا الخدمة ليكونوا بمثابة مستشارين لها مقابل رواتب خيالية عرفت في حينها بـ"كشوف البركة".

ويروي الخبير الاقتصادي د. حسن عبد الفضيل بدايات ونهايات تلك التجربة المؤلمة التي وضعت مصر في العديد من المشكلات الاقتصادية أهمها هروب رؤوس الأموال من البنوك وتحويلها لصالح هذه الشركات التي استخدمتها في المضاربة في البورصات العالمية حتي انكشفت الحقيقة، فيما عرف بـ"الإثنين الأسود" في نهاية الثمانينات بضياع أغلب أموال المودعين في شركات الريان، والذي حاول إنقاذ نفسه بالاندماج مع شريكة أشرف السعد، وبعد حدوث هذا الاندماج وتفككه بدأت الأجهزة الرقابية تعيد النظر في أداء شركات توظيف الأموال وفجأه استيقظ آلاف المودعين من حلم الثراء السريع إلي كابوس الإفلاس والمصادرة ومطاردة الريان والسعد والهدى والهلال.

وقال عبد الفضيل في سبتمبر/إيلول 1989 فتح ملف أحمد الريان؛ حيث اكتشفت الحكومة أن أموال المودعين تحولت إلى سراب بعد أن نهب آل الريان أموالهم وغامروا بها في البورصات العالمية، وقاموا بتحويل جزء كبير منها إلى الولايات المتحدة والبنوك الأجنبية، وبلغ ما تم تحويلة طبقا للأرقام المعلنة رسميا التي كشف عنها المدعي العام الاشتراكي 3 مليارات و280 مليون جنيه، وأن هناك مسؤولين ورجال دين وإعلاميين ساهموا في تهريب هذه الأموال مقابل حصولهم على ما سمي وقتها بـ"كشوف البركة" تحت بند تسهيل وتخليص مصالح شركات توظيف الأموال في المؤسسات الحكومية.


دولة داخل الدولة

ويشير عبد الفضيل إلى أن الخلاف الأول بين الريان والدولة بدأ بعد فضيحة صفقة الذرة الصفراء والتي تمت بين شركات الريان وبنك التنمية والائتمان الزراعي عام 86، 87 وهي الصفقة التي أدت إلى وجود أزمة في المحصول الرئيسي للبلاد، بعدها بدأت نوبة الصحوة ومطاردة آل الريان وفتح ملفه الأسود، وتم تقديمه للمحاكمة بتهمة وحيدة وهي تلقي أموال مخالفة للقانون رقم 246 لسنة 1988، الذي اأدرته حكومة د. عاطف صدفي والخاص بتوفيق أوضاع شركات توظيف الأموال، وأعطت الحكومة لهذه الشركات مهلة لتوفيق أوضاعها ورد أموال المودعين.

ويوضح عبد الفضيل أن الحكومة تحركت فقط عندما ادعي آل الريان أنهم كونوا دولة داخل الدولة، وامتد نصبهم إلى بنك التنمية الزراعية، ولم يكن التدخل بهدف حماية مصالح المودعين فقط بدليل أنه خلال عهد حكومات عاطف صدقي وكمال الجنزوري وعاطف عبيد وأحمد نظيف ظلت مشكلة المودعين بدون حل، ولم يحصل أغلبهم إلا على 50% فقط من مستحقاتهم بدون فوائد، أي أن أنهم حصلوا على 10% من أموالهم فقط.

التعليقات