جولة في الباقورة حيث حشد صلاح الدين قواته المنتصرة في حطين بالقرب من المكان الذي انتصر فيه خالد بن الوليد

جولة في الباقورة حيث حشد صلاح الدين قواته المنتصرة في حطين بالقرب من المكان الذي انتصر فيه خالد بن الوليد
بقايا مشروع روتنبرغ
أم قيس -دنيا الوطن- شاكر الجوهري

الرغبة في مشاهدة الآثار الأردنية القديمة في بلدة أم قيس، استبدلت بحكم طبيعة الأشياء بالبحث عن جانب من تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، فضلا عن تاريخ هذه الأمة في الدفاع عن الذات في وجه اعداء كثر حاولوا اجتياح ارضها، وأن يحلوا انفسهم محل شعوبها.

الرحلة نظمها مركز الإعلام الأردني بإدارة باسل الطراونة يوم الجمعة الماضي الموافق الثالث والعشرين من آذار/مارس.

منذ ما قبل البدء بالرحلة، وانطلاق اربع حافلات أقلت من عمان قرابة المئتي صحفي، انطلقت بهم إلى أقصى نقطة في شمال الأردن، بلدة أم قيس، كان معروفا ومعلوما للجميع أن الظروف الجوية لن تكون مناسبة للتصوير في هذا اليوم، غير أنه لا مجال لإعادة تأجيل رحلة من هذا الطراز بسبب الغبار الذي شكل حاجبا غير كثيف للرؤية في موسم الخماسينيات، بعد أن سبق تأجيل ذات الرحلة في الأسبوع السابق بسبب الثلج الذي أخفى معالم الأرض.

مدخل جرش، المدينة التاريخية الرومانية كان محطتنا الأولى، حيث كان محافظها محمد الرواشدة في استقبال الوفد الصحفي الكبير، تتقدمه سيارات الأمن العام التي وفرت الحماية من طوارئ لم تقع ـ كما كان متوقعا ـ طوال نهار ذلك اليوم.

بالترحاب و"الأهلا وسهلا" بدأ اللقاء الذي استغرق وجبة افطار شهية، وكلمات ترحيبية جميلة من المحافظ ورئيس البلدية وليد العتوم.

في أم قيس كان اللواء سهل قطاونة قائد المنطقة الشمالية على رأس مستقبلي الوفد، حيث كان اللقاء، ليس فقط في أقرب نقطة إلى الجولان العربي السوري المحتل، ولكنه كذلك في أكثر نقطة مرتفعة مؤهلة لأن تحل محل الأهمية الإستراتيجية للجولان، في معادلة المواجهة العربية ـ الإسرائيلية.

بين أم قيس وجبال الجولان الجنوبية، التي ترى بالعين المجردة من داخل الأراضي الأردنية، توجد منطقة الحمة السياحية، حيث المياه المعدنية الدافئة تخرج من جوف أرض منطقة سمتها الأساس برد قارس لا مثيل له شتاء، وبارد صيفا، تهب لسعاته من فوق جبل الشيخ الذي يبلغ ارتفاعه 2804 أمتار..!بعد أن تمر من فوق جبال وهضبة الجولان، وتطل على مرتفعات طبريا، وكوكب الهوا، وتصفّر في الكثير من الأحيان في سهول طبريا والحولة وحطين وبيسان.

خباثة اسرائيلية

من أم قيس لا تبدو هضبة الجولان فقط ضمن المشهد، وإنما كذلك بحيرة طبريا، وسهلها..وعلى حافة الهضبة الجنوبية هناك الجولان الفلسطيني الذي تم احتلاله في حرب 1967، بعد أن ظل بعد حرب 1948 أرض فلسطينية بمثابة وديعة لدى سوريا.

وعلى الضفة الجنوبية للبحيرة تبدو منطقة بيت جبريل، حيث تم التوقيع بالأحرف الأولى على معاهدة السلام الأردنية ـ الإسرائيلية، قبل أن توقع بصفة نهائية في وادي عربا..يومها تجلت الخباثة الإسرائيلية في أوضح تجلياتها.

تم التوقيع من قبل العاهل الأردني الراحل حسين بن طلال، واسحاق رابين رئيس وزراء اسرائيل. وقد أراد رابين أن لا يفوت المناسبة دون أن يوظفها في اختراع دلالة سياسية، لم تخطر على بال أحد في عمان.

المنطقة التي تم التوقيع فيها تابعة للدولة العبرية، وهي التي رتبت كيفية الجلوس، فتم وضع الطاولة التي جلس عليها الملك ورابين على نحو ينظران فيه نحو الجنوب الغربي، ليكون ظهرهما مدارا (بضم الميم) نحو الشمال الشرقي..أي نحو الجولان..!

رابين تقصد ذلك بكل تأكيد، ولم يكن مناسبا أن يفتعل الجانب الأردني أزمة في اللحظات الأخيرة قبيل التوقيع، قد يكون هناك في اسرائيل من ينتظرها بفارغ الصبر. فضلا عن احتمال أن يكون أحدا من موظفي البروتوكول الأردني لم يتوقع أن تكون جبال الجولان قريبة إلى هذا الحد من مكان التوقيع، وأن ذلك الجبل المرتفع الذي بدا في المشهد خلف ظهر الملك، إنما كان جزءا من الجولان..!

الجزء الذي بقي محتلا من الهضبة بعد فك الإرتباط الذي أعقب حرب رمضان سنة 1973مساحته ألفي كيلو متر مربع..طوله مائة كيلومتر، وعرضه عشرون كيلومترا. والجزء الظاهر منه من أم قيس غير مأهول، ذلك أنه يوجد فقط خمس قرى سورية مأهولة حاليا، بعد أن تم تدمير أكثر من ثلاثين قرية في حرب 1967 على أيدي القوات الإسرائيلية، في حين أن المستوطنات الإسرائيلية التي أقيمت في الجولان تتمركز في شمال ووسط الهضبة.

أنهر وبحيرة

من أم قيس يبدو كذلك مجرى أنهر اليرموك الذي يصب في بحيرة طبريا، وبانياس الذي ينبع من داخل الجولان، والحاصباني الذي ينبع من لبنان، والدان الذي ينبع من داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة سنة 1948، لتشكل كل هذه الأنهر مجرى مشتركا يصب في بحيرة طبريا، ثم يخرج منها مشكلا المجرى الرئيس لنهر الأردن.

قبل مغادرة أم قيس إلى الباقورة، حيث الأرض الأردنية "المستعادة"، قدم اللواء سهل قطاونة ايجازا عن مهمات القيادة العسكرية الأردنية الشمالية، التي تتبعها محافظات اربد، عجلون وجرش، حدد فيه مهمات القوات التابعة لهذه القيادة في الحفاظ على الأمن والإستقرار على الحدود، ومكافحة الإرهاب بكافة اشكاله، ومقاومة وإحباط كافة عمليات التسلل من وإلى الأراضي الأردنية، وضمان درجة عالية من الجاهزية القتالية، لافتا إلى أن "نعمة الأمن والإستقرار لا تقدر بثمن". وأكد امتلاك قواته أحدث الأجهزة والمعدات القتالية. وقال إن هذه القوات منفتحة على كل الجبهات المقابلة لها، ولديها تعاون أمني وعسكري مع سوريا، "لأن أمن سوريا من أمن الأردن، وأمن الأردن من أمن سوريا".

تاريخ مجيد

السهول المفتوحة، التي كنا نراها من أم قيس، تحكي صفحات من تاريخ عربي مجيد فهي شهدت معارك فاصلة في التاريخ العربي والإسلامي منها معركة اليرموك التي انهارت على اثرها الإمبراطورية الرومانية، ومعركة حطين التي قاد الجانب الإسلامي فيها صلاح الدين الأيوبي سنة 1187م، وقضى فيها على الصليبيين، حيث انتصر بخمسة وعشرين ألف مقاتل مسلم على اربعين ألف مقاتل صليبي. ومعركة عين جالوت للجنوب، وعلى امتداد الإنهدام الكبير، حيث انتصر فيها المسلمون بقيادة الظاهر بيبرس على التتار.



اللواء سهل قطاونة قائد المنطقة الشمالية

السهل الذي يقع أسفل أم قيس شهد حشد قوات صلاح الدين، الذي سيطر على بحيرة ومرتفعات طبريا، وجعلها خلف قواته ليحميهم من الخلف، وجعل من جيشه فكي كماشة، حيث سار بجيشه واضعا الخيالة في اليسار، وأشعل النار في المنطقة لتزيد من لهيب تموز/يوليو الذي يقول المثل إنه فيه "بتغلي المية في الكوز"، وذلك بهدف زيادة حرارة الجو، على نحو لا تحتمله قوات الصليبيين، وتزدادا معه حاجتهم للماء الذي هو تحت سيطرة قواته في بحيرة طبريا.

ولم يغب عن اللواء قطاونة لفت نظر الصحفيين إلى أن جيوش الإسكندر المقدوني وصلت مرتفعات أم قيس قبل ثلاثة قرون.

"الأرض المستعادة"

الهبوط من أم قيس عبر طرق ملتوية، إلى الغور الشمالي، حيث الشونة الشمالية، ومنها تتجه إلى الباقورة..الأرض الأردنية "المستعادة" بفضل اتفاقية السلام بين البلدين، غاية في الجمال، حيث الطبيعة كست الأرض الخصبة بالخضار..اعشاب وأشجار. أما منطقة الباقورة نفسها، فإن اخضرارها أكثر من مميز.

تبلغ مساحة "الأرض المستعادة"، والمصطلح للواء سهل قطاونة قائد المنطقة الشمالية، الذي لا يستخدم كلمة "المحررة"، 832 دونم. ويقول إنها كانت قبل ذلك مسرحا للعمليات، تغطيها حقول الألغام التي تم تنظيفها، واستصلاح الأرض وزراعتها. وهناك مشاريع أخرى لاستئناف نزع حقول الألغام في المنطقة بالتنسيق مع منظمات دولية.

في ذات المكان الذي وقفنا فيه عرفنا بعد مغادرته أنه هو عين المكان الذي أطلق فيه الجندي الأردني أحمد الدقامسة النار على فتيات اسرائيليات قبل عشر سنوات.

قتل ثمان منهن، لأنهن استهزأن بصلاته. وتقع المنطقة بكاملها تحت السيطرة الكاملة للجيش الأردني، ويسمح لمن يزرع المزارع المؤجرة في الباقورة من الإسرائيليين بدخول مزارعهم، والخروج منها في مواقيت محددة، بعلم وإذن القوات المسلحة الأردنية، وبموجب تصاريح خاصة تصدر عن الجيش الأردني، كما قال اللواء قطاونة. أما العسكريون الإسرائيليون فإنه لا يسمح لهم بالدخول مطلقا. والإسرائيليون الذين يستأجرون مزارع في الباقورة تنتهي مدة عقد الإيجار الخاص بهم بعد خمس وعشرين سنة من تاريخ توقيع معاهدة السلام..أي بعد اثنتي عشر عاما.

ولكن ماذا سيحث سنة 2019..؟

اللواء قطاونة يقول بغض النظر عما يمكن أن يحدث..أي ما إذا كان عقد الإيجار سيمدد العمل به أم لا، فإن الباقورة هي أرض تحت السيادة الأردنية الكاملة، التي يكرسها الجيش، نظرا للطبيعة الأمنية لجغرافية المكان.

يقابل الباقورة، وعلى مبعدة أمتار قليلة، نهر الأردن، حين تتوسطه الحدود بين البلدين، وخلف النهر باتجاه الغرب، يبدو الطريق الرئيس الذي يصل بيسان بالناصرة، ويمتد إلى طبريا والجولان. وعلى جنبي الطريق تظهر بشكل جلي طرق الدوريات الإسرائيلية التي تجوب المنطقة لتحول دون أي تسلل.

مشروع روتنبرغ

وإلى الجنوب قليلا، وفي طريق عودتنا إلى أم قيس حيث تناولنا طعام الغداء بدعوة كريمة من قيادة المنطقة الشمالية، في بلدة خالد بن الوليد، شاهدنا بقايا مشروع روتنبرغ..وهو مشروع بدأ تنفيذه سنة 1921 في ظل الإنتداب البريطاني على فلسطين، لتوليد الكهرباء من قوة اندفاع المياه في مجرى نهر الأردن، كي يزود شمال فلسطين بالكهرباء، وخاصة حيفا، وكذلك محافظة عجلون شرقي النهر داخل الأردن.

لقد انتهى العمل في هذا المشروع سنة 1938، غير أنه دمر بشكل كامل خلال حرب 1948. ووفقا لجندي رافقنا في رحلة العودة لأم قيس، فإن هناك فكرة الآن لإعادة تشغيل المشروع بعد أن تجرى له الصيانة الكاملة.

التعليقات